ليالي اللغة العربية في الإسكندرية

عمل متكامل نرجو أن يعمم على جميع جامعاتنا المصرية والعربية، لنؤكد للجميع أن لغتنا العربية حية نابضة متجاوبة مع أفكار الشباب وأحلامهم وتطلعاتهم.

حضرتُ الليلة السابعة من ليالي اللغة العربية التي يقدمها منتدى جامعة الإسكندرية للشعر والفنون، والتي أقيمت هذه المرة مساء السبت 14 أكتوبر/تشرين الأول على المسرح الكبير بمكتبة الإسكندرية، وندمتُ على أنني لم أحضر تلك الليالي من قبل والتي تُقام بصفة شهرية أو كل شهرين، ويحضرها جمع غفير من الطلبة وأعضاء هيئة التدريس والأدباء والشعراء والكتاب والمثقفون والفنانون وغيرهم في مدينة الإسكندرية والمدن المجاورة، وذلك تحت رعاية رئيس جامعة الإسكندرية الدكتور عبدالعزيز قنصوة.

لقد استشعر الجميع الوضع الخطير الذي تمر به لغتُنا العربية الآن، وتفشِّي العاميات المصرية، إلى جانب تسلل لغات ولهجات أخرى غير عربية، بل غريبة وهجينة، في أحاديثنا اليومية، وفي وسائل التواصل الاجتماعي، فأصبحت اللغة العربية غريبة اليد واللسان في مجتعنا العربي، بل أصبحت ثقيلة على القلب عند الكثير من شباب اليوم، فلم يستمتعوا - بما استمتعتْ به الأجيالُ السابقة - بأغاني مثل "الأطلال، وهذه ليلتي، وأراك عصي الدمع، وأغدًا ألقاك، وثورة الشك، ورباعيات الخيّام" وغيرها لأم كلثوم، و"رسالة من تحت الماء، وقارئة الفنجان، وحبيبها، ولا تكذبي، ويا مالكًا قلبي، ولستُ أدري" وغيرها لعبدالحليم حافظ، "وعدتَ يا يوم مولدي، وعشْ أنت، ولا وعينيك" وغيرها لفريد الأطرش، و"ليالي الشرق وكليوباترا والجندول ويا جارة الوادي وجفنه علَّم الغزل والنهر الخالد" وغيرها لمحمد عبدالوهاب، وغير ذلك من قصائد الفصحى التي غناها عشرات المطربين المصريين والعرب من أمثال محمد عبده وطلال مداح ونجاة الصغيرة وفايزة أحمد وماجدة الرومي وكاظم الساهر ولطفي بوشناق وسواهم في المشرق والمغرب العربي.

ناهيك عن المسرحيات الشعرية المكتوبة والمؤادَّة باللغة العربية الفصحى وكان الناس يتذوقونها ويتفاعلون معها، مثل مسرحيات أمير الشعراء أحمد شوقي: "مجنون ليلى" و"مصرع كليوباترا"، أو مسرحية "الوزير العاشق" لفاروق جويدة، وغيرها.

لم يشتك أحد في يوم من الأيام أنه لا يفهم مفردة في اللغة العربية عندما تتجلى في مثل هذه الفنون، بل أن الرجل الأمي أو البسيط كان يتفاعل مع قصيدة مثل "الأطلال" أو "هذه ليلتي" أو "لا تكذبي"، أو "اعطني الناي" أو "قولي أحبك" ويترنم كثيرا بها.

على مدى ساعتين من عمر الزمان، تحدث جميع المشاركين في "الليالي" باللغة العربية الفصحى الجميلة، فلغتنا بالفعل جميلة كما قال الشاعر فاروق شوشة في برنامجه اليومي "لغتنا الجميلة".

واستمع مئات الحاضرين بمسرح مكتبة الإسكندرية – في الليلة السابعة – إلى اللغة العربية الفصحى، ولم يشتك أحد – خاصة من الطلبة والشباب المشاهدين - من عدم فهم أي كلمة تقال سواء في القصائد المغنَّاة أو المسرحية القصيرة "الدب" لتشيكوف التي قدمت مترجمةً بلغة فصحى مبسطة يتخللها الفقرات الكوميدية التي تثبت أن لغتنا العربية الفصحى قادرة على الإضحاك والإدهاش أيضا، وأنها ليست لغة عابسة ومتجهمة وغير مفهومة، وقد سبق لأمير الشعراء أحمد شوقي أن كتب مسرحيته الكوميدية "الست هدى" باللغة الفصحى عام 1931، وكانت مسرحية شعرية، ما يثبت أن لغتنا الشعرية أيضا قادرة على صناعة الملهاة أو الكوميديا.

لقد بدأت الليلة بنشيد "اسلمي يا مصر" لمصطفى صادق الرافعي غناء كورال جامعة الإسكندرية، أعقبها قصيدة "ابتسم" لإيليا أبوماضي، فغناء قصيدة "هذه ليلتي" لجورج جرداق، فقصيدة "السراب" لمحمود نحلة، فقصيدة "عيناك ليال صيفية" لأنور سليمان، وهكذا تتوالى القصائد المغنَّاة من شباب يجيد الحديث والإلقاء والغناء بلغتنا العربية الفصحى، فنستمع إلى قصائد وموشحات لجبران خليل جبران، ونزار قباني، وأبوبكر زهر الأندلسي، وفؤاد عبدالمجيد، وفاروق جويدة، ومحمد مخيمر وأحمد عبدالمعطي حجازي.

ووسط فقرات الغناء والموسيقى والطرب، نفاجأ بمسرحية كوميدية قصيرة من ذات الفصل الواحد للكاتب الروسي تشيكوف تمثيل جنى أبوزيد، والحسين محمد وعمر الشهاب ود. ندى يسري.

وتنتهي الليلة بأغنية "يا أغلى اسم في الوجود" لتكون ليلة رائعة من ليالي اللغة العربية التي طالب البعض أن تكون لياليَ أسبوعية وليست شهرية أو كل شهرين، حتى تستعيد اللغة العربية عافيتها على ألسن الجميع، من خلال استعادتها في حفلاتنا وليالينا الطربية، كما طالب البعض أن تُذاع مثل هذه "الليالي" في محطات التلفزيون، وبثها على أكثر المنصات الإلكترونية شيوعًا لتصل إلى الفئات المستهدفة في أماكن وجودها ومن خلال أجهزتها المحمولة سواء التليفون أو الكمبيوتر.

لقد قامت د. نجوى صابر بالإشراف على برامج هذه الليالي وأعدت فقراتها، وقامت د. شريهان الحديني بقيادة كورال الجامعة، وقام أحمد سمير بإخراجها، فجاء عملا متكاملا رائعًا نرجو أن يعمم على جميع جامعاتنا المصرية والعربية، لنؤكد للجميع أن لغتنا العربية حية نابضة متجاوبة مع أفكار الشباب وأحلامهم وتطلعاتهم، وأنها لن تموت أبدا، لأنها لغة القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، لغة العلوم والفنون والآداب في جميع عصورها.