متى يعرف الأردنيون أعداءهم المخفيين

ربط الروايات الرسمية بالجهات الخارجية المبهمة يأخذها الى مزيد من الضعف والارتباك، وتكثر معها التأويلات والتفسيرات واحيانا الشطحات، ولا تغيب السخرية أيضا.
هل يوجد أعداء خارجيون يحيكون المؤامرات وينعمون بمسحة الغموض نفسها في كل مرة
لا بد من وقف الاعتماد على "الجهات الخارجية" المستترة التي يراد لها ان تستر ايضا ضعف الرواية الرسمية

من جديد، ثمة عدو خارجي يتربص بالأردن ويسعى الى النيل من سمعة الملك والمملكة، وذلك بعد ان ظهر عدو خارجي آخر قبل ستة اشهر أراد بث الفتنة من خلال التآمر على نظام الحكم.
هذا ما تقوله الرواية الرسمية عن اثنين من أهم الأحداث التي مرت على الأردن في السنوات الأخيرة وأكثرها حساسية، حيث ارتبطت مباشرة بالملك والعائلة الهاشمية وأثارت مخاوف على استقرار الأردن وأشبعتها وسائل الاعلام العالمية تحليلا وقراءة وتغطيات.
اعتاد الاردنيون بين الحين والآخر على سماع عبارات من قبيل "جهات مغرضة" و"أجندات خارجية" و"حملات تحريض" ضد المملكة، على ألسنة المسؤولين الذين لا يجدون حرجا او غضاضة في الحديث عن عدو مبهم يستهدف بلدهم. ولعل المسؤولين انفسهم لا يعرفون من هو هذا العدو او ممنوع عليهم الخوض في ذلك او انه غير موجود من الأساس.
مع اندلاع أزمة الفتنة في ابريل/نيسان الماضي، تسلطت الاضواء على "الجهات الخارجية" التي تآمرت مع ولي العهد السابق الامير حمزة لهز استقرار الاردن والتحريض ضد الحكم، وطبعا من دون الاشارة الى هوية هذه الجهات. 
ومع غياب اي معلومة موثوقة وبسبب العلاقة المتوترة آنذاك بين الاردن وحكومة بنيامين نتانياهو، تبادر الدور الاسرائيلي المحتمل الى الأذهان مباشرة ولكن دون اي تأكيد رسمي ربما بسبب غياب المسوغات المعقولة التي تتيح الربط بين طموحات الأمير حمزة وموقفه المعروف من القضية الفلسطينية.
وحين دار الحديث عن تدخل سعودي ممكن في "المؤامرة" بناء على ما يوصف بالعلاقات الفاترة بين المملكتين وقرب المتهمَين الوحيدين في القضية من الرياض، ايضا لم يؤكد او ينف اي مسؤول اردني هذا الدور الى ان رفض الملك عبدالله الثاني صراحة قبل حوالي شهرين في مقابلة مع شبكة "سي ان ان" الاجابة على سؤال حول احتمال تورط الرياض.
رغم ان السلطات قدّمت القضية على انها تهديد في الصميم لأمن البلد واستقراره، لكنها حرمت الأردنيين من حقهم في معرفة هوية هذه الجهات ومن يتزعمها ويحركها ضد مصالح المملكة وقيادتها.
هل يوجد أعداء خارجيون فعلا للأردن، يحيكون المؤامرات من وراء ستار وينعمون بمسحة الغموض نفسها في كل مرة، ام ان ثمة اعتقادا لدى السلطات بأن الرواية الرسمية للأحداث الفاصلة لا تكتمل ولن تكون مقنعة او محبوكة الا بالاشارة الى جهات خارجية معادية؟
ظهر عدو خارجي آخر هذه الايام، عندما انسحبت الأنظار الى عاصفة "أوراق باندورا" التي كشفت عن العقارات المملوكة للعاهل الاردني في الولايات المتحدة وبريطانيا والمقدرة قيمتها بحوالي 107 ملايين دولار. 
وقال الملك عبدالله الثاني بعد تسريب الأوراق التي تمثل ثمرة عمل صحافي استقصائي في رصد ملايين الوثائق المالية ان "هنالك حملة على الأردن، ولا يزال هنالك من يريد التخريب ويبني الشكوك. وهذه ليست المرة الأولى التي يتم فيها استهدافه".
وقبل ذلك سارع الديوان الملكي الى الرد على الاشارات حول سرية الممتلكات وسعى الى وضعها في سياق الخصوصية والاعتبارات الأمنية لا غير، الا انه لم ينف قيمة العقارات وأكد على ان الملك اقتناها من أمواله الخاصة.
وفي حين لم يسمع الأردنيون شيئا من قبل عن العقارات التي يشتريها الملك ولا عن قيمتها، اعتبر الديوان الملكي ان الامر "ليس جديدا ولا مخفيا" عن الناس. كما اعتبر الكشف عنها "تشهيرا موجها وممنهجا" ضد المملكة والملك بسبب مواقفه ودوره الاقليمي والدولي.
إذن، المخفي الوحيد هو ذلك العدو المتواري في غموضه خلف التصريحات الرسمية أو الماثل على شكل خيال في أذهان السلطات فقط.
يقيم الأردن علاقات طبيعية وتصالحية في الغالب مع مختلف دول العالم ومنها اسرائيل، عدوته السابقة، التي يرتبط معها بمعاهدة سلام موقعة منذ ثلاثة عقود. كما استطاع الصمود بعلاقات متوازنة حتى مع دول الاقليم المتخاصمة فيما بينها خلال الأزمات التي مرت بها المنطقة في السنوات الأخيرة.
الواقع ان ربط الروايات الرسمية بالجهات الخارجية المبهمة يأخذها الى مزيد من الضعف والارتباك، وتكثر معها التأويلات والتفسيرات واحيانا الشطحات، ولا تغيب السخرية أيضا.
ما هي الجهة المعادية التي ارادت استهداف الأردن من خلال توظيف الجهود الضخمة لمئات من الصحافيين الاستقصائيين الذين استطلعوا حوالي 12 مليون مستند مالي عن شركات الأوفشور التي تعمل في ملاذات ضريبية وكشفوا عن ثروات العشرات من زعماء العالم الحاليين والسابقين!
لا شك ان أزمة "أوراق باندورا" ينبغي ان تمثل تنبيها لأجهزة الحكم في الاردن نحو طريقة جديدة ومقنعة للرأي العام في التعاطي مع هكذا تسريبات، والتوقف عن الاعتماد على "الجهات الخارجية" المستترة التي يراد لها ان تستر ايضا ضعف الرواية الرسمية.
وقبل ذلك كله، لا بد من احترام عقول الناس ومداركهم وتعزيز مبدأ الشفافية التي صدع المسؤولون رؤوس الاردنيين بها بمناسبة ومن دون مناسبة. وكانت النتيجة غياب الشفافية التامة عن هوية الجهات الخارجية التي "تتآمر" على البلد وتشوه سمعة الملك.
يقول مثل صيني قديم "اعرف عدوك واعرف نفسك" ولن تتعرض للهزيمة في مئة معركة. وحين تجهل عدوك وتعرف نفسك تتساوى حظوظك في الربح والخسارة. لكن اذا لم تعرف نفسك ولا عدوك، فلا شك انك ستتجرع الهزيمة في كل معركة.