محمد الرقيق يقدم معرضا شخصيا وكتابا
الفن هذه الرؤى والتلوينات الفكرية والنفسية والجمالية التي تقول بالذات منطلقا ومقاما وفق نظر تجاهها والآخرين حيث القلق المعنون بالبحث مجال سفر ونشيد وتجوال بين العناصر والأشياء في كثير من الدهشة والأمل والحنين..
إنها لغة العلاقة بين الذات الفنانة وما قابلها قريبا وبعيدا في خطابها المعنون بالمعنى وتجلياته الشتى تقصدا للكيان في شؤونه وشجونه وحالاته المختلفة.. لغة تبتكر أسماءها وألوانها وهيئاتها الملائمة نحتا للقيمة ولعظمة السؤال.. سؤال الإنسان وهو يجترح ملامح كينونته وحلمه من جوهر التفاصيل في عالم متحرك ومربك ومتعدد الأبعاد والامتدادات يسع الإنسان وكائنات شتى يمنح الجميع شيئا من ألق المعاني وألمها..
وهنا تبدع الذات الفنانة وهي تبتكر عناصر لعوالمها ووجدانياتها وتجلياتها معلنة ضروب العبارة والقول الفني في المتاح وغيره من عوالم الفن وممكناته الجمالية والرمزية.. هي ذات قلقة في دأبها هذا نحو نظر مختلف للأشياء محلوم به تجاوزا وابتكارا وتناغما مع روح جديدة متجددة بالشواسع والأعماق لأجل حالات أبعد وأصعب وأبرز في جادة الفن الوعرة..
وماذا لو كان الفنان في دربه التشكيلي مغامرا في تخيره للأصعب في التعاطي الفني بعيدا عن الدارج والمألوف ضمن رؤيته القائلة بالطفولة الساكنة فيه، إذ يستبطن في ممارسته الفنية ومعالجته لأشياء ذاكرته الحية وذاهبا في استدراج الفن إلى أصداء طفولته ناظرا للراهن حيث الفن والإبداع التشكيلي في هذا التجلي من الإنصات للحاضر والقادم في سياقات متعددة من الفن ولاسيما الفن المعاصر..
نظرة للفن تطوع المفاهيم الجمالية إلى الإفصاح عن شراسة الصلة بين الفنان كحامل لقيم إنسانية جمالية وجدانية وحالة سلطوية متصلة بالصرامة والزجر وهنا تكمن القيمة الثقافية في النظر للأشياء في هذا المعيش..الفن هنا سعي نحو شفافية العبارة تجاه الحالة وكما هي.. شحنة من التشكيل تجاه شحنة من خطاب صارم ما جعل الفنان يشتغل بعنف ناعم في جمالية تجاه كل ذلك..
وهكذا نلج عوالم الفنان والباحث الدكتور محمد الرقيق الذي قدم أعماله الفنية في عديد المعارض بتونس وخارجها وأصدر مؤلفه في هذه المجالات من اشتغالاته الجمالية وهو حائز على الماجستير والدكتوراه من السربون بجامعة باريس بفرنسا، فضلا عن الجانب العلمي الأكاديمي المشتغل ضمنه بالجامعة التونسية وعضويته لسنوات بهيئة المهرجان الدولي للفنون التشكيلية بالمحرس من مدينة كما أنه أصدر كتابه بعنوان "السق الفنية المعاصرة والثقافة الربحية" نماذج من الفن المعاصر.
ذات معرض له وقبل أكثر من سنة بفضاءات متحف قصر خير الدين بمدينة تونس العتيقة وهو معرض خاص برزت الفكرة التي اشتغل عليها كفنان وناقد بعين إنسان أرهقته الأشياء الصادمة والصارمة في التواصل متخيرا استعاراته الفنية من مجالات البريد والزجر والمنع بخصوص الطرود والمراسلات المرفوضة والمغلفة بالمنع وما إلى ذلك في لعبة تشكيلية تحضر ضمنها تقنيات متعددة..
محمد الرقيق فنان اختار الاختلاف نظرا ومفهوما وابتكارا للقول بالفن وممكناته الأخرى ومنها الصارمة تجاه اليومي ومضامينه وخطاباته المثيرة والصعبة والحديدية أصلا.. إنها مغامرة فنان خبر مجالات الفن الشاسعة وممكنات البحث فيها عن المختلف والجديد والذي قد يتراءى ويبدو للآخرين مشغلا غير فني.. هنا تكمن حدة وعي الفنان في كيفية صياغة ممكنات ومناطق فنه وأسئلتها في كثير من تطويع فني بجماليات معبرة وقوية في مجسماتها..
في هذا الجانب هناك آراء تونسية وعربية بخصوص هذه التجربة للفنان محمد الرقيق وعلى سبيل الذكر يقول الفنان والدكتور خليل قويعة "يعتمد الفنان محمد الرقيق في أعماله الأخيرة على استعارة البريد (métaphore de la Poste) وما توقده في النّاظر من سيميولوجيا التّراسل والطّرود والعُبور والممنوع والمحظور والختم والتّأشير واللاّتأشير... كما يعتمد الفنان على إيقاظ قدرة العلامات، المطبوعة على الطّرود البريديّة، على التّبليغ، ومن ثمّة، التّعامل معها كنصّ مرافق للأيقونات البصريّة.. وعلى هذا النّحو، تكون منظومة العلامات مزدوجة، فهي مرئيّة (visible) وهي مقروءة (lisible) مثل القوام الغرافيكي للملصقات. إذ هناك تعاضد سيميولوجي بين العلامة المكتوبة والعلامة المرئيّة التي يقدّمها الفنان من خلال تقنيات مختلفة: فهي مُلصَقة وهي منحوتة أو مرسومة، فيما تتكوّن الرّسالة من تعاون متبادل بين الصّورة والكلمة. وها نحن، أمام العمل، نرى ونقرأ".
ويضيف "فما نراه ليس أكثر من طرد بريديّ مشفوع ببعض العلامات الجاهزة أو المبتكرة، المضافة إليه. ويحتاج الأمر إلى ربطه بما نقرأ، داخل وضعيّة إدراكيّة محدّدة ومعلَنة وهي المعرض، حتى يكون هذا 'الطّرد' عملا فنيّا. وأمّا ما نقرأ، فهو خطاب الممنوع والآمر المطلق الذي يمثّل تقنية السُّلطة في بسط سلطانها على المبادلات الدولية بين البشر وحظر بعض الإرساليّات والسّيطرة على الحدود وتأمين نفاذ القرارات القمرقيّة والمصالح الرّسميّة الأخرى وربّما حرس الحدود وغيره، وذلك عين ما نقرأه أو ما نتمثّله، من نوع: 'لا تتخطّى الـــ' و' TOP SECRET' و'محجوز رقم 1' و'محجوز رقم 2' و'ممنوع من التّداول' و'مطلوب دفع الرّسوم' و'لا يُفتَح إلاّ بإذن رسمي'...".
ويتابع "هكذا، يقوم العمل على التّكثيف الإيحائي من خلال توظيف الاستعارة، الرّمز، توجيه نظام الأيقنة، المفارقة، الصّدمة، التّعارض الدّلالي لعلامات متجانسة... وأحيانا، ربط دلالة البريد بتاريخ الفن (Postmoderne) في شكل لعب على الكلمات. وذلك باتّجاه تحميل العمل رسائل، لا تعتمد على مضمون 'جمالي- وجداني' (وإن كانت هذه التّجربة تؤسّس لجماليّة خاصّة على مستوى طرائق التشكيل والعرض الفني)، بقدر ما تعتمد على قدرة العلامة على الفضح والسّخرية والتّحسيس والتّلميح والتّضخيم وهتك الحُجُب والإثارة وإلفات النّظر إلى خطاب الممنوع والحظر والحجز ولغة الحواجز القمرقيّة...".
من جانب آخر، إنّ الفنّ يثير العجب ويستحثّ السّؤال ويستنهض الهمم باتّجاه تعاط آخر مع ظواهر اليومي، من داخل أفق نقدي يتّجه إلى وضع السّلوك السّلطوي والاستهلاكي محلّ نظر، هذا السّلوك الذي أدّى إلى تَشيُّءِ الإنسان. وكانت مدرسة فرونكفورت النقديّة قد موّلت الفكر الجمالي والنّظر الفنّي بإشكاليّات حارقة ساهمت في تنشيط التفكير وخلق جدل في هذا الاتّجاه التّحرّري، عسى أن يكون الفنّ "تعديلا" للعالم و"إعادة تأسيس للواقع" وإعادة رسم لخارطة التّواصل الإنساني الحرّ. والنّظر مستمرّ...
محمد الرقيق يأخذنا ضمن تجربته وفنه إلى قول جمالي آخر في عالم معولم تنطق أصواته في أغلبها بالمنع والزجر والصرامة حيث الكائن المحتاج أيضا إلى ما هو متخفف من الشدة والحسم والقوة والصرامة لأجل قيم التوازن والنعومة والهشاشة زمن الحديد اللغوي والعلائقي بين الأفراد والسلط والدول والشعوب ما أنتج عالما بلا قلب... علاقات وقوانين وموانع... بلا روح.. إنه الفن يكشف ويعري.. ويبدي صراخه القوي.. والمضاد.