مختارات فانتاستيكية من أميركا اللاتينية في 'الرجل الذي كبرت أذنه'

المترجمان سعيد بنعبد الواحد وحسن بوتكي ينتقيان مجموعة من قصص الإبداعية مكتوبة بالإسبانية والبرتغالية تمثل كل حساسيات هذا التيار الفني في كتابة القصة.

يحيل مفهوم الفانتاستيك على دلالات الغريب والعجيب والمدهش، ولكنه يشمل أيضا كل ما يطال اليومي والمعتاد من خلل واضطراب، ولكنه يشمل أيضا كل ما يطال اليومي والمعتاد من خلل واضطراب. وفقا لهذا التصور اختار المترجمان سعيد بنعبد الواحد وحسن بوتكي مجموعة من قصص مبدعي أميركا اللاتينية مكتوبة بالأسبانية والبرتغالية. المختارات حملت عنوان "الرجل الذي كبرت أذنه.. قصص فانتاستيكية من أميركا اللاتينية"، وهي تمثل كل حساسيات هذا التيار الفني في كتابة القصة.

ومن الكتاب الذين ضمتهم المختارات ليوبولدو لوغونيس، وماثيدو فرنانديث، وخورخي لويس بورخيس، وكارلوس دونوسو، وأكتافيو باث، وخوليو كورتاثار، وجوليو سيزار مونتيرو مارتنس، وماريو بينديتي وإدنوديو كينتيرو، أوغوستو مونتيروسو، وخوسيه دونوسو.

 وقد أوضح المترجمان في مقدمتهما للمختارات التي صدرت أخيرا عن دار خطوط وظلال، أهم مميزات القصة الفانتاستيكية في أميركا اللاتينية في هذه الخصائص العامة: أولا واقعية الفضاء ونسبه الصريح للفضاء الواقعي زمانا ومكانا؛ لا مجال في القصة الفانتاستيكية لفضاءات مثل السماء والكواكب والأراضي المتخيلة، مما يطالعنا مثلا في القصص الخرافي أو الأسطوري أو قصص الخيال العلمي. ثانيا الحاضر على مستوى الزمن: الحاضر لا بالمعنى النحوي وإنما بالمعنى التاريخ؛ أي حاضر الإنسان الحديث المتسم بالقلق والتوتر العائش في جدلية الفراغ والامتلاء، إن قصة تبدأ بعبارة "كان يا ما كان" لا يمكن أن تكون فانتاستيكية، بل تدخل في باب العجيب والغريب. ثالثا أثر القراءة الذي تنتجه هذه النصوص قائم على آلية التردد والتذبذب بين التقبل والاستغراب. كما يتحدث عنها تزفيتان تودوروف في تعريفه للأدب الفانتاستيكي. فتيمات الفانتاستيك تضعنا في منظور يعطي الأولوية لنشاط تحويلي يدرج في منطق الواقع والتجربة الطبيعية والعقلية منطق ما فوق الطبيعة وما فوق العقل. رابعا الرابطة القوية بين الحكاية والفانتاستيك، فالحكاية هي حامل الأثر، الفانتاستيكي وهي عنصر أساس في قصص هذا المختارات.

والفانتاستيك الذي يطالعنا في هذا المختارات ـ وفقا للمترجمان ـ ينتسب إلى أعراق سارية في الأدب العالمي. فمنها ما يمتح من التخييلات القائمة على فكرة الازدواج ذي الطابع السيكولوجي، ومنها ما يطور فانتاستيك الفكرة الميتافيزيقية ذات الطابع الفلسفي أو الغنوصي، ومنها الفانتاستيك المنطبع بخصوصيات قصص الرعب حيث ينبثق الأثر من الأحلام الكابوسية ومن الرؤى المؤلمة، ومنها الفانتاستيك المنطبع بخصوصيات الغروتيسك والاستيهامات حول الجسد وانزياحاته عن الإدارة، راسما مصائر جديدة ومستغربة.

ويلفت المترجمان إلى أن هذه الباقة من القصص الفانتاستيكية تحمل النبرة الأميركية اللاتينية التي لا تخطئها حواس القراءة. وربما كما تكمل لنا هذه النصوص صورتنا عن عبقرية القصة في هذه الجغرافية الأدبية الغنية بروافدها الثقافية واللغوية المتنوعة. فنحن نقف، من جهة، على أجواء وفضاءات عهدناها في قصص أميركا اللاتينية، وعلى تحقيق معادلة فنية هي ربما جوهر الفانتاستيك القصص، فلا تسقط في العجيب العتيق، عجيب الحكاية من جهة، كما تتفادى السقوط في الأليغوريا أو القصة الأمثولة المحملة بالأخلاقية المباشرة. وهي بتلك المعادلة تمثل مستويات فنية عالية من الواقعية القصصية. وفي هذا السياق قال أوغوستو مونتيروسو، مثلا، إن خوان رولفو كاتب فانتاستيكي لأن شخصياته الواقعية جدا تبدو مثل الأشباح المتحركة في عالم غريب.. لكن من يستطيع بسهولة تصديق مونتيروسو؟ كأن القصص الرائعة دائما فانتاستيكية، وكأن الفانتاستيك هو أعلى دجة الواقعية الفنية.

إدنوديو كينتيرو ـ فنزويلا

صور عائلية

"وهذه صورة ابننا الوحيد الذي مات عشية عيد ميلاده الخامس".

باردة مثل سكاكين، شقت كلمات المرأة العجوز هواء الممر، وعلى الفور، ودون أن تعطيني فرصة لأسترجع أنفاسي، أو على الأقل لأتكئ على كرسي، صدرت جملة أخرى من ذلك الخطم الحاد: "ستدرك يا سيدي أن الأمر يتعلق بخسارة لا تعوض بالنسبة لزوجين في الأربعين؛ لكننا لم نستسلم؛ حاولنا ولم نفلح. منذ ذلك الحين، وهبنا أنفسنا ليلا ونهارا للعناية بذكراه.

وبينما هي تتكلم، كانت العجوز تدع أصابعها الصفراء تنزلق فوق الصورة. تخيلت كثيرامن السخط في تلك اللمسة المطولة. بحثت فلم أجد أثرا للألم على سطح ذلك الوجه الذي شحب حتى كاد أن يصبح شفاف. حائرا أطلت على ضفاف عينيها الرماديتين، ولم أستطع أن أرى سوى وجهي يسبح في بئر من المياه العكرة.

مذهولا ابتعدت عن الممر ثم وقفت لحظة وأسندت ظهري إلى شجرة ليمون وأنا أتامل تراكم السحب على الهضبة التي أمامي . لونها الرمادي المائل إلى الزرقة ينبئ بعشية ممطرة. وكان الوادي الذي يجأر في أسفل السفح، والمحمل بجذوع أشجار وبنعاج وبآلاف من الأوراق اليابسة، قد تحول إلى حاجز يمنعني من الهروب: الجسر الوحيد الموجود جرفه الفيضان بعد نصف ساعة من وصولي. هكذا، إذن سأجدني مجبرا على قضاء الليلة ونهار الغد وليلة أخرى تحت سقف مستشفى المجانين ذلك.

بلغ تفكيري لحظة أن العجوز كانت تهذي، استبعدت هذه الفكرة وعوضتها بأخى أكثر اطمئنانا؛ لأنها تريد أن تقبل تقديم عماها، كانت العجوز تتصرف بطريقة طبيعية، وهو السبب في أنها لم تكن تستطيع أن تميز بين المستوى الأول لصورة كلب رعي وبين صورة ابنها الوحيد، الميت عشية عيد ميلاده الخامس.

اشتد المطر، تجولت أنا وكأني وحش في قفص بالممرات والصالات والغرف، وتمكنت من رؤية كمامات، وسلاسل، وأطواق وتماثيل من طين، وأقنعة وأشكال من إسمنت، وصور مكبرة، ورسوم، ومنقوشات... ضاعف تراكم رموز تلك الطقوس العائلة الغريبة حيرتي. لو كنت قد نمت تلك الليلة لكان نومي مجازفة، استشعرت بأنني ما أن أغلق عيني حتى يدخل قطيع متهاطل من كلاب الرعي من النافذة، ويمزق بأنيابه وعضاته أحب صور حلمي إليّ.

اشتغلت بتفكير حاد، كانت نتيجة لليالي البيضاء، في البحث عن تفسير مرض لمسألة الكلاب، اهتديت إلى احتمالين اثنين. الأول: الزوجان، أمام استحالة أن يكون لهما  أبناء، قررا تبني كلب. الثاني: المرأة ولدت الكلب فعلا. وفي كلتا الحالتين، كان الموت نهاية لائقة.

نهضت باكرا جدا، جائعا وتعبا، وأنا مستعد ألا أترك الجنون يتملكني انتظروا، لا تنصرفوا. هناك احتمال ثالث لمحته عندما بدأنا ننبح في نهاية وجبة الإفطار.