معرض استعادي يعيد إحياء عالم عبدالحميد بعلبكي
بيروت - يعيد معرض تكريمي في بيروت إحياء عالم الفنان اللبناني الراحل عبدالحميد بعلبكي الذي دمّرت الحرب الأخيرة في لبنان منزله وقسما من نتاجه التشكيلي في قريته المتاخمة للحدود مع إسرائيل، بعدما كانت البلدة والحرب ومجتمعه مَحاور لأعماله.
ويسترجع هذا المعرض الذي يفتتح الخميس ويستمر إلى غاية الثامن والعشرين من سبتمبر/أيلول المقبل بمبادرة من متحف سرسق، مسيرة عبدالحميد بعلبكي (1940-2013) الذي رسم بواقعية تعبيرية مآسي الحرب وقضايا الإنسان وعائلته وبلدته العديسة التي أحبها.
وقالت مديرة متحف سرسق ومنسقة المعرض كارينا الحلو لوكالة فرانس برس "بعدما شهدنا في الحرب الأخيرة ما تعرّض له منزل الفنان بعلبكي من تدمير، أردنا أن يكون لنا دور في تكريم الفنانين اللبنانيين ليس فقط في أفراحهم بل أيضا في أحزانهم"، مضيفة "نجتمع اليوم من خلال عمله، حول الفن وليس الدمار".
ورأى نجل الرسام الراحل الفنان التشكيلي أسامة بعلبكي أن المعرض تحية إلى والده الذي اشتهر في سبعينات القرن الماضي "ومن خلاله للإرث المنتهك ولكل الذين تعرضوا إلى خسائر في الجنوب".
وتوزعت في صالتين من الطبقة الأولى لمتحف سرسق ثلاث جداريات و50 لوحة زيتية ومجموعة من 20 رسما ورقيا عنوانها "الأشجار الميتة" ميزت عمل بعلبكي في التسعينات، وهي أعمال اختيرت من مجموعات خاصة.
ويُعرض شريط فيديو يضم مقابلات لمقربين منه، في ما تستريح مجموعة من الكتب الشعرية والتراثية التي ألّفها، إلى جانب شاشة صغيرة تتوالى عليها صور فوتوغرافية من أرشيفه الخاص وقصاصات لمقابلات صحافية أجريت معه. وعلى رفّ آخر مجموعة من الكتب القديمة والنادرة التي كان يجمعها.
ويدخل الزائر عالم عبدالحميد بعلبكي بمشاهد رصدتها ريشة الفنان، تحكي قصص بيروت من "القبضاي" (أي القوي) إلى بائع البطيخ. ويلامس الراحل في رسم النظرات الحزينة وجع الإنسان، كما في لوحة "الرحيل" وفي عيون أخرى، يتجلى الحلم، كما في لوحة الأم التي تروي قصة لابنها.
وغمس عبدالحميد بعلبكي ريشته بألوان طبيعة منطقة جبل عامل التي فتح عينيه عليها وحلم في أرجائها، إذ تقع فيها بلدته في جنوب لبنان.
وشرح أسامة الذي ورث روح والده الفنية "رسم أبي مناخات المنظر الطبيعي بنكهته الجنوبية وهو من رواد من رسم هذا الإقليم الذي تميزه الألوان والضوء وطبيعة تغلب عليها الهضاب والمنحى الأجرد مما يجعل التشكيل اللوني متنوعا".
وتتوزع الوجوه المفجوعة والجثث الممددة والبيوت المدمرة والأشجار المحروقة وطائر البوم الذي ينذر بالشؤم في فضاء جدارية عنوانها "الحرب" رسمها بعلبكي الأب عام 1977 في المرحلة الأولى من الحرب اللبنانية.
ولاحظ فيها أسامة "تصورا فجاعيا للحرب نتيجة الصدمة التي عاشها جيل عبدالحميد بعلبكي مع بداية الحرب اللبنانية التي أحرقت كل شيء وأحرقت لبنانهم القديم"، مشيرا إلى أن لها مكانة خاصة بين بقية الأعمال التشكيلية التي أنتجت خلال الحرب.
وذكّر بأن الصحافة أطلقت على هذه اللوحة اسم "غرنيكا الحرب الأهلية" تيمنا بلوحة الفنان الإسباني بابلو بيكاسو "غرنيكا" المستوحاة من الحرب الأهلية الإسبانية.
وهذه اللوحة "تنقلت كأنها كائن حي هجرته الحرب" رغبة من بعلبكي في الحفاظ عليها، على ما روى نجله، مضيفا "كان يضعها عند أصدقائه (…). وفي العام 1993 أعدناها إلى بيتنا في بيروت"، قبل أن تقتنيها مجموعة مصرفية كبيرة.
وبعد وفاة عبدالحميد بعلبكي عن عمر 73 عاما، نقلت العائلة الجزء الأكبر من لوحاته إلى بيروت. وروى أسامة أن بعلبكي الأب تراجع اهتمامه بالرسم بسبب انشغالاته الكثيرة "إذ كان في ترحال دائم وتهجُّر من منطقة إلى منطقة منذ طفولته حتى وفاته حيث استقر في الربع الأخير من حياته في العديسة التي استوعبت إرثه المتراكم على ضخامته".
لكنّ "الحرب تجرف وبلمح البصر جهود أجيال"، على قول الابن، فالجيش الإسرائيلي عمَد بين سبتمبر/أيلول ونوفمبر/تشرين الثاني الماضيين، خلال حربه مع حزب الله، إلى "تفجير منهجي" لأحياء وقرى "دُمرت أو أحرقت وتحولت أرضا غير قابلة للعيش" بحسب الرسام الأربعيني، ومن جملتها المنزل الأندلسي الطراز الذي شيده الفنان عام 1984 وفي حديقته ووريَ رفاته ورفات زوجته.
وسعى بعلبكي وهو أب لثمانية أولاد ومن بينهم، إضافة إلى أسامة، كلّ من المغنية سمية والمايسترو لبنان، إلى أن يكون منزله أقرب إلى مركز فني وثقافي في المنطقة ويحتوي على الكثير من الأعمال الفنية ومكتبة ضخمة وتحف وأغراض قيمة"، لكنه أصبح اليوم مجرّد تلة ركام.
ولم يبق من المنزل - المتحف سوى ذكريات، وبحسب الرسام الذي نشأ في أجواء المكان ويعرف جيدا محتوياته أن التفجير أتلف عشرات الأعمال الزيتية لوالده ولوحات لفنانين آخرين، ومجموعة من ثماني منحوتات وعشرات الرسوم بالحبر إضافة إلى مكتبة تحوي آلاف الكتب والمجلدات، من بينها طبعات نادرة.