مقاطعة الخدمات "المفرنسة" في المغرب احتراما لسيادة دولة القانون

التمسك باستخدام اللغة الفرنسية في المغرب لا يوجد له ما يبرره، لا سياديا ولا عمليا.

لغة فرنسا في المغرب، ونحن في 2018، وبعد نصف قرن على الانعتاق من الاستعمار الفرنسي الذي دام أربعة وأربعين عاما، لا تزال لغته تشكل ثقلا من الماضي أكثر بكثير منه انفتاحا على المستقبل. ذلك مرده أولا إلى التراجع الكبير لمكانة هذه اللغة دوليا، وثانيا رغم كونها لغة أجنبية غير أنها لاتزال تحافظ على وضعها كما كان عليه الشأن خلال الحقبة الاستعمارية، إن لم نقل زادت شراسة.

لقد عرفت هذه اللغة تغولا في جميع مناحي الحياة المغربية العامة، واتخذت طريقة فرضها على شعب عربي بمكونات اثنية أخرى أقرب في ثقافتها وتعبيراتها إلى العربية، لغته الرئيسية واليومية والتاريخية هي العربية، اتخذت تلك اللغة الأجنبية الوافدة على المغاربة من خلال الاستعمار، شكلا اقصائيا لا يحترم طبيعة المجتمع المغربي وخصوصياته، إن لم نقل شكلا عنصريا احتقاريا بعقلية استعمارية لا تعترف بسيادة لغوية ولا بحق شعب مستقل في معاملته بلغته الفصحى داخل بلده أو باللهجات المستعملة بين أفراده.

لغة فرنسا هذه، لا تكتفي بفرض نفسها ضيفا ثقيلا منبوذا في إدارات القطاعين العام والخاص وفي مختلف المرافق العمومية باستثناء المساجد، وأخذ المكان الطبيعي للغة العربية، بل إنها، وبكل بجاحة تعطي لنفسها الحق في اختراق بيوتنا وفرض نفسها أداة للتخاطب معنا عبر التلفزيون الوطني بمختلف قنواته والذي هو حتى هذه الساعة في ملكية المغاربة وليس الفرنسيين بكل تأكيد، فهؤلاء المغاربة هم مصدر تمويله الأساسي.

فعندما تفتح التلفزيون، تُطالعك برامج مغربية، على القناة الثانية خصوصا، وبدلا من أن يستعمل مقدموها لغة أصحاب القناة الفعليون، يلجأ هؤلاء المعدون والمشرفون إلى لغة شعب آخر لا علاقة له ببرامج هذه القناة، ولا يشاهدها، أو حتى يعرف بها أصلا، بشكل يجعلك تتساءل، بأي منطق أو عقل يتركون لغة ملايين المغاربة ويستعملون لغة لا يجيدها سوى أقل بكثير من 10 بالمائة وفق الإحصاء الرسمي، في برامج يمولها المغاربة وموجهة حسب دفاتر التحملات السنوية للمغاربة. بل نقول وفق أي قانون يفرضون على المغاربة لغة أجنبية غير قانونية في تلفزيوناتهم الرسمية إذا كان رأي الدستور محسوما مسبقا بما أنه لم يأتِ على ذكرها في فصوله.

إن المرء لا يجد سوى أن يستنكر هذا الانتهاك القانوني والحقوقي وحتى الدستوري الخطير والفظيع والمتكرر والذي تجاوز كل حدود المنطق والعقل بل وحتى الصبر، بما يمثله أيضا إلى جانب ضرب حق المغاربة في تلفزيونهم، تبذيرا للمال العام، حيث أن عشرات البرامج يتم إنتاجها من المال العام بينما لا تشاهدها سوى القلة القليلة بدليل بيانات مؤسسات تتبع المشاهدة، وهو ما يوجب طرح السؤال حول الرقابة على المال العام في المؤسسات الإعلامية الحكومية ومدى استفادة عموم المغاربة منه في شكل خدمات إعلامية..

تجدهم يصرون بشكل عجيب على فرنسة هذه البرامج في مقابل تهميش لغتنا العربية البديعة بأساليب غاية في الرجعية، حيث أنه إذا كان عدد الفرنسيين المتواجدين بالمغرب منذ عهد الانتداب إلى غاية السبعينات يُقاس بعشرات الآلاف، فإنهم اليوم لا يتعدون آلاف حسب الإحصاء الأخير، ما يجعلنا نوجه اتهاما صريحا إلى هذه الجهات التي تتحكم في صناعة السياسيات اللغوية والتواصلية في مؤسساتنا الوطنية، بأنها تذكي في نفوس المغاربة ذلك الشعور المقيت بالإحباط مع ترسيخ الإحساس بالتبعية للآخر وبالانكسار أمامه وهو ما ساهم في خلق شخصية مغربية – لا نعمم – هشة منبهرة بكل ما هو فرنسي في مقابل تهميش اللغة العربية وكل ما يتعلق بها.

أستغرب كلما صعدت إلى عربات الترامواي سواء في الدار البيضاء أو الرباط، من كل ذلك الحرص على الالتزام بتعاليم وأعراف تلك الازدواجية في لغة التواصل، التي جعلتنا نخجل من أنفسنا كراكبين، إذ كل جملة باللغة العربية تذاع عبر مكبرات الصوت، لا يمكن أن تمر، إلا وتلتها ترجمة حرفية، حينها أجد نفسي ألتفت ذات اليمين وذات الشمال والى الخلف ثم أتطلع أمامي فلا أجد من المائتي ألف راكب يوميا في هذه العربات حسب بيانات سلطات الدار البيضاء، لا أجد سوى المغاربة ولا أسمع في حواراتها ودردشاتهم سوى لغتنا الرسمية. هذا الوضع له تفسير واحد، وهو تفسير يتلاقى مع العلم، ويمكن وصف هذه الإشكالية بـ"الفوبيا" أو الخوف من أن يكون هنالك فرنسي بيننا فلا يفهم ما نقول.. وكأن الرعب من الذات الفرنسية الذي ساد خلال الاستعمار لازال يعشش في هذه النفوس.

لا يزال الاعتقاد بأن كل أجنبي فرنسي يخيم على تفكير هؤلاء، وهم حتى اليوم لم يستوعبوا بأن تركيبة الأجانب في المغرب قد تغيرت بشكل جذري، وأن من هم من جنسيات فرنسية أصبحوا يمثلون الأقلية وسط الأجانب في هذا البلد، وهو ما يحتم إعادة النظر في لغة التواصل مع الأجانب وذلك باعتماد لغة العالم الواسع بدل الحيز الفرنسي الضيق.

في تركيا مثلا، ورغم أن اللغة التركية لا ترقى إلى اللغات الأكثر تداولا دوليا، غير أن لغة الخطاب تقريبا الوحيدة في هذا البلد، هي لغة الأتراك دون سواها، علما أن الفارق بين مستوى التعليم في تركيا ونظيره في المغرب شاسع جدا، وأن نسبة المتعلمين هناك عالية. فالأتراك الذين يعتزون بلغتهم، شأنهم في ذلك شأن الايطاليين والأسبان والفرنسيين والهولنديين وغيرهم من الشعوب المتحضرة والمتقدمة، يقولون، بأنك ما دمت في بلد ذي سيادة، فأنت كأجنبي مرحب بك لكننا لسنا على استعداد لصناعة ازدواجية لغوية في التواصل في جميع المجالات العامة، بما أن الدولة تتوفر على مراكز لتعليم لغة البلد للمقيمين الأجانب ومترجمين ودلائل سياحية للسياح الوافدين مقابل نفقات مالية يتحملها سيادتك.

لا أدري بأي منطق ووفق أي مبدأ إنساني ووطني يتم إلغاء اللغة الأوسع انتشارا في المغرب وتعويضها في العديد من المجالات العامة التي تمس المواطن بشكل مباشر، بلغة أجنبية لا يحس معظم المغاربة بأي انتماء لها، كما لا أخفي القول بأني كنت دائما من الناقمين على هذا الوضع الذي لا يتماشى مع حقوق الإنسان ومع دولة الدستور والقانون والمؤسسات، وخلال سنوات من متابعة والانخراط في هذا النضال/الصراع مع هذه اللغة التي أُبعدت كثيرا عن دورها الإنساني كوسيلة للمساهمة في تلاقي حضارتين، لتتحول إلى أحد أشكال الاديولوجية الاستعمارية الاقصائية المنافية لروح الوحدة الوطنية، اليوم، لم تعد قضية تعريب الحياة العامة ومواجهة تغول هذه اللغة/الأيديولوجيا مسألة مجتمع مدني مطالب بحق المغاربة من الاستفادة من جميع المعلومات والخدمات بلغته، وإنما اتخذت منحى لم أتصوره يوما، بأنها أصبحت قضية الجهاز القضائي المغربي والذي دخل على الخط بانحياز واضح لعدالة هذه القضية والتي هي قضية ذات بعد وطني بامتياز. إذن هل سنساعد القضاء في هذه المهمة وذلك بمقاطعتنا لكحل استعمال غير عقلاني وغير قانوني لها.