ملابسات خروج سعيد بكر من 'فيافي' الرواية بجائزة الدولة

الأديب السكندري لم يصدق الخبر في بداية الأمر بسبب شبهات كانت تحوم حول الجائزة ولجان التحكيم جعلته يستبعد نفسه وعمله من قائمة الفوز لكونه من أدباء الظل.

في عام 1993 فاز الأديب السكندري سعيد بكر (1947 – 2008) بجائزة الدولة التشجيعية في الآداب عن روايته "الفيافي" التي كتبها عن سنوات غربته خلال فترة الثمانينيات. وتعد هذه الرواية "صورة للعصر الذي نحياه حيث صارت النفس الإنسانية أشد قسوة من الصحراء الحقيقية، الأمر الذي أدَّى إلى اندحار قيم الخير والحب والجمال والسلام، رغم التقدم المادي والحضاري الذي بلغه إنسان هذا العصر" على نحو ما ذهب إليه الناقد عبدالله هاشم.

عمل سعيد بكر مدرسًا في مدينة أبها السعودية، وقد طالع خبر فوزه بجائزة الدولة التشجيعية أول ما طالعه في جريدة "الرياض" فلم يصدق الخبر في بداية الأمر، رغم أنه تقدم بالفعل بروايتيه "الفيافي" و"وكالة الليمون" للمجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة للحصول على الجائزة، ولكن الشُّبهة التي كانت تحوم حول الجائزة ولجان التحكيم، جعلته يستبعد نفسه وعمله من قائمة الفوز لكونه من أدباء الظل الذين يعيشون بعيدًا عن أضواء العاصمة.

ولكن تواتر الأنباء والأخبار بالجرائد المصرية والسعودية جعل سعيد بكر على يقين من فوزه بالجائزة، ولكنه على الرغم من ذلك لم يسافر خلال أجازته الصيفية – في ذلك العام – إلى مصر، ليتسلم الجائزة، وظلَّ موجودًا في أبها فافتقد بذلك كثيرًا من الضجيج أو الوهج الإعلامي الذي يُثار دائما حول الفائزين بمثل هذه الجائزة التي تضاعفتْ قيمتها المادية خمس مرات بدءًا من العام التالي لفوز سعيد بكر.

سبق سعيد بكر فوز بعض أدباء الإسكندرية بتلك الجائزة، نذكر منهم: الروائي محمود حنفي (1982)، والروائي حجَّاج حسن أدّول (1990).

يكشف سعيد بكر عن مشاعره عندما عرف خبر فوزه بجائزة الدولة التشجيعية بروايته "الفيافي" قائلا: لم يخطر في بالي أنني سأفوز بالجائزة عن إحدى الروايتين اللتين تقدمت بهما. فقد صاحب التفكير في الجائزة بعض الشائعات التي كانت تتردد عقب إعلان النتيجة مما حدا بي أن أفكر كثيرًا في التقدم إليها. هذه الشائعات رسَّبت داخلي الإحساس بأنني لن أحصل عليها مطلقًا، أنا وكل الذين يعيشون خارج القاهرة، والبعيدون تمامًا عن وسائل الإعلام. ومرد هذه الشائعات التي كان يروجها الذين لم يفوزوا بها، إحساسهم بالفشل لعدم حصولهم عليها، وتقدمتُ لكي لا يصيبني الندم يومًا بأنني تقاعست، ولكي لا أضيع الفرصة على الروايات التي يمكنني الاشتراك بها لانتهاء المدة المسموح بها لهذه الروايات.

وجاءت رحلة العمل في مدينة أبها لتنسيني تماما الجائزة، والتفكير في الفوز أم لا. لم أعد أشغل نفسي بها فقد أحسستُ بالرضا، لأنني تقدمتُ للجائزة وحسبي هذا.

ولكن في يوم لن أنساه، طالعني خبر فوزي بجائزة الدولة منشورًا في جريدة "الرياض". لم أصدق نفسي أو أصدق عيني، هل خابت كل ظنوني وشكوكي في الجائزة وفي لجانها. لقد جاء فوزي تأكيدًا وتكذيبًا لكل الشائعات والشكوك وأثبتت اللجنة القائمة على شئون الجائزة بأنها نزيهة خاصة وأن هناك من المنافسين عليها من لهم سطوة كبيرة في الوسط الأدبي في القاهرة، ميولهم وسطوتهم المعرفية (الشللية) معروفة. وحمدتُ الله كثيرًا لأنه مازال في الوسط الأدبي أناس محترمون ونزيهون لا تأخذهم في الحق لومة لائم، ورغم القيمة الأدبية للجائزة، فإن قيمتها العظيمة بالنسبة لي هي إعادتها الثقة المفقودة في نفسي وفي الوسط الأدبي على ما فيه من مثالب.

قلت له: حدثنا عن "الفيافي"؟

بعد انتهاء إعارتي للمملكة العربية السعودية، عدت إلى موطني الإسكندرية وأنا خالي الذهن تمامًا عن المنطقة التي عشت فيها قرابة أربع سنوات، وأمضيت في الإسكندرية عامين أستعيد فيهما نفسي بعد غيابي هذه المدة الطويلة، وأسترد فيها حياتي السابقة ونشاطي الذي توقف بمغادرتي لها للعمل خارجها. ولكن بعد الاستقرار النفسي نبضتْ في رأسي ملامح المكان الذي قضيت فيه مدة إعارتي. قفزتْ إلى مخيلتي وجوه أعرفها، بعضها أحببتها، والبعض الآخر وقفتُ منه موقفُا محايدًا.

وسيطرت الصحراء بكل ما رأته عيناي فيها على أفكاري ووجدت نفسي أكتب رواية "الفيافي". لم تكن الملامح واضحة في البداية، ولكنها راحت تتبلور وتأخذ سماتها الفنية داخل العمل.

في بداية الأمر كنت أظن بأنني بصدد كتابة قصة قصيرة، ولكن الأمر اختلف كثيرًا، وأنا منهمك في الكتابة، ثم توقفتُ عن الاستمرار فيها لأسباب أجهلها. هل هي لحظات الوعي التي ترتب وتنظم الأشياء؟ وبدأت أكتب ما يصل إليَّ من أفكار تباعًا وفي فترات متقطعة حتى استغرقت الرواية عاما كاملا، ووقفتُ منها موقف المتشكِّك، فالرواية كانت غريبة عليَّ أيضا عن أعمالي السابقة. ورحت أعرضها على الأصدقاء لأعرف رأيهم فيها. وكانت المفاجأة لي فقد أبدوا إعجابًا كبيرًا بها، مما شجعني لأقدمها مطبوعةً للقراء والأصدقاء الذين أرسلوا لي يهنئوني عليها. وقد أعرب بعض النقاد بأنها أفضل رواية صدرت في حينها (1990) ورغم هذا فإنني لم أكن أتوقع أن تفوز "الفيافي" بجائزة الدولة التشجيعية للأسباب التي ذكرتها سابقا.

وللحديث عن الرواية ذاتها حسبي أن أذكر الكلمة التي كتبها الناقد عبدالله هاشم والمنشورة على الغلاف الأخير "المكان هو بطل هذه الرواية.. الصحراء القاسية التي طبعت قسوتها على نفوس أبطال الرواية، ومن يحاول أن يغير أو يقاوم هذه الطبيعة القاسية تقتله هذه الصحراء ماديًّا في صورة الجمل، ومعنويًّا في بطل هذه الرواية، إنها صورة للعصر الذي نحياه، فرغم التقدم المادي والحضاري فإن قيم الخير والحب والجمال والسلام قد اندحرت. لقد صارت النفس الإنسانية أشد قسوة من الصحراء الحقيقية".

هل ترشح أحدا من روائيي وقصاصي جيلك للفوز بالتشجيعية في العام القادم إن شاء الله؟

ـ في حقيقة الأمر أن جيلي أو ما يُطلق عليه جيل "السبعينيات" يستحق وبجدارة جائزة الدولة التي تأخرت كثيرًا عنه. وأنا أعتبر فوزي بالجائزة هو فوز لهذا الجيل الذي يعاني الكثير، ولا يزال يعاني من التجاهل الإعلامي، والتعامي عن منجزاته، وإن كان ولا بد أن أرشح من سيفوز بها في العام القادم، فهناك أسماء مثل: مصطفى نصر، وأحمد حميدة، وسعيد سالم، وغيرهم كثيرون، ولكن المؤشرات تؤكد أن الفائز بها في العام القادم هو إبراهيم عبدالمجيد (لم يفز بها إبراهيم عبدالمجيد في ذلك العام).

بصراحة هل الجائزة أنصفتك كمبدع، وهل التفت إليك أو إلى أعمالك النقاد والقراء بعد الفوز، أم أن غيابك عن مصر الآن يجعلك أيضا بعيدًا عن النقاد والقراء؟

ـ يقولون في المثل الشعبي، "البعيد عن العين .. بعيد عن القلب". لا شك أن غيابي عن الوسط الأدبي في مصر، قد أثَّر تأثيرًا كبيرًا من حيث الوجود والإبداع أيضًا، وبالتالي لا يمكنني تحديد ما إذا كان فوزي قد حثَّ النقاد على الالتفات إلى  أعمالي، وإن كنتُ حزينًا لهذا الافتراض، فمن المفروض أن يلتفت النقادُ طواعيةً إلى أي كاتب له اجتهاداته الخاصة دون أن ينتظروا فوزه بجائزة ما.

وهذا ممَّا يحزُّ في النفس كثيرًا. هل أصبح النقد لدينا في حاجة إلى من يوقظه أم أن الأمور كلها قد أصيبت بآفة قاسية تنخر وتخرب وتقلب كل الموازين. ورغم هذا فإن هناك من الجادين والذين لا يصنفون الكتَّاب وفق ميولهم السياسية أو بحكم التجاور والارتباط الشخصي. وللأسف أمثال هؤلاء قليلون مثل: د. محمد مصطفى هدارة، ود. محمد زكريا عناني، والناقد محمد محمود عبدالرازق، ود. مصطفى عبدالغني والزميل عبدالله هاشم.

يذكر أن الروائي والقاص سعيد بكر، عمل موجهًا بالتربية والتعليم بالإسكندرية، وكتب القصة القصيرة إلى جانب الرواية، وصدر له: رواية "البدء والأحراش" 1980، والمجموعة القصصية "ترنيمات قديمة" 1980، والمجموعة القصصية "تحت أقدام رمسيس" 1981، ورواية "لمسات" 1982، والمجموعة القصصية "عويل البحر" 1983، ورواية "وكالة الليمون" طبعة  أولى 1984 وطبعة ثانية 1989، والمجموعة القصصية "الصعود على جدار أملس" 1986، والمجموعة القصصية "هزيمة فرس  أبيض" 1989، ورواية "الفيافي" 1990، ورواية "السكة الجديدة" 1994، والمجموعة القصصية "الشمس لا تدخل القبو" 1995، والمجموعة القصصية "شهقة" 1998.

حصل سعيد بكر على جائزة محمود تيمور التي ينظمها المجلس الأعلى للثقافة عن مجموعته القصصية "هزيمة فرس أبيض" 1992، وجائزة الدولة التشجيعية عن رواية "الفيافي" 1993، وجائزة أندلسية عن مجموعته القصصية "شهقة" 1998.

قال عنه الناقد جلال العشري: "أهم ما في قصص سعيد بكر هو اتجاه الواقعية الرمزية، فنجد أن القصص لو أنها جميعا تتناول الواقع الاجتماعي المصري في ظروف بعينها، وتحت وطأة جراحات اقتصادية وسياسية بعينها إلا أن المنهج الواقعي أو الأرضية الواقعية التي يستقي منها سعيد بكر مضامين أو تيمات هذه القصص يتناولها تناولا لا بالمستوى الواقعي المباشر، ولكن من خلال الواقعية الرمزية، وقد حاول أن ينوع في تناوله للتيمات القصصية وفي معالجته للموضوعات".