من جبال الضنية إلى أفق الشعر: استكشاف عوالم محمود عثمان
هذا شاعر بالجمال اندهش فاكتوى، وما ترك تلةً أو جبلًا من جبال قرى الضنية شمالًا، ولم يرَ فيها جسد امرأةٍ أو وجه حبيبةٍ غادرته أو وجه الأم التي كان لها الأب والأخ والرفيق والطفل الصغير. تهيجه صور الطبيعة وتترك في نفسه التساؤلات الوجودية متقلبًا على جمر الحياة الشعرية بانتعاشة المجروح أو برومانسية الرجل العنيد أو المعتد بفحولته التي يصوغها باقتحام لجنات الطبيعة التي تتقارن مع المرأة ولا تتساوى معها.
يحب الامتلاء في المرأة باحثًا عن الإشباع النفسي الذي جعل منه راعيًا لأمه القديسة التي يجعل من النساء جاريات لها، وإن بشكل مجازي يخفيه إيحائيًا في طيات شعره وقصائده التي نحن في صدد استكشافها والدخول معها في رحلة جبيلية نمتشق سفوحها بانطباعات نتذوق منها معسول الغزل، وخمرة الحبر المسكرة عند انبلاج كل صورة شعرية يقدمها بلغة البستاني أو راعي القطيع مع أصوات الأجراس في كروم الضنية التي تتردد صداها في كل زاوية من زوايا قصائده، فالمناخ الشعري عند محمود عثمان تجلله "الطريق إلى جبل الشمس" أو كما يسمى في الحقيقة "جبل الأربعين" الذي يقع عند سفوح الضنية شمال لبنان أو جبل المكمل وربما جبال يصعب تسلقها أو الوصول إليها.
هذا شاعر يتبع حواسه في بناء القصيدة وتساهم المرأة بحواسها في منحه المناخات الجمالية التي يفجرها شعرًا في قصيدة تلو قصيدة. ويعاود الحنين في كل امرأة إلى غموض المرأة التي يتجنب ذكرها بوضوح أو أن يرسم لها صورًا، وفي هذا شرقية تبعد الحبيبة عن الظهور الذي يخشاه الرجل في المرأة التي يحبها، وربما كان هذا لعادات اجتماعية موسومة بنفحات الرجل الشرقي الذي يتباهي بذكورته مترنمًا بشبقيات لا تلبث أن تهدأ في نهاية كل قصيدة من كتبه التي سنستكشفها معًا واحدة تلو الأخرى وما تحتويه من قصائد كالمسبحة السوداء تلمع حباتها كأنها حصى قرى سفيرة الضنية التي أَمست كالمرأة الناضجة في ثوبها الشفاف الطويل، الذي ينم عن محاسنها الملونة. كأنه الرسام المحمل بملامح لوحات تستمد واقعها من تخيلات النفس المتلوعة والمشتاقة إلى التلاحم الطبيعي مع المرأة وما تشكل في سره وعلنه من أمومة وعشق وذوبان، متمسكًا بنظرة جمالية لا يفارقها تشكل الشمس الحارقة والعش الدافئ وما إلى ذلك.
أحب الضنية كما لم يحب امرأة أخرى، ففي أفيائها أنشد وانسَرَح ووقف على عتباتها الفجرية يصدح مع ديوكها. ليركض خلف أمه أو عمته، فيرتوي من حليب ساخن طازج قبل أن يمشي في دروبها الجبلية التي هزت شاعريته وفجرتها حسِّيًا في داخله، وهو ينمو بين البراري والبساتين وأشجار بيت الفقس قريته التي ولد فيها.
شهدت مراحل طفولته التي اختزنت من النرجسية ما تركته باحثًا أبدا عن حبيبة تشبه الوديان والجبال والشمس والقمر. أما لماذا قررت الخوض في هذه القراءة الاستكشافية، فهو لأني ربما مغامرة في الأدب. إلا أنه شدتني تلك العبارات النهدية التي جعلتني أتساءل: ما الذي يبحث عنه محمود عثمان في استدارة نهد المرأة؟ أو بالأحرى استدارة الشمس التي تكوي عباراته وصوره الشعرية، أو استدارة القمر، أو تلة من تلال بيت الفقس التي ما غادرها أبدًا، إلا لتكون في هواجسه ووجدانه وأماسيه. وهذا استفزني لأتعلق بماهية هذا الشاعر، بل وأغرق في استكشاف مكنونه الشعري الغزير والذي بدا كالتوائم في سنة واحدة.
ربما يجد القارئ الخطى الاستكشافية بطيئة لأنها تشبه الصعود إلى جبل لم يبلغه محمود عثمان لما يتركه من شغف في استيطان الأرض والسهول ومنحها عدة صفات سنجد أن يجبرنا من خلالها للمشي معه في السهول كما الصعود إلى رأس جبال الأربعين في الضنية، وما البحر في قصائده إلا في جزيرة أرواد التي يروي فيها حكاية البحار. لكنه لم يترك الأرض أبدًا حتى في بحر غزل منه رواية لبحار من مدينة الميناء طرابلس التي يسكنها كأنه البحار في روايته التي زار جبال الضنية وتمنى الموت فيها قرب ابنته.
كل ما أقوله في قراءتي الاستكشافية ينم عن فكرة نهدية أنقشها على صفحات هذا الكتاب الذي جعلني أمزج بين الشعر والنحت لما وجدته من تقارب بين الشاعر محمود عثمان والنحات اللبناني مارون الحكيم، وما لغة الشعر عنده إلا لغة النحت عند مارون، وما بين الشعر والنحت يولد الجمال، وإن ظهرت المرأة في كلا أعمالهما، تلك المرأة الريفية التي تستيقظ حواسها عند انبلاج الشمس وصحوة القمر.
لا يسعني في هذه المقدمة إلا القول بأني لست من المتخصصين في النقد لأني لا ألجأ إلى التشريح الشعري لأتذوقه، إنما أبحث عن الصور الشعرية وبلاغتها في المقام الأول، ومن ثم أغوص في تحليلها النفسي لاكتشاف الكوامن في حقول الجمال الشعري في اللغة التي بهرتني بتناقض بين الغلو والبساطة، نافية المنحى الجنسي عن قصائده، وإن أغرقها بمفاتن هي عند المرأة تشكل وجودية الرجل وكيانه، بل ولحظة انبلاجه إلى الحياة. أتمنى للقراء استكشاف ما استكشفته وما تيسر لي من قدرة على تحليل شخصية هذا الشاعر الذي هاجمته يومًا لشغفه بمفرد النهد في قصائده، وعندما دخلت أعماق القصيدة لمست الوداعة في رجل يحاول أن يرتدي عباءة رجل الضنية الشرقي والقوي والمتطرف فكريًا، إلا أنه غير ذلك.
انطلاقًا من مبدأ أن النص الإبداعي هو مجموعة انطباعات حسية تدخل الذهن فتمنحه عصفًا يؤدي إلى رؤية أو استجماع لصور فنية تؤدي دورها في تنشيط المخيلة، قررت البدء بمجموعات هذا الكتاب الشعرية دون تصنيف أو تسلسل زمني أو تفضيل قصيدة عن أخرى، لتكون رحلتي الاستكشافية في مجموعات الشاعر محمود عثمان الشعرية والروائية قراءة انطباعية محفوفة بالنقد الجزئي وليس الكلي، رغم إيماني الشديد أن القارئ هو الناقد الحقيقي لما يقرأه، وأتمنى أن أكون قد حققت بهذا جزءًا بسيطًا من فنية التذوق الشعري عند القارئ.
في رحاب الشعر والشاعر، يتجلى محمود عثمان كقنديل مشع في ظلمات الأدب، يجوب أفقه الإبداعي بأسلوب فني عميق يتشابك مع طبيعة الأرض، ومعقدات الوجدان الإنساني. يتنقل بين تضاريس النفس البشرية، وينسج من خيوط الطبيعة المشهد الشعري الذي يروي قصة عشق تتجاوز حدود الزمان والمكان.
إن شاعرية محمود عثمان تتسم بجمالية فريدة تجعل من كل قصيدة لوحة فنية تنبض بالحياة. هو شاعر يعشق التفاصيل، ينقب في أعماق المشاعر ويجيد التعبير عن الأحاسيس بألوان متعددة، يعكس من خلالها صورة الإنسان المأزوم بين طموحات الروح ومتطلبات الواقع. ففي كل بيت شعري، نجد شذرات من الذات المتأملة، الباحثة عن المعنى في متاهات الوجود.
عندما يصف محمود عثمان المرأة في شعره، ينظر إليها ككيان متكامل يحمل في طياته أسرار الوجود وحكمة الطبيعة
في تحليله للمرايا الشعرية، يستحضر محمود عثمان مشهد الطبيعة ليعبر عن مشاعره وأفكاره. يرى في الجبال والتلال أكثر من مجرد كتل صخرية، بل هي تجسيد لعمق الانفعالات الإنسانية والأحلام المطمورة. تظل تلك الصور الطبيعية، بالنسبة له، رموزًا تعبر عن فصول الحياة المتعددة: الحب والفراق، الحزن والفرح، الضعف والقوة.
الشاعر في أشعاره كرسام ماهر، يستخدم الألوان الحية ليرسم تفاصيل عوالمه الداخلية. يتلاعب بالكلمات كما يتلاعب الرسام بالألوان، ليعبر عن جوهر الذات الإنسانية، فتلك الصور الطبيعية التي يلتقطها من أشعة الشمس التي تلامس القمم الجبلية إلى ظلال القمر التي تعانق الوديان، هي في الواقع تعبيرات مجازية عن الرحلة النفسية التي يخوضها الإنسان في سعيه للبحث عن الذات.
عندما يصف محمود عثمان المرأة في شعره، فإنها ليست مجرد أنثى، بل هي رمز للقداسة والملاذ الروحي. ينظر إليها ككيان متكامل يحمل في طياته أسرار الوجود وحكمة الطبيعة. يشبه المرأة بالجبل الشامخ الذي لا ينحني أمام العواصف، أو بالنجمة اللامعة التي تضيء دروب الليل. بهذا الأسلوب، يجعل من المرأة تجسيدًا لجمال الطبيعة وعظمة الخلق، وتصبح صورها في شعره ليست مجرد تأملات عابرة، بل هي تجسيد لحالة روحية تتجاوز حدود الجسد والمظاهر.
وفي هذا السياق، يحلق محمود عثمان بين السماء والأرض، معبرًا عن انفتاحه على أفق الرحابة الشعرية. هو لا يكتفي بالتأمل في الطبيعة، بل يسعى لتكوين علاقة متبادلة معها، حيث يتفاعل معها ويتفاعل معها. لا يقتصر تصوره على ما هو موجود، بل يذهب أبعد من ذلك ليبحث عن الأبعاد الميتافيزيقية والرمزية في كل ظاهرة طبيعية.
قصائده تحفل بالتنوع والتجدد، حيث يجمع بين ألوان عدة من التعبير الشعري: الرومانسية، الفلسفة، التصوف، والتأمل، فهو شاعر لا ينحصر في قالب واحد، بل يسعى إلى استكشاف كافة الأبعاد الممكنة للموضوعات التي يتناولها. لهذا السبب، نجد في شعره تنوعًا في الأساليب والأدوات التي يستخدمها، مما يضفي على قصائده طابعًا فنيًا خاصًا.
المرأة، كما يراها محمود عثمان، ليست مجرد كائن بشري، بل هي تجسيد لجمال الطبيعة وإلهام الشاعر، فهي بالنسبة إليه تجسد النقاء والعظمة، وهو يعبر عن هذا الإلهام من خلال الصور الشعرية التي ينسجها بمهارة فائقة. يتناولها بقدسية، ويمنحها مكانة خاصة في عالمه الشعري، حيث يعتبرها محركًا رئيسيًا للمشاعر والأحاسيس.
حينما يتحدث عن الطبيعة، يتجاوز محمود عثمان المظاهر السطحية ليغوص في الأعماق الرمزية. الجبال بالنسبة إليه ليست مجرد صخور، بل هي رمز للتحدي والثبات. الأنهار ليست مجرد مجاري مائية، بل هي تجسيد للحياة والحركة المستمرة. أما الأشجار، فهي ليست فقط نباتات، بل هي رمز للنمو والاستمرارية.
الشاعر لا يسعى فقط إلى نقل الصور الطبيعية كما هي، بل يتجاوز ذلك ليبني جسرًا بين الواقع والخيال، فهو يستخدم الصور الشعرية لخلق عالم متكامل، يعكس من خلاله تجربته الشخصية وتفكيره الفلسفي. يسعى إلى تقديم رؤية جديدة للعالم من خلال عدسة الشعر، التي تتيح له رؤية ما لا تراه العين المجردة.
ما يميز محمود عثمان أيضًا هو قدرته على التلاعب باللغة، واستخدامها بطريقة تعكس عمق تفكيره وإحساسه، فهو لا يكتفي باستخدام الكلمات بشكل تقليدي، بل يسعى إلى تجريب أساليب جديدة، واستكشاف أبعاد مختلفة للغة الشعرية. لهذا السبب، نجد في شعره تعبيرات غنية ومبتكرة، تعكس تجاربه وتأملاته بطريقة فنية متقدمة.
وفي هذا السياق، نجد أن محمود عثمان لا يقتصر على التأمل في الجمال الطبيعي والإنساني، بل يتناول أيضًا القضايا الاجتماعية والوجودية. يسعى إلى تقديم رؤية شاملة للعالم من خلال عدسة الشعر، حيث يتناول مواضيع مثل الحب، والحياة، والموت، والتغيير، فهو يعبر عن تلك القضايا بأسلوب يتسم بالعمق والتأمل، مما يجعل شعره ذا طابع فلسفي وجمالي في آن واحد.
يمكننا القول إن محمود عثمان يشكل مثالًا رائعًا للشاعر الذي يسعى إلى تجسيد الجمال والروح في أشعاره، فهو يستخدم الطبيعة، والمرأة، والرموز الشعرية الأخرى كوسائل للتعبير عن تجاربه الشخصية وتفكيره العميق. من خلال شعره، يعبر عن عوالم متعددة، ويقدم رؤية فنية غنية تعكس تفاعله العميق مع العالم من حوله.
في الختام، فإن شعر محمود عثمان يمثل تجسيدًا للإبداع الفني الذي يوازن بين الجمال والتأمل، بين الواقعية والرمزية. هو شاعر يملك القدرة على استخدام اللغة بطرق مبتكرة، ليقدم لنا عوالم شعرية تتسم بالعمق والجمال. من خلال استكشاف شعره، نكتشف أن الشعر ليس فقط وسيلة للتعبير، بل هو أيضًا وسيلة لفهم العالم وتجربة الحياة بشكل أعمق.