ناقد مصري يتساءل: هل يقرأ المبدعون؟

أيمن بكر يشير إلى أن هناك ضعفا في المحتوى المعرفي لدى كثير من الشعراء والروائيين.
النقد العربي ليس على علاقة وثيقة بالفلسفة
صدر المطالع أصبح ضيقا عن تتبع الأفكار المعقدة

طرح الناقد والكاتب د. أيمن بكر على صفحته على الفيسبوك، قضية أن معظم من يشكون غياب النقد على الفيسبوك لا يقرأون ما ينشره النقاد إلا إذا كان عنهم؛ الأمر الذي أثار نقاشا وتساؤلات كثيرة منها ما يتعلق بالكتاب والنقاد وجمهور المتلقين بينهم أو بين جمهور القراء عامة. 
وكان لنا أسئلتنا الخاصة حول دوافعه لفتح النقاش، ولماذا لا يقرأ المبدعون أو المثقفون النقد؟ هل لسبب في النقد خاصة مع اتساع استخدام المصطلحات وصعوبة التراكيب أم لسبب يخص المبدعين أنفسهم؟ 
وهل النقد موجه فقط للمبدعين والمثقفين فقط أم أنه موجهه للعامة من القراء؟ هل هناك نقاد الآن، هل ثمة جيل نقدي على الساحة يمكن أن يشار إليه ومقارنته بجيل النقاد الذي تجلى في الستينيات وجانب من السبعينيات؟ وإذا كان هناك هذا الجيل فأين هو من المشهد الروائي والشعري وغيره من المشاهد الإبداعية والفنية؟ وغيرها من التساؤلات المرتبطة بالنقد والمشروعات النقدية في حركة النقد العربية.
وفي هذا الحوار مع د. أيمن بكر أستاذ الأدب والنقد في جامعة الخليج للعلوم والتكنولوجيا، نتعرف على أسبابه لطرح قضية قراءة المبدعين للنقد على شبكات التواصل النقد ثم رؤاه وأفكاره حول واقع الحركة النقدية.
بداية يؤكد د. بكر أن للمشكلة أكثر من بعد يدعو للتأمل، ويقول "صفحات التواصل خلقت عادات مطالعة سريعة - ولا أقول قراءة - أصبح صدر المطالع ضيقا عن تتبع الأفكار المعقدة، وهي مسألة لا يمكن تعميمها، فربما كان هناك من يحفظ المادة الفكرية لوقت آخر كي يتمكن من تأملها بهدوء بعيدا عن حمى التقافز والتعليق على جمل مبتورة أو حالات تواصل سريعة. لكني لاحظت أن كثيرا من الكتاب على وسائل التواصل يشكون من غياب النقد، ثم لا تجد سوى عدد محدود من القراء للمقالات النقدية، كأنما الشكوى ليست من غياب النقد عموما، بل من غياب النقد عن شخص الشاكي دون سواه.
السؤال الأخطر: هل يقرأ المبدعون؟ وهنا يشير بكر إلى أنه لاحظ في المؤتمرات التي يحضرها ضعف المحتوى المعرفي لدى كثير من الكتاب الشباب سواء الشعراء أو الروائيين. وقال: "يجب هنا الحذر من التعميم"، ويضيف "رأيتهم يملكون آلات نقد حادة لكنها تخلو من الثقل المعرفي، لذلك يوجهها بعضهم نحو بعض بحدة زائدة. الأزمة أبعد منهم، فما تنتجه الثقافة العربية من معرفة أصبح مبعثرا لا يمكن تتبعه بصورة منظمة، وغالبا ما يعتمد المنتج المعرفي الجيد على شخص الناقد أو المفكر بعيدا عن مؤسسات ثقافية واهنة لم تعد قادرة على مسايرة ما يحدث في العالم. 
المبدع العربي الراغب في صقل عقله والحصول على معرفة جيدة عليه أن يقرأ بلغة أجنبية، خاصة في ظل عشوائية الترجمات وركاكتها "علينا ثانية أن نحذر التعميم". الكاتب/الكاتبة من الشباب، لا يجدون متسعا معرفيا متاحا بسهولة كي يتجاوزوا مرحلة المراهقة الفكرية والإبداعية، لذا ستجد الكثيرين ممن لا يتوافق سنهم مع إدراكهم للعالم ولأنفسهم ولما يكتبون.
 بالنسبة للسؤال؛ غالبا ما يقرأ المبدع النقد المكتوب عنه، لا للتفاعل وإنما للبحث عن دعم نفسي يمكنه من مواجهة الواقع العربي المعادي للإبداع، أو للدخول في صراعات ضيقة، ولهذا لا تكتمل دورة الفعل النقدي المنصب على الأعمال الإبداعية، إذ يتحول النص النقدي إلى وقود في حرب لا تخصه، ويتم إهدار الطاقة الفكرية التي يفترض أنه قائم عليها.
ويؤكد د. أيمن بكر أن النقد لا يزدهر بعيدا عن الدرس الفلسفي، ولعل النقد الأدبي والنقد الثقافي أن يكونا من أهم ورثة الفلسفة بمباحثها التقليدية، ولا أحسب أن النقد العربي على علاقة وثيقة بالفلسفة، والأخطر أن الثقافات العربية - باستثناءات فردية - صارت كارهة للفلسفة حتى إن لفظ "التفلسف" يستخدم في العاميات للتعبير عن الضجر وضيق الصدر بالأفكار التي لا يفهمها الشخص "لا تتفلسف علينا/ إنت هتتفلسف علي ..الخ". 
من هنا نحن في كارثة حضارية حقيقية، حيث تمت شيطنة الدرس الفلسفي في المدارس والجامعات، على الرغم من وجود مواد الفلسفة في الثانوي وفي كليات الآداب، وذلك بسبب تحول النظم التعليمية العربية غالبا (أحترس هنا من التعميم مرة أخرى) إلى مجرد هياكل برمجة للعقلية مفتاحها الحفظ والاستدعاء دون فعل التأمل الذي يقوم عليه الدرس الفلسفي.
 هنا يمكن اكتشاف خلل عظيم في الممارسات النقدية العربية نتيجة هذه المسافة القاحلة مع الفلسفة وهو أن استخدام المصطلحات في النقد العربي غالبا يقود إلى التعمية وتضبيب المعنى، وهذا على النقيض تماما من دور المصطلح عموما، إذ يجب أن يسهل استخدام المصطلحات عمليات التواصل المعرفي، فالمصطلح اختصار للوقت والجهد، وهو ذو طاقة دلالية تشبه القنبلة الصغيرة التي تدخل العقل فتنفجر بدلالات متفق عليها "مصطلح عليها". 
استخدام المفاهيم والمصطلحات في الغالب الأعم من الممارسات النقدية العربية يأتي عبر ترجمات للمصطلح الغربي، فقد فقدنا القدرة على تسمية ظواهرنا ووضع مصطلحاتنا إلا فيما ندر، وهو ما يجعل النص لوغاريتمي بصورة غير قابلة للحل.
ويضيف بكر أنه "من زاوية القارئ، لم يعد من السهل تحديد الكتب أو الكتاب الأجدر بالعناية والقراءة، فقنوات التوصيل مرتبكة ولا يحكمها مفهوم الكفاءة غالبا، هناك سياسات تعامل أخرى تحكمها المصالح المتبادلة والمكسب المادي والرغبة في الظهور والتحالف مع السلطة السياسية وغير ذلك من معادلات تدفع بعنصر الإبداع إلى الخلف وتصدر معيار التكرار كمركز للمشروعية المعرفية. 
القارئ والكاتب كلاهما ضحية لا يمكن إعفاؤها من المسؤولية، ضحية لانهيار المؤسسات التعليمية غالبا، وغياب معايير التفضيل والانتخاب، وكلاهما مسؤول لأنه في مثل هذه الحالات على كل شخص أن يعمل على تجاوز عتمة المؤسسات بصورة فردية من جانب، وعبر كيانات ثقافية يجب تفعيلها "مثل اتحادات الكتاب" من جانب آخر.
وحول فكرة جيل نقدي حاليا يمكن أن يشار إليه كأجيال الستينات مثلا، يرى بكر أن "فكرة الجيل تبدو متعارضة مع روح العصر الذي انفجرت فيه المعرفة بصورة غير قابلة للسيطرة وتتسم بالفردية في العمل، المفكر والناقد الآن يميل بصورة تلقائية للعمل منفردا؛ إذ تتوفر في جهاز كومبيوتر صغير كل مقومات العمل التي كانت تتطلب اجتماع عدد من الأفراد: الكتب والمعلومات التاريخية والقدرة على النقاش في أي لحظة أيا كانت المسافة ..الخ، حتى في أوروبا لن تجد حلقة براغ أخرى أو مدرسة فرانكفورت ثانية. 
وأكد أن الأزمة العربية كبيرة وقد بدأت من الخمسينيات، منذ تم تحويل الجامعة إلى كيان داجن لا يعارض صوت الحكام، باسم المعركة مرة، وباسم السلام مرة أخرى، وباسم الدين طوال الوقت. لقد تم تجفيف منابع المعرفة القائمة على الإبداع وكسر المألوف وارتياد آفق الجديد في الثقافات العربية، فكيف تتوقع أن ينشأ جيل من المفكرين يتمتع بالحرية التي هي لب الفكر الفلسفي والنقدي المبدع؟ 
إن ما يحدث الآن أفضل كثيرا مما جرى في فترة التحرر الوطني منتصف القرن العشرين، فنحن نشهد انفجارا معرفيا وقدرات مذهلة على توصيل المعلومات سيظهر أثرها بعد عدد من الأجيال، كما أن أثر التضييق السياسي والفكري ظهر أثره بعد خمسين عاما، وكما استمر أثر الفترة الليبرالية التي صاحبت إنشاء الجامعة المصرية حتى الستينيات. 
ويوضح بكر أن النقاد موجودون ويقدمون قراءات كثيرة، صحيح أنها لا تتناسب مع كم الإبداع المنفجر في السرد تحديدا، لكن هناك كتابات تسمي نفسها نقدية موجودة، الأزمة أنها كتابات أقرب للتغطية الصحفية منها للكتابة النقدية التي تُعد ــ كما يقول جوناثان كللر ــ صيغة من صيغ إنتاج المعرفة. 
النقد الآن هو نشاط اجتماعي يستخدم اللغة لتوطيد شبكات العلاقات وتسليط الضوء ــ في أفضل الأحوال ــ على أعمال إبداعية جيدة، أكثر من كونه نشاطا معرفيا يؤسس لمنظومة أفكار أو يجترح أفكارا جديدة. 
لقد اكتشفت أنني قدمت قراءات أدعي أنها نقدية بالمعنى الأخير لأكثر من ثلاثة وأربعين كاتبا وكاتبة معظمهم من مصر وبعضهم من دول عربية مثل تونس والمغرب والإمارات والسعودية والكويت والأردن، لقد اجتهدت في تقديم قراءات لأعمال كتاب أظنهم مبدعين مخلصين لما يفعلون من أمثال نجيب محفوظ، ويحيى حقي، وأحمد أبو خنيجر، ومحسن يونس، وسعد القرش، وسحر الموجي، ورضوى عاشور، والسيد نجم، ويوسف أبو رية، وخالد السروجي، ونادي حافظ، وأسامة بدر، ووليد علاء الدين، وفارس خضر، ومؤمن سمير، وهبة مصطفى، وأمل جمال، وضاحي عبدالسلام، ومحمد عبدالمعطي، ومحمد حسني، ومحمد الحسيني، ومحمد الزكي من مصر. ورجاء عالم ومحمد حبيبي وإبراهيم الحسين وموسى عقيل وإبراهيم زولي (السعودية)، وإبراهيم درغوثي (تونس)، وربيعة ريحان (المغرب)، وسهير التل (الأردن)، وسلمى مطر سيف وعادل خزام (الإمارات)، وحمود الشايجي وإستبرق أحمد وليلى العثمان وباسمة العنزي (الكويت) وغيرهم كثير. 
كنت حريصا على تقديم أفكار تتماس مع النصوص، كما حاولت أن أجمع ما أستطيع جمعه من هذه الدراسات في كتب. وبالطبع لست حالة وحيدة، فهناك من يفعل ذلك في ثقافاتنا العربية من المغرب للخليج، لكنها كما أشرت تبقى ممارسات فردية.