نريد رئيسا لا يكمل ولا ينقض بل يغير

تغير نسيج المجتمع اللبناني حضاريا ومناطقيا. لم يعد لبنان نسيج ما قبل سنة 1975، ولا نسيج إفرازات حرب السنتين، ولا نسيج كانتونات الثمانينيات، ولا نسيج اختلاط تسعينيات القرن الماضي.

تشعر فئات لبنانية متعددة الطوائف والطبقات بصعوبة الحياة في لبنان في ظل النظام الحالي بعدما باتت التحولات الحضارية الداخلية أكثر قساوة من الهجرة الاغترابية. يشعر اللبنانيون بوجود قرار قضى بنفيهم عن وطنهم من دون سفر، فالوطن قيم قبل أن يكون مكانا. نشأت في الأوساط اللبنانية "كانتونات" مغلقة تمارس حياتها الخاصة والعامة بمنأى عن المجتمع اللبناني الفسيح. إنها "كانتونات اجتماعية" تتداول في كيفية تسييس ذاتها وإعطائها حالة شرعية. لكن الفرق شاسع بين كانتونات النوادي المغلقة وبين الكانتونات الدستورية.

البعض يريد أن يجعل لبنان مجموعة جزر تتواصل عبر القوارب ووسائل النقل. ويظن أن استحداث كانتونات دستورية هو بسهولة ابتكار كانتونات اجتماعية. لقد أمسى لبنان بلدا طبقيا من دون صراع طبقي. فئاته الاجتماعية كونت طبقات ذاتية تمارس نمط حياة خاصا من دون أن تتصارع اجتماعيا وأمنيا، ولا حتى سياسيا. وحين انتفض الشعب وتظاهر وقطع الطرقات من أجل تحسين شروط حياته اليومية، إنما انتفض ضد لا أحد، وضد عناوين مغلوطة. وحين اختار في الانتخابات ممثليه غالبا ما اختار الأسماء المغلوطة أيضا.

إذا كانت هذه الأفكار تراود البعض فلأن لبنان كان ـــ على شوائبه ـــ بلد النهضة وبات بلد الانحطاط، وكان بلد البحبوحة وأصبح بلد البؤس، وكان بلد الحرية وصار بلد الفوضى. من عرفوا لبنان الماضي يتبرأون من لبنان الحاضر، ومن يبصرون لبنان الحاضر يكتشفون أنه ينتمي إلى جاهلية أخرى. الغربة مشتركة والحنين متباين والحل متناقض.

لذلك، كثرت في الآونة الأخيرة طروحات دستورية مختلفة من أجل إيجاد صيغ دستورية تعيد الأمل إلى الحياة في لبنان من دون أن تقضي على كيان لبنان. تعتقد هذه الفئات أنها صبرت كثيرا على الصيغة القائمة وأعطتها جميع حظوظها، فيما فئات أخرى، من كل الطوائف أيضا، تعتقد أن المراحل الصعبة باتت وراءنا والصيغة الحالية ستستعيد تألقها، ولا داع بالتالي للبحث عن صيغ جديدة. لكن سها عن بال هؤلاء أن تألق الصيغة اللبنانية يتعذر بمنأى عن انتظام الاستقرار السياسي والأمني والكياني في سائر دول الشرق الأوسط.

تطور المجتمع اللبناني جاء متنافرا. فئات كانت بعيدة عن الفكرة اللبنانية صارت تدافع عنها، وفئات أخرى كانت قريبة منها ابتعدت عنها. تجاهلتها وتجهلت، والتحقت بأفكار أخرى لا تـمت إلى الفكرة اللبنانية، حتى بات التوفيق بينهما مستحيلا. الحلول التي يقترحها اللبنانيون للبنان الجديد يرتاب أصحابها في نجاحها لأن المجتمع اللبناني صار عصيا على الحلول وأليفا على المشاكل، ولأنهم يطرحونها تحت وطأة الأحداث. استأنس اللبنانيون التنقل من أزمة إلى أخرى كأن الأزمات أهون من الحلول. الحلول الوطنية معقدة، والحلول الفئوية ليست موضوع إجماع.

الخشية في لبنان من أن نقع في تطبيق النظامين اللامركزي أو الفدرالي على واقع مركزي شبيه بالنظام المركزي الحالي، خصوصا إذا انتقل مسؤولو الدولة المركزية إلى المناطق اللامركزية وحملوا معهم أمتعتهم وأداءهم وذهنيتهم وأحزابهم وفسادهم وأزلامهم، وحولوا المناطق اللامركزية قلاعا ومقاطعات إقطاعية على غرار ما عبثوا في الدولة المركزية. بعيد الثورة الفرنسية تخوف مفكرون فرنسيون من سقوط الملكية وضياع الثورة. وبالفعل، سقطت الملكية وانحرفت الثورة وسادت الديكتاتورية فالإمبراطورية.

الإشكالية الكبرى في المجتمع اللبناني أن العناصر التأسيسية التي تكون "أمة" - وهي الشعب والتاريخ والجغرافيا واللغة والحضارة و/أو الثقافة - هي العناصر الخلافية التي تفرق بين اللبنانيين. فأطراف لبنانية، متأثرة بالمحيط، اختزلت جميع العناصر التأسيسية للأمة بالدين ثم بالمذهب وقضت على مفهوم الأمة الحضارية اللبنانية وجرفت في طريقها مفهوم الدولة/الكيان. لا قيمة لأي أمة أو دولة ما لم توفر للشعب السلام المستدام والحرية والكرامة. وهذه الفضائل هي ثمرة إرادة الحياة المشتركة قبل أن تكون حصيلة الدستور والقانون.

من هنا أن القوى السياسية والنخبوية التي تطرح حلولا - بدءا من المحافظة على لبنان الكبير مرورا باللامركزية والفدرالية وصولا إلى التقسيم – يشك أصحابها في اقتراحاتهم وفي مدى قدرتهم على تسويقها. التضاريس الحضارية للمجتمع اللبناني عقدت تآلفه مع نظام دستوري بسيط أو مركب. كل مكون عاجز عن تسييل اقتراحاته أو تصريفها: دليل هذه الحيرة، أن أصحاب هذه المشاريع الدستورية يضعون نسخا مختلفة عن كل مشروع. هكذا نرى أكثر من هندسة لـــ"لبنان الكبير"، وأكثر من توزيع لصلاحيات اللامركزية، وأكثر من خريطة ديمغرافية للفدرالية، وأكثر من حدود تاريخية للتقسيم. الثبات ناقص. كل مشاريعنا قيد الصيرورة، بل قيد الـمضخ الأكاديمي. نقترح بديل ما نرفض من دون أن يكون هذا البديل وليد قناعة فكرية ثابتة وعميقة. لشدة ما عانينا من حروب ومآس صار بعض اللبنانيين يقبل بما تيسر من حلول وتسويات. ما خلا "اتفاق الطائف"، ونعرف ظروف ولادته القيصرية، منذ سبعينيات القرن الماضي نفكر في صيغ دستورية ولا نحققها. نطرحها بخفر ونسحبها بخجل. حتى أن الثورة التي طالما حلمنا بها أجهضنا مفعولـها وحولنا مردودها إلى الطبقة السياسية، موضوع الشكوى.

تغير نسيج المجتمع اللبناني حضاريا ومناطقيا. لم يعد لبنان نسيج ما قبل سنة 1975، ولا نسيج إفرازات حرب السنتين، ولا نسيج كانتونات الثمانينيات، ولا نسيج اختلاط تسعينيات القرن الماضي. وزاد على ذلك عاملان أثقلا أي مشروع حل: نشوء دولة حزب الله التي ترفض جميع الحلول إلا حلها، وتريد بالمقابل أن تكون جزءا من حلول الآخرين. والآخر وجود نحو مليونين ونصف مليون غريب بين نازح سوري ولاجئ فلسطيني. من هنا يتعسر على اللبنانيين اعتماد أي حل دستوري جديد مستدام من دون مساعدة دولية.

ومن هنا أيضا تتعقد عملية انتخاب رئيس الجمهورية لأن القوى السياسية تظن بأن الرئيس الآتي سيكون ناظم إعادة صياغة لبنان الجديد، ولا بد من وضع شروط مسبقة عليه. البعض يريد رئيسا يأتي ليكمل، وآخرون يريدون رئيسا لينقض. لكننا في الحقيقة نريد رئيسا ليغير ويخلق بيئة وطنية جديدة نظيفة، وسلوكا أخلاقيا، والتزاما بالثوابت التاريخية، وبعلاقات إيجابية مع العالم، ويضع حدا للتبعية وتشتيت الشرعية، ومقاربة جديدة للمشاكل ويطلق سراح اللبنانيين.