نهايات 'الشَعر الأشقر'

مجموعة الكاتبة عايدة ناشد باسيلي تنطبق عيها مقولة الناقدة الجزائرية د. نزهة خلفاوي 'إن النص الحقيقي في اعتقادي هو القادر على إدهاش قارئه وسحبه إلى أعمق نقطة فيه، ثم إشراكه في إعادة خلقه، وبغض النظر عن أي وصف أو توصيف لهذا النص'.

تقول الناقدة الجزائرية د. نزهة خلفاوي "إن النص الحقيقي في اعتقادي هو القادر على إدهاش قارئه وسحبه إلى أعمق نقطة فيه، ثم إشراكه في إعادة خلقه، وبغض النظر عن أي وصف أو توصيف لهذا النص".

ومن خلال هذا المفهوم نستطيع أن نتعامل مع نصوص مجموعة "شَعر أشقر" للكاتبة عايدة ناشد باسيلي التي تنتمي جميعها إلى النصوص الاجتماعية والعاطفية، أهدتها الكاتبة إلى زوجها الحبيب وإلى قلبه الذي يعيش معها وروحِه التي تقيم في السماء.

وأستطيع أن أقول إن نصوص هذه المجموعة استطاعت أن تسحبني لأعمق نقطة فيها، وهي النهاية، فنهايات نصوص "شعر أشقر" هي أهم ما فيها، وهي التي تصنع الدهشة، دهشة الصلصال الذي صنعت منه الكاتبة تلك النصوص ونفخت فيه من الحروف، فتحول إلى كائن أدبي حي وفاعل، باح بمكنون النص في نهاية تشكيله، لذا تجئ نهايات النصوص في تلك المجموعة، نهايات فاعلة ومؤثرة، تقول الكلمة الأخيرة التي لا كلام بعدها، وعلى سبيل المثال في القصة الأولى "نار الغَيرة" نجد كاتبة صحفية تركت صفحة المال والبورصة، وأكرهت نفسها على تتبع أخبار الفنانين، لتدخل عالم حبيبها الفنان من بوابة الصحافة، ويبدو أنها نجحت في مسعاها، فدخلا معا عش الزوجية. ولكنها لم تستطع أن تتجاهل رسائل المعجبات التي تتوالى على موقع حبيبها الفنان على وسائل التواصل الاجتماعي، فتشعر بالغيرة ويدب الخلاف، وتقرر الاعتذار وتحمل الأزهار إلى موقع التصوير، لكنها تسمع تنهيدة عاملة البوفيه وهي تتأمل مشهدا رومانسيا مع نجمة الإغراء، فتشتعل غَيرة الزوجة مجددًّا، وتغادر مسرعة وبيدها باقة الأزهار. وفي كل مرة تواجه نيران غيرتها ولا تستطيع السيطرة على نفسها، وتشتعل لياليهما بالاتهامات، وتمطره سبابا لأنه لا يراعي شعورها ولا يأبه لكرامتها كزوجة. ولكنَّ زوجَها يقسم لها بأن ما يشاع عنه أكاذيب وفبركات إعلامية، وحتى تبعد عن عالم الفن وأكاذيبه تقرر العودة إلى صفحة المال والاقتصاد، ولكنه تطلق وتأخذ على نفسها عهدًا بألا تتزوج يومًا من رجل مشهور، أو وسيم، مهما حصل.

وتتزوج من تاجر مكافح كتبت عن طموحه الاقتصادي بالجريدة، وتعيش عالم رجال الأعمال وتتابع أخبار المال، وتتقلب البورصة ومعها يتقلب زوجها بشكل مفجع، وكان هو الذي يغير عليها ويغضب منها إذا رأى رجلا يحييها، فيدخل الشك إلى قلبه، ولكنه يرفض فكرة الطلاق لأنه يحبها ويرجو أن تسامحه، لكنه يعيش الغيرة القاتلة، فلم تجد بُدًّا من الإصرار على طلب الطلاق. لكنه يرفض لتجئ الخاتمة المدهشة بأنها تنازلت عن كل حقوقها ونالت حريتها بالخُلع، وتكتب حاليا في صفحة الرياضة.

هذه النهاية المدهشة تجعلنا نفكر تفكيرا آخر، بناء على المعطيات السابقة، مثل هل ستلتقي بطلة القصة شابا رياضيا تحبه ثم تغار عليه من مشجعي كرة القدم، وتعاود الكرَّة مع كل صفحة تعمل بها من خلال الجريدة، فإذا انتقلت للعمل في صفحة الحوادث، هل ستلتقي ضابطًا أو مجرمًا تحبه أو يحبها؟ وهل إذا انتقلت للعمل في صفحة الأدب والثقافة ستلتقي أديبا أو مثقفا تمارس معه الحب وتتعلق به أو يتعلق بها ويتزوجان، ثم تدب الغيرة بينهما، وهكذا. ولعلها تقول ما قاله كامل رؤبة لاظ بطل رواية "السراب" لنجيب محفوظ: "ليتني لم أُخلقْ فريسةً سهلة لأنياب الغَيرة".

إن عالم القصة يضعنا أمام ما يعرف بالنقد البيئي، وهو نابع من تأثير البيئة المحيطة بالشخصية على انتقاءتها وتصرفاتها وسلوكها، وعلى الرغم من أن الغَيرة هي أفكار وأحاسيس وتصرفات تحدث عندما يظن الشخص أن علاقته القوية بشخص ما تُهدد من قبل طرف آخر منافس، وفي عيون الأخبار لابن قتيبة: قال أبو الأسود لابنته: "إياكِ والغَيْرة فإنها مفتاح الطلاق"، فإننا – في القصة - أمام غَيرة خلقتها ظروف العمل، وفي الوقت نفسه نتساءل: لو وضعت تلك الشخصية في ظروف بيئية أخرى، هل تشعر بنفس مشاعر الغَيرة التي شعرتها أثناء عملها الصحفي في صفحة الفنون ثم في صفحة الاقتصاد؟

أعتقد أنها كانت ستسلك السلوك نفسه، ذلك أن الغَيرة مرتبطة بعوامل نفسية، وبفهم الشخصية للحياة وتصورها لعلاقاتها مع الآخرين. وعن الغَيرة هناك بيتان من الشعر منسوبان لولادة بنت المستكفي (حبيبة ابن زيدون) تقول فيهما:

أغارُ عليك مِن نَفسي ومني ** ومنكَ ومِن مكانِك والزمانِ

ولو أني خبَأتُك في عيوني ** إلى يومِ القيامةِ ما كفاني

هذا نوع من الغَيرة المرضية، التي تصادر على الشخص الآخر تصرفاته وسلوكه الفردي، فيشعر أنه في سجن الحب، أو واقع في قبضة شخص آخر لا يريد له فكاكا، وهو ما رأيناه أيضا في قصة "نار الغيرة" لعايدة ناشد باسيلي.

وما زلنا مع عالم الزواج والطلاق الذي اتصفت به القصص الأولى لتلك النصوص القصصية في "شعر أشقر"، وفي قصة "السر" يفاجئنا أول سطر بسؤال صاحبة القصة: "هل أخطأتُ حين تزوجته؟ أم أخطأتُ حين طلبت الطلاق؟" ثم يجئ تقنية الارتداد إلى الوراء، أو الفلاش باك، فتتحدث الشخصية الأنثوية عن ظروف زواجها بأستاذها في الجامعة الذي يكبرها بخمسة عشر عاما، فانبهرت به، بشخصيته، وبقوة حضوره ووسامته، ويتم الزواج، وتأتي مسألة إنجاب طفل تؤرق الزوجة وأمها، رغم التحاليل السليمة، لنفاجأ بأن الزوج أستاذ الجامعة يرفض الإنجاب خوفًا من مرض متوارث في عائلته دون الوصول إلى العلاج الناجع، فتثور الزوجة لأن الزوج لم يخبرها بهذا الأمر قبل الارتباط والزواج منها، ثم ينهار صاحب الشخصية القوية والحضور والوسامة والكبرياء، فتى الأحلام السابق، وتتساءل الزوجة: هل لو كان صارحني من قبل كنت سأرفض الزواج منه؟" هي حقا تحبه ولكنها تفاجئنا بطلب الطلاق من خلال عبارة شديدة الوقع والتأثير تختم بها القصة في قولها: طلقني .. أنا أيضا لا أريد ابنا من عائلة مجانين.

وعلى ذلك تتهم زوجها وعائلته بالجنون حين أرجع عدم رغبته في الزواج بسبب هذا "السر" الذي كان يخبئه عن زوجته وأهلها، وهو هذا المرض الوراثي الذي جعل أخاه حبيس غرفته طوال عشرين سنة، رافضا الخروج منها ولو إلى دورة المياه.

هل اعتبرت الزوجة هذا جنونا، هل افتقدت مشاعر الإنسانية حين علمت سبب رفض الزوج الإنجاب منها، هل هي تثأر لكرامتها، بسبب عدم اعتراف الزوج بسيرة مرض عائلته، على الرغم من أنه هو شخصيا نجا من هذا المصير، ومن هذا المرض. هل كان الزوج أستاذ الجامعة مطالِبًا بعدم الاستسلام لهذه الهواجس والكوابيس التي تفترض في طلفه القادم وقوعه في المرض الوراثي، وأخيرا هل كانت الزوجة محقة في طلبها الطلاق؟

مثل هذه الأسئلة التي تخلفها تلك القصة القصيرة تجعل القاريء أو المتلقي مشاركا في إنتاج الدلالات، ومشاركا في تشكيل الصلصال، والوصول إلى أعمق نقطة في النص، كما أشارت نزهة خلفاوي.

قصة "فتاة أحلامي" تجئ على لسان أحد الشباب، وتدور في عالم الزواج أيضا، ويأتي فيلم "الوسادة الخالية" ليكون معادلا موضوعيا لمشاعر الشاب الذي يقع في غرام فتاته من أول نظرة، فهو الحب الأول له، وهي القضية التي حاول أحسان عبدالقدوس مناقشتها في روايته "الوسادة الخالية".

ويستخدم الشاب في قصة "فتاة أحلامي" الحيل الظريفة لمعرفة شقة الفتاة في العمارة التي سبق أن دخلتها، ومعرفة اسمها واسم والدها، من بواب العمارة، وتحدث بعض المفارقات الكوميدية التي نشاهد مثلها في أفلامنا، لنفاجأ بتورط الشاب في خطبة فتاة لا يعرفها، ولم يرها من قبل، وتأتي النهاية الحاسمة والمدهشة في أن الفتاة التي رآها ووقع في غرامها من أول وهلة هي صديقة فتاته التي خطبها.

القصة تقليدية، ومعالجتها جاءت كذلك تقليدية، وكأننا نشاهد مواقف كوميدية في فيلم مصري كما ذكرت، ولكن النهاية المدهشة هي التي أنقذت تلك القصة من الضعف، حيث تظهر في نهايتها الفتاة الحقيقية التي رآها الشاب أمام المحمصة، فكانت فتاة أحلامه، وصديقة خطيبته في زيارة لها بعد أن اشترت بعض التسالي من المحمصة وهي في طريقها لمنزل صديقتها، فظن الشاب أنها من قاطني تلك العمارة.

ومن مظاهر ضعف تلك القصة عدم واقعيتها، فأعتقد أن طريق الزواج أو الخطوبة لا يمر الآن بمثل هذه الأساليب الساذجة، وإنما هناك خطوات أكثر جدية من مجرد أن رأى شاب فتاة في طريقه لا يعرف عنها أي شيء، فيصحب والدته لإعلان الخطوبة مباشرة. ولكن على أية حال تضعنا النهاية المفتوحة أمام عدة تأويلات نشارك كمتلقين في صنعها وفي تشكيل صلصالها، ومنها: هل سيفسخ الشاب خطوبته من سلوى، عندما عثر على فتاة أحلامه الحقيقية، وهي صديقتها ناهد؟ وما موقف سلوى وعائلتها منه بعد أن يكشف لهم الحقيقة، وهل ستوافق ناهد على الارتباط به بعد هذا الموقف الذي أقول إنه كوميدي وساذج في الوقت نفسه؟ وهل والدته ستوافق على هذا العبث بعد أن كانت تردد – بعد أن رأت سلوى – بسم الله ما شاء الله، فينظر لها ابنها في غيظ، دون أن تدري لماذا؟ وهو يعلم في قرارة نفسه أن هذه العروس ليست هي فتاة أحلامه التي رآها من قبل؟

إن النص يسحبنا إلى أعمق نقط فيه، عندما ارتعشت يد الشاب وهو يسلم على ناهد فتاة أحلامه الحقيقية، والتي تقدمها له سلوى خطيبته التي لا ذنب لها في كل ما حدث.

في قصة "الوعد" نرى أيضا موقفا دراميا، بطلته فتاة انتظرت حبيبها الذي سافر للعمل بالخارج حوالي عشر سنوات، ولما تلكأ في العودة وتخطت عمر الخامسة والثلاثين بشهور، كان لا بد أن تقبل بغيره، وفي يوم خطبتها وإطلاق الزغاريد في بيتها، يرسل لها حبيبها المهاجر باقة ورد كُتب عليها: "باقة الورد محظوظة لأنها ستراك قبلي .. انتظريني ووالدي الليلة في السابعة مساء".

وتنتهي القصة عند هذه العبارة لتتركنا الكاتبة نشارك في تصورات وسيناريوهات بعد تلك العبارة المفاجئة، هل سترفض من تقدم إليها وأتى، وتنتظر حبيبها الذي ربما يخلف وعده ولا يأتي في السابعة مساء، هل سيفي بوعده هذه المرة، بعد أن وعدها مرات كثيرة خلال عشر سنوات خلت. ومن المفارقات الفنية في تلك القصة أن والدة العروس شهد هي التي تستلم باقة الورد والورقة، وليست ابنتها شهد. لنعاود التساؤل: هل ستخفي أم العروس على ابنتها أمر هذه الورقة، فعصفور في اليد وحاضر في بيت العروس، خير من عريس لم يأت بعد؟

إن العبارة الأخيرة أو خاتمة القصة هي التي تجعلنا نعاود تشكيل صلصال القصة، ونحاول المشاركة ووضع حلول مناسبة، كل حسب خبرته وثقافته.

في قصة "شعر أشقر" التي اختارت الكاتبة عنوانها لتطلقه على مجموعتها ككل، لم تبال بطلة القصة بمشورة مصفف الشعر من أن اللون الأشقر الذهبي لا يناسب بشرتها الخمرية، ولكنها أصرت على اختيارها فهناك خلفيات لا يعرفها مصفف الشعر، ومنها أن زوجها يطيل النظر خلسة من نافذة المطبخ إلى نافذة جارتهم الشابة ذات الشعر الأشقر، ويعجب الزوج بلون الشعر الأشقر الذي اختارته زوجته، وكان في البداية يظن أنها ترتدي باروكة، وعندما أخبرته أنه شعرها قال لها: جميل جدا، أعجبني اللون. وظنت أنه سيكف عن النظر إلى جارتهم عبر النافذة.

ولكن أم الزوجة لم تعجب بلون شعر ابنتها الجديد، وفي زيارتها قالت لها: ما هذه المهزلة التي صنعتِها بشعرك؟ واكتشفا أن الزوج لا يزال يختلس النظر عبر النافذة في اتجاه الجيران، وقد حولت جارتهم شعرها إلى اللون الأسود الفاحم.

وتتركنا الكاتبة نقع في الحيرة، كيف ستُرضي الزوجة زوجها، وهي تراه يتلصص على الجارة الأجنبية التي تتلاعب بلون شعرها، وعليه تلجأ الزوجة إلى تعديل اللون علَّ زوجها يكون راضيا، ولكن ما من سبيل لإرضائه.

كما تتركنا الكاتبة لنتوقع ماذا سيحدث بين الزوجة وأمها بعد اكتشفا أن الزوج يخونها بنظراته وتجسسه على الجارة.

ومن هنا تأتي النهايات في تلك المجموعة القصصية، نهايات مفتوحة على فضاءات أكثر رحابة، وهذا ما يكسبها حيوية وحضورا وفعالية في عالم القصص القصيرة.