هكذا ساهم يهود تونس في الهوية الوطنية

آلاف اليهود من العالم يتوافدون على كنيس الغريبة بعد توقف العامين الماضيين بسبب تفشي وباء كورونا.
تونسيون مسلمون يزورون المعبد تبرّكا بهذه "المرأة الغريبة"

جربة (تونس) - تعتبر الجالية اليهودية في تونس من أعرق الأقليات المقيمة بالبلاد مما سمح لها بالتغلغل في مختلف الجوانب الحياتية كالاقتصاد والمجتمع والثقافة والسياسة، حتى أن البعض يعتبرونها أحد مكونات الهوية التونسية المعروفة بالتنوع والانفتاح.
ورغم تناقص عددهم بشكل لافت ما زال الكثير منهم يعود لزيارة تونس خاصة في موسم "حج الغريبة" الذي بدأ الاربعاء بجزيرة جربة الواقعة بالجنوب الشرقي للبلاد.
ويتجمع اليهود الذين سكنوا الجزيرة منذ حوالي الفي عام في منطقة تسمى "الحارة الصغيرة" حيث يعيش قرابة 1300 يهودي تونسي.
ويزور يهود العالم هذا المعبد خلال موسم الزيارة السنوية أو "الحج" للتبرك وإشعال الشموع والكتابة على البيض، وهو طقس يرمون من خلاله لتحقيق أمنياتهم. ومن الطقوس الأخرى ان يضع اليهود البيض بعد كتابة أمانيهم داخل كهف صغير بالمعبد ويتناولون المكسرات ويشربون "البوخة"، وهو شراب مستخرج من فاكهة التين.

يكتبون امنياتهم على البيض ويشربون البوخة

وبسبب تفشي وباء كورونا خلال العامين الماضيين، ألغي الحج في العام 2020 وأغلق كنيس الغريبة للحد من مخاطر تفشي الوباء.
وغالبا ما تعتبر السلطات موسم حج الغريبة مؤشرا الى حالة الموسم السياحي في تونس الذي يبلغ ذروته خلال أشهر الصيف، حين يستقطب مئات آلالاف من السياح من كل أصقاع العالم.
لذلك تعوّل تونس بشكل كبير على نجاح موسم "الغريبة" الذي سينعكس بشكل إيجابي على الموسم السياحي في البلاد.
وتوقع رئيس هيئة تنظيم زيارة الغريبة بيريز الطرابلسي أن يلامس عدد "الحجاج اليهود" إلى الغريبة هذا العام الـ5 آلاف زائر.
ودأبت الحكومات التونسية المتعاقبة منذ سنوات على إيفاد وزير الشؤون الدينية لزيارة اليهود خلال تأديتهم طقوس الزيارة. لذلك من المقرر أن يحضر الاحتفالات وزير الشؤون الدينية إبراهيم الشايبي ووزير السياحة محمد معز بلحسن.
جذور معبد الغريبة وأصل يهود تونس
يعود أصل تسمية معبد الغريبة إلى الرواية التي تقول إن امرأة يهودية غريبة عن المنطقة قدمت إلى جزيرة جربة أن يهودية بعد نجاتها بأعجوبة من حريق، وأسست المعبد الذي أقامت فيه. ثم أصبح الناس فيما بعد يتبركون بها ويتوجهون إليها طلبا للشفاء من العقم.
ويقول مختصون إن المعبد بني على حجر من هيكل سليمان الموجود بقبو المعبد ما أكسبه هذه القداسة الكبيرة عند لليهود.

وجود اليهود في تونس يرتبط بسقوط غرناطة بالأندلس وهجرة عدد كبير منهم نحو شمال إفريقيا 

ويحظى هذا المعبد، وهو الأقدم في أفريقيا، بأهمية كبيرة بالنسبة لليهود لاعتقادهم أنه يحتوي على أقدم نسخة للتوراة، إذ يعود تاريخه إلى قرابة 2600 عام.
كما يعتقدون أن هذا المعبد بُني على أجزاء من الهيكل الأول في القدس. ويُعتقد أن هذه الأجزاء جلبها النازحون اليهود معهم إلى تونس بعد تدمير الهيكل عام 586 قبل الميلاد.
واللافت للاهتمام أن زيارة معبد الغريبة لا تقتصر على اليهود فقط بل يزورها أيضا تونسيون مسلمون تبرّكا بهذه "المرأة الغريبة" ويكتبون أمنياتهم على البيض، تماما كما يفعل اليهود، علها تتحقق.
ويعتبر أستاذ التاريخ السياسي المعاصر عبداللطيف الحناشي في تصريح خاص لـ"ميدل إيست اونلاين" أن اليهود هم أقدم الجاليات الوافدة إلى تونس وأكثرها عراقة، إذ يرتبط وجودهم بتونس بحادثة سقوط غرناطة بالأندلس وهجرة عدد كبير منهم نحو بلدان شمال إفريقيا من بينها تونس.
غير أن أعدادهم أخذت في التراجع لعاملين إثنين: الأول بعد صدور "قانون العودة" الذي أقرته إسرائيل، والثاني قرار الرئيس السابق الحبيب بورقيبة تأميم الأراضي الزراعية عام 1964 خاصة وأن عددا كبيرا منهم كانوا من مالكي الأراضي.  
ويضيف الحناشي أن عدد يهود تونس كان عام 1896 حوالي 50 ألف ليتقلص في فجر الاستقلال سنة 1956 ويصبح 57700 يهودي تونسي. ثم تراجع سنة 1970 إلى 10 آلاف، يتوزعون بالأساس بين جزيرة جربة وتونس العاصمة ومحافظتيْ سوسة وصفاقس.
حركية اقتصادية واجتماعية وسياسية
أدخل يهود تونس حركية على الاقتصاد التونسي واشتغلوا بعديد من المجالات كتجارة الذهب والمجوهرات، ونشطوا في حرف معينة كالطبخ والميكانيك وتصليح الساعات وغيرها. وتعكس نوعية النشاط الاقتصادي نوعية التركيبة الاجتماعية لليهود في تونس، إذ ينقسمون كما يقول الحناشي إلى فئتين: غنية تتاجر بالذهب وفقيرة تمتهن الحرف الصغرى.
كما ساهم اليهود في إثراء المشهد الثقافي التونسي في تلك الفترة فساهموا في مجالات فنية كالموسيقى والمسرح.

باي تونس أصدر في 1857 "عهد الأمان" الذي يحمي حرية ممارسة الشعائر الدينية للأقليات

وأدخل اليهود في تونس العديد من الأطباق والمأكولات في العادات الغذائية للتونسيين. وبالبحث عن أشهر الأكلات الشعبية التونسية نجد أن لها جذورا يهودية.
ورغم اندماجهم مع التونسيين إلا أن العلاقة شهدت توترات لعل أهمها حادثة مقتل يهودي تونسي على يد تونسي مسلم، الأمر الذي دفع باي تونس سنة 1857 إلى إصدار "عهد الأمان" الذي ينص على جملة من الحقوق المدنية والسياسية للأقليات من بينها حرية ممارسة الشعائر الدينية.
كما كانت ليهود تونس إسهامات في الحياة السياسية قبل الاستقلال وبعده. فنشطوا قبل الاستقلال في صفوف "الحزب الشيوعي التونسي". وقام بورقيبة بإشراكهم في الحياة السياسية لكن مشاركاتهم ظلت متقطعة.
ويذكر الحناشي أن بورقيبة مكّن اليهود من الترشح لانتخابات المجلس القومي التأسيسي سنة 1956. وقبلها فرض رئيس أول حكومة تأسيسية في تونس الطاهر بن عمار العيد اليهودي "يوم كابور" كعطلة رسمية في البلاد.
وبعد الثورة برزت أسماء يهودية تونسية كعناصر فاعلة في الساحة السياسية فرشحت حركة النهضة الإسلامية اليهودي التونسي سيمون سلامة على رأس قائمتها الانتخابية التي جرت في مايو/ أيار 2018.
وبيريز الطرابلسي هو والد وزير السياحة في حكومة يوسف الشاهد، رونيه الطرابلسي الذي تقلد الحقيبة الوزارية في تشرين الثاني/نوفمبر 2018 وأثار تعيينه وقتها جدلا في الأوساط التونسية لربطه بمسألة التطبيع مع إسرائيل.
ويُنظم موسم الحج إلى كنيس الغريبة كل عام في اليوم الـ 33 بعد عيد الفصح اليهودي حيث يحرص آلاف اليهود من مختلف دول العالم على زيارة الكنيس، غير أن عددهم تراجع بشكل كبير بعد هجوم انتحاري بشاحنة مفخخة استهدف الكنيس عام 2002 وأدى آنذاك إلى مقتل 21 شخصا.