هل انتهت الحرب؟ متى تبدأ؟

لم يتعلم العرب شيئا من الحروب التي طحنتهم.

هناك حرب تقع بين حرب وأخرى. سلسلة لا تنقطع من الحروب. ذلك أفضل. من أجل أن تعيش الحرب بألفة عليك أن لا تنساها. قيل "الحرب ليست نزهة" ولكن هناك مَن يعتبرها خيارا أشبه بالشر الذي لابد منه مثل الزواج تماما. يا لها من مفارقة. في الحرب تسبق الأجساد الأرواح إلى الرحيل ولأن الأرواح تظل حائرة فلابد لها أن تبحث عن أجساد لتستقر فيها. تلك فكاهة بوذية. عودة إلى فكرة التناسخ لكن عن طريق القتل. موت إضطراري ومجاني. إضطراري لأنه غير محتم ومجاني لأنه من غير هدف ولا ثمن. فكرة الموت المجاني ضرورية لإدامة الحروب. لن تستمر الحروب إذا ما أدركت البشرية أن ثمنها باهظ وسيعجز دعاتها عن دفعه. كان من حسن حظ بعض الشعوب أن الحروب اسقطت الأنظمة التي تحكمها. الشعب العراقي لم يكن من بينها بالرغم من أن النظام الذي حكمه أكثر من ثلاثة عقود كان قد قضى الجزء الأكبر منها في حروب أحرقت ثروة العراق البشرية والمادية. من سوء حظ العراقيين أنهم لم يتعلموا شيئا من دروس الماضي وكل الوقائع تؤكد أنه ما من أمل لحدوث ذلك. الشعوب لا تتعلم بالصدفة. كما أن الشعوب التي تتعلم تضع الحرب وراء ظهرها.  

كل الشعوب عبر التاريخ ذاقت ويلات الحروب ودفعت تكلفتها القاسية. لم تكن الحرب يوما ما جسرا إلى مستقبل وضاء أو حياة أفضل. العكس هو ما كان يحدث. وإذا كان السياسيون يكذبون دائما فإن العيب يكمن في الشعوب التي تصدق أقولا أثبت الواقع كذبها. كل الحروب، من غير استثناء كانت غير عادلة. أما الحرب العادلة فإنها اختراع سياسي لا يعيش إلا في ظل غياب مبدأ المساءلة. ليست هناك حرب عادلة. تلك جملة قد يجدها البعض قاصرة وقاسية ومستفزة، غير أنها تقول الحقيقة. حقيقة أن العدالة لا وجود لها إذا ما غابت روح الشفافية وانعدم مبدأ المساءلة. أرهق الألمان أوروبا بحروبهم غير أنهم ثابوا إلى رشدهم والتفتوا إلى عقولهم الجبارة التي صنعت فلسفة العصر الحديث وبنوا دولة عظيمة. اما العرب فقد طحنتهم الحروب عبر ألفي سنة وهو التاريخ الرسمي الذي يبدأ بـ"داحس والغبراء" من غير أن يضعوا في حساباتهم لحظة عقل واحدة. لا تزال الحرب ضرورية بالنسبة لهم كما لو أنهم لم يشبعوا من الهزائم. حتى المقاومون الذين يزعمون أنهم يحاربون أعدائهم انتصروا عليهم وسحقوا آمالهم في أن يبنوا دولا حديثة.

أسوأ ما فعله العرب أنهم انتقلوا من حق الدفاع عن الوطن إلى واجب الدفاع عن العقيدة. وفي الطريق المعقد بين الموقعين سقطت الكثير من القضايا الإنسانية. لقد صارت الحرب حروبا، تشن على الخارج والداخل بالقوة نفسها ولاندفاع نفسه والثقة نفسها. فالحرب التي يقتل العرب من خلالها بعضهم بعضا ليست بعيدة عن الحرب التي يشنونها ضد أعدائهم إذا ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. ما هو أكثر تعبيرا عن الواقع أن ينهمك العرب في حروب يعتقدون أنها تقربهم من فكرة الأمة الواحدة. أما العدو الخارجي فإنه مؤجل. لطالما سخر صدام حسين ومن بعده نصير أعدائه حسن نصرالله من العرب كونهم متخاذلين وجبناء وخائفين ومسلوبي الإرادة في الدفاع عن قضيتهم. وبالنتيجة فقد ضاع العراق الذي انتقل به صدام حسين من جحيم إلى آخر وتحول لبنان إلى نموذج للدولة الفاشلة التي تسرق أموال مواطنيها وتتستر على القتلة واللصوص. حين صارت العقيدة أهم من الوطن صار الإنسان مجرد شبح. شبح يمكن تخطيه ولا يحتاج قتله إلى شيء من التعب.

لم يتعلم العرب شيئا من الحروب التي طحنتهم. أولا لأنهم لم يعرفوا جيدا ما الذي حصل لهم. ثانيا لأنهم عاجزون عن فهم ما الذي جرى. ثالثا لأنهم واثقون من أن معرفتهم لن تغير في الأمر شيئا. رابعا ليس لأنهم غير قادرين على القيام بشيء، بل لأنهم قرروا أن لا يقوموا بشيء. متاهة ظلت الحروب تكتب سطورها على أرصفته دروبها التي لا تنتهي. وبين درب وآخر كانت التعاسة تصنع تلالا من الآلام التي يتم محوها لكي يمر مزيد من التعساء من غير أن يروا شيئا. لقد قُدر لنا أن نرى في الحرب حدثا طبيعيا، بحيث أنفقنا على دعاتها وحملة أسلحتها كل ما نملك من ثروة من غير أن نشعر بالخسارة. خسارة المال والزمن والحياة.