هل تتحمل المقاومة مسؤولية الحرب في غزة؟

لن تكون طاولة المفاوضات سخية بالعطاءات للشعب الفلسطيني الا اذا تزعزع الاستقرار في تل ابيب.

الملحمة البطولية التي يسطرها الابطال في غزة، ليست جديدة عليهم، وليست هي المرة الاولى التي يُقدم فيها الشعب الفلسطيني قوافل الشهداء، كما انها ليست المرة الاولى التي يتم فيها الاعتداء على البنية التحتية للاراضي المحتلة وتهشيمها.

نقول ذلك ردا على المقولات التي تحاول بعض الجهات تسويقها عبثا في الاعلام العربي والدولي، من قبيل أن المقاومة تتحمل مسؤولية التدمير الذي حدث، وانها سبب الغارات الاسرائيلية على قطاع غزة، وانها هي التي استفزت العدو الصهيوني ودفعته الى الهجوم على غزة ردا على الطوفان الذي اربك قادة الكيان المحتل وبعثر حساباتهم.

لذلك ومن باب تنشيط الذاكرة أود ان استعيد بعضا من الاحداث التي جرت خلال السنوات القليلة الماضية، وهي في مجملها اعتداءات جسيمة على الإنسانية في ارض فلسطين، وقعت جميعها قبل "طوفان الأقصى"، ودون ان يكون هناك اسباب أمنية او عسكرية.

وهي جرائم لا تقل سوءا ولا وحشية عن ما يجري حاليا في قطاع غزة، والعامل المشترك بينها أنها جميعا جاءت ابتداء واعتداء دون سبب مبرر، سوى سعي اسرائيل لتجريف الارض الفلسطينية من سكانها، وتهجيرهم قسرا، وتضييق سبل العيش الامن امامهم، لتمكين الصهاينة منها.

اشير هنا الى أربعة محاور من جملة السياسات الاسرائيلية التي مارسها الكيان الصهيوني بشكل ثابت ومنتظم بغض النظر عن وجود اعمال مقاومة من عدمها:

1- تدمير البيئة وتجفيف المياه: أشار التقرير الصادر من الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني عام 2009 الى أن إقامة المستعمرات تركت آثاراً مدمرة طالت جميع عناصر البيئة الفلسطينية، فبالإضافة إلى أعمال مصادرة الأراضي ومنع المواطنين الفلسطينيين من دخولها وممارسة أنشطتهم المختلفة، فإن هناك الكثير من مظاهر التدمير للبيئة الفلسطينية، من أبرزها استنزاف المياه الفلسطينية، والمياه العادمة، والنفايات الصلبة، وتلوث الهواء، والضجيج، وتدمير التراث الحضاري، وتدمير القطاع الزراعي.

واشار التقرير الى ان اكثر القطاعات تأثرا بنتائج سياسات التدمير هو قطاع غزة والذي يتميز بزيادة عدد السكان، وتسببت زيادة السكان على حساب الموارد المتاحة في تدهور البيئة الغزاوية ومعاناتها الشديدة من شح موارد المياه، والتي يتم استهلاكها بشكل جائر من قبل المستوطنات الاسرائيلية.

وقد اقدم الاحتلال على هدم مصادر المياه في العديد من البلدات الفلسطينية، ويشير تقرير وزارة الزراعة الفلسطيني إلى حجم التخريب في قطاع المياه والذي قام به الاحتلال في العام 2000/2001 فقط والتي لحقت اضرارها اكثر من 20 بلدة فلسطينية كالتالي:

- هدم 78 بئراً كاملة مع ملحقاتها.

- هدم 150 بركة ماء مع ملحقاتها.

- تدمير 43000 متر طولي من خطوط المياه.

- تجريف 2500 دونم من شبكات الري.

2- هدم المنازل: يعتبر هدم منازل المواطنين وتشريدهم من اكثر الجرائم الوحشية التي يمارسها الاحتلال الاسرائيلي بانتظام، غير عابئ بالقوانين والانظمة الدولية، والشواهد على ذلك كثيرة جدا واكثر من ان يتم احصائها، ويؤديها الصهاينة بوصفها عقابا جماعيا للسكان.

وتشير المعلومات والتقارير الحقوقية الى ان المحتل هدم أكثر من 500 قرية وبلدة فلسطينية بالكامل تشمل ما يقارب 200 الف منزل. شمل ذلك واقعة هدم منازل المواطنين في الضفة الغربية دون وجود اي سبب امني او عسكري، وفقا لتقرير أوتشا فقد هدمت السلطات الإسرائيلية 568 منزلا فلسطينيا ومبانٍ أخرى في الضفة الغربية والقدس الشرقية خلال العام 2003، ما أدى إلى تهجير 759 شخصا.

واشار منسق الأمم المتحدة لعملية السلام في الشرق الأوسط عن قيام السلطات الإسرائيلية، في السابع مايو الماضي، بهدم مدرسة ابتدائية، ممولة من الاتحاد الأوروبي لأطفال قرية جبة الذيب شرق بيت لحم بالمنطقة جيم في الضفة الغربية المحتلة.

وتنتهي المحادثات التي تتم بين الاحزاب الحاكمة للكيان المحتل في الكثير من الاحيان الى اتفاقات تتضمن تهجير سكان بعض البلدات الفلسطينية والاستحواذ على اراضيهم دون وجه حق، ودون وجود مبررات تذكر، وتمتلئ تقارير المنظمات الدولية بمثل هذه الاجراءات الجائرة على السكان في القطاعات المختلفة.

3- القتل المنظم: من المؤكد ان الحديث عن ممارسات القتل ضد الشعب الفلسطيني لا تتطلب اي دلائل او ارقام، فالدم الفلسطيني تم اسالته بالحرام من قبل القوات الاسرائيلية الغاصبة منذ اول يوم جرى فيه احتلال الاراضي الفلسطينية، ويكفي ما رصدته تقارير المنظمات الانسانية والحقوقية الدولية.

لكن اذا عدنا الى التقرير الصادر من منظمة هيومن رايتس ووتش في العام 2022/2023 وقبل أحداث طوفان الاقصى بعام كامل نجد انه اشار الى مقتل 34 طفلا فلسطينا في الضفة الغربية، وتشير المنظمة الى ان حوادث قتل الاطفال غير مرتبطة باي أعمال جنائية وانما اجراءات تعسفية من قبل قوات الاحتلال.

اشار التقرير مثلا الى واقعة قتل محمود السعدي (17 عاما)، الذي قتلته القوات الإسرائيلية أثناء سيره إلى المدرسة بالقرب من مخيم جنين للاجئين، حين اطلق عليه النار من مركبة عسكرية إسرائيلية دون ذنب.

وقد نبّهت الأمم المتحدة في العديد من تقاريرها إلى التحديات التي يواجهها الأطفال في الضفة الغربية وغزة، وهي تحديات كما وصفت في تقارير المنظمة: "لا يتخيلها الكثير من أقرانهم في شتى أرجاء العالم".

 وتلجأ سلطات الاحتلال الى استخدام القوة المفرطة مع الاطفال واطلاق النار على أعلى الجسد بما يؤدي الى الوفاة فورا عند نشوب المواجهات البسيطة والاعتيادية بين الفلسطينيين والاسرائيليين، ولا يتم محاسبة او ملاحقة القتلة بأي حال من الاحوال.

4- المسجد الاقصى: تعرض المسجد الاقصى والمصلين فيه منذ احتلاله عام 1967 إلى انتهاكات صارخة من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي التي لم تتوقف عن استفزاز الشعب الفلسطيني والاضرار بهم بشكل متعمد.

وتشمل هذه الانتهاكات اقتحامات المستوطنين، والحفريات تحت المسجد الاقصى والتي تسبب شقوق وتصدعات ببناء المسجد، وعمليات التهويد من خلال تحويل المناهج التعليمية الفلسطينية الى مناهج تعليمية اسرائيلية، ومنع الآذان. ثم منع إقامة صلاة الجمعة منذ العام 2017.

وفي كل المراحل يتم التصعيد من الجانب الاسرائيلي دون وجود اسباب امنية او عسكرية تستدعي ذلك، لازلنا نستذكر على سبيل المثال اقتحام أرييل شارون عام 2000م ساحات المسجد الأقصى المبارك، والذي كان شرارة انطلاق انتفاضة الأقصى.

وفي نهاية ذات العام ارتكبت قوات الاحتلال مجزرة بحق المئات من المصلين في المسجد الأقصى المبارك. وكررت ذلك في العام 2021 حيث ارتكبت القوات المحتلة عدوانا وحشيا بحق المصلين المعتكفين في المسجد الأقصى، وهاجمت مئات المصلين الفلسطينيين وأمطرتهم بوابل من الرصاص والقنابل المسيلة للدموع، وأحدث تدافعاً كبيراً على بوابات المسجد.

وفي مطلع هذا العام اقتحمت قوات كبيرة من شرطة الاحتلال باحات الأقصى، وأجبرت المصلين والمعتكفين على مغادرتها عنوة بعد ان اطلقت عليهم الرصاص المعدني المغلف بالمطاط وقنابل الغاز السام واعتقلت 400 شخص منهم، وبطشت بالنساء والاطفال، وكان هذا الاعتداء هو احد شرارات انطلاق طوفان الاقصى.

ما سبق سرده هو القليل من جرائم الحرب ضد الانسانية التي وقعت على الشعب الفلسطيني دون ذنب، وفي كل ما سبق ذكره كانت الاعتداءات تبدء من الجانب الاسرائيلي وضحيتها الشعب الاعزل في البلدات الفلسطينية المختلفة، ولم تفرق الالة العسكرية الاسرائيلية في جرائمها بين شيخ وشاب او رجل وامرأة او رجال كبار واطفال صغار، كما لم تفرق اليوم بين رجال المقاومة واستهداف القرى الآمنة.

ولم يتضح في كل الظروف التي مرت ان سكون الشعب الفلسطيني يقابله سلام واحترام ومنح حقوق، وانما على العكس من ذلك، فقد ثبت ان اسرائيل لا تفهم سوى لغة القوة ولا تشتم سوى رائحة البارود، ولن تكون طاولة المفاوضات سخية بالعطاءات للشعب الفلسطيني الا اذا تزعزع الاستقرار في تل ابيب ونواحيها، ودكت قواعد الجيش الاسرائيلي، فالحق يؤخذ ولا يعطى، وهذا هو العنوان الاستراتيجي والابرز لعملية "طوفان الأقصى".