هل كلنا مرضى نفسياً؟

جملة القول حول مفهوم المعنى أنَّ الإنسان حتى لو كان مُخدَراً في لُجج الأيام أكيد يلوحُ أمامه بلحظة ما السؤال عن معنى الحياة.

رحلة ديوجين الكلبي في شوارع أثينا وهو حامل لمصابحه باحثاً عن الإنسان في الزحمة لم تنته بعد.صحيح أنَّ عصوراً مديدةً تَفصلنا عن زمن هذا الفيلسوف المُشاكس، لكن لاتزال مشاحنته الكلامية مع أسكندر الأكبر تثير اهتمام المُؤمنين بدور صاحب الفكر في منازلة الطغيان وحماية الوعي من التزييف.

والمُتأمل في الحوار الذي يدور بين الإمبراطور والفيلسوف يكتشفُ بأنَّ الأول كان منفتحاً على الحكمة التي يجودُ بها فيلسوف البرميل حتى لو بدت عباراته في الظاهر قاسية بخلاف ما عليه السلاطين المُعاصرون من الإدمان على المديح والإطراءات التي ترضي غرورهم.على أية الحال ماهو قمينٍ بالمُعاينة في هذا الإطار هو صنيعه المعبر عن إشكالية مزمنة وهي غياب النسخة الحقيقية للذات الإنسانية وبالتالي الحياة التي يمضيها الفردُ ليست سوى شبحٍ يصعبُ عليه معرفة شكله نتيجة الانجرار في لعبة المُحاكاة البسيطة والاستسلام للإغراءات المتنوعة وبالطبع إنَّ ما ينسحبُ إلى الهامش في هذا المُناخ هو المعنى.

 قد ترى الأكثرية في التفكير بموضوع المعنى مضيعةً للوقت وتعقيداً لنمط العيش وقد لايجانب أصحاب هذا الموقف الصواب، لأنَّ الواقع مجبول بمُتناقضات غير مفهومة ولايمكن التفريط بالوقت الشحيح لسبر كنهها إلى أن يُنحتُ من كل ذلك مايسمى بالمعنى.

لماذا لانسلمُ بصحة ماوصانا به جان بول سارتر "يجبُ علينا أن نتقبلَ انعدام المعنى بشُجاعة وإقدام"؟ وفي الواقع إن الإنسان كما يقولُ ألبير كامو يتعودُ على العيشِ قبل أن يتعلمَ عادة التفكير.وهو يضيف مؤكداً بأنَّ المعنى ليس إلا سراباً لايتحقق.لكن المفكرَ المُعاصر آلان دوبوتون يختارُ زاوية مختلفة للنظر في مفهوم المعنى مُستطلعاَ في المشهد للإمكانيات التي تخففُ من هول الشعور بالعدمية.يعترفُ دوبوتون بأنَّ غاية الأغلبية ليست الإجابة بل تعتبر بأنَّ التطرق إلى هذا الموضوع لايقلُ خطورةً عن فتح صندوق باندورا.

الأقلية

يشيرُ الآن دوبوتون في مقدمة كتابه الأحدث "معنى الحياة" إلى أنَّ الحياة ذات المعنى لاتكونُ إلا من نصيب قديسين وفنانين أو باحثين ومُستكشفين.غير أنَّه من الخطأ أن نفهم مايذهب ُ إليه صاحب "عزاءات الفلسفة" بأنَّ محاولة الوصول إلى معنى الحياة من مستحقات هؤلاء الصفوة لأنَّ هذه الرؤية تناقض مايقدمهُ على صفحات الكتاب من القواعد التي يرى فيها أبجدية لتشكيل معنى الوجود.يلفتُ دوبوتون النظر إلى أن الحياة التي لها معنى قريبة من الحياة السعيدة لكنها مختلفة عنها اختلافا واضحاً فى نواحٍ عديدة منها.أنَّ الحياة التي تنبضُ بالمعنى تعتمدُ على جملةٍ من أعلى قدراتنا وهي لاتستعصي على التطبيق ومن الضروب تلك القدرات يذكر دبوتون الرقة، الاهتمام بالآخرين،والتواصل، وفهم الذات،والتعاطف،والذكاء والإبداع وفي هذا السياق لابُدَّ من تصحيح خطأ في النظرة التي تربطُ بين حياة ذات معنى والشعور بالرضى من واقعك اليومي ربما نعاني من مزاج سيء غير أن ذلك لايفرغ لحظاتك من المعنى كما من المحتمل أن تمضي يوماً طافحاً بالمسرات لكن الشعور بالخواء لايفارقك فالنشاطات التي تضيف المعنى إلى أيامنا ليست بالضرورة من النوع الذي نمارسه بالاستمرار بل مانقدره تقديراً عالياً ونعتقد عندما نفكر في موتنا بأننا سنفتقده كثيراً.يتساءلُ فيكتور إميل فرانكل إذا كان الصراع من أجل البقاء فماذا نتوخى من بقائنا؟ طبعاَ هنايكون الفردُ بمواجهة التحدي ولايصحُ له التقيد بما يُسدي إليه الآخرون،لأنَّ ما يصطلح عليه بأزمات المعنى مردهُ حسب رأي آلان دوبوتون هو وجود تعارض بين مانبحثُ عنه والتفسيرات التي تنهمر علينا. ومن ثمَّ مايجربهُ المرءُ على المستوى الشخصي من المحاولات والتأملات للتوصل إلى المعنى لايمكنُ تعميمه وبدوره يشددُ آلان دوبوتون بأنَّه يهدفُ من خلال الخيارات التي حددها في مبحثه الفكري الالتفات إلى أن حياتنا زاخرة بالمعنى.

مستندات المعنى

الوحدة هي الثغرة التي يتسربُ منها الشعورُ بالملل، وتعمقُ من حدة الفراغ النفسي الذي يعدُ تربةً مواتية ينموُ فيها اللامعنى وهذا لايتسدعي بنظر دوبوتون التخوف من الوحدة لأنها قد تمنحنا أكثر الأفكار تبصراً كما تكشفُ لنا أهمية الحب.ولا يفهم قيمةَ الحب إلا من تذوق مرارة الوحدة.ومن المعلوم  لا يجازفُ أي شخصٍ بالإفصاح عن الحوارات والأفكار التي تجول في خاطره لأنَّ ذلك قد يكلفه الصورة التي يتوقع منها المحيط غير أنَّ هذه الرقابة اللامرئية تسترخي قبضتها على الروح في رفقة من تحبهُ لأنَّ ماتقوله وتعبرُ عنه لايُحسب عليك إذن لاضير أن تبدوَ هشاً ومزاجياً وفكاهياً في التصرفات والمواقف.طالما تتحركُ بعيداً عن سيف التقييم والأحكام التي تلاحقك خارج منطقة الحب.

لايغيبُ البعدُ النفسي في رؤية دوبوتون لمفهوم الحب فهو يعتقدُ بأننا نبحثُ عن الصفات التي نفتقدها في أنفسنا لدى الآخرين الأمر الذي يؤكدُ بأنَّ الحب تعويضُ للاتكامل ضفْ إلى ذلك أن الأشياء تفارقُ شكلها المجرد في حالة الحب وتكتسبُ التفاصيل معنى وقيمة.واللافت في العلاقة العاطفية هو الرغبة الجسدية المتبادلة بين الطرفين والتعري من الخصوصية، مايعني أن العلاقة الجسدية مجازُ للحب على حد تعبير نيتشه.الإلتذاذ الحسي ليس كل ما يتبعُ الحميمية بل تكمنُ المسرة الكبرى وفق رأي مؤلف "عمارة السعادة" في الإدراك العقلي بأنَّ العزلة انتهت.بدوره يؤكدُ ماسلو بأنَّ الأشخاص الذين لايستطيعون الحب لايحصلون من الجنس على نفس نوع الإثارة التي يحصل عليها الأشخاص الذين يقدرون على الحب.

كسر الحصار

يضيفُ دوبوتون الأسرة إلى المعطيات التي يكسر حصار اللامعنى لأنَّ هذه المؤسسةَ تُعتبرُ مركزاً لمحاباة الأقارب بغير الخجل.والحدث الأكثر تعبيراً عن معجزة الحياة هو الإنجاب الذي تحتضنه البيئة الأسرية.ينبهُ دوبوتون بأنَّ تنشأة الطفل تتقضي معالجة المرء لأعظم سؤال تأسيسي في تاريخ الفلسفة: ماهي الحياة الحسنة؟ 

يتخذُ العمل موقعاً بارزاً ضمن مستندات المعنى كذلك الأمر بالنسبة إلى الصداقة والثقافة  مايجدرُ بالالتفات إليه ونحنُ بصدد الحديث عن دور المكون الثقافي هو رأي دوبوتون بشأن الكتب صدر إلى الآن حسب إحصائية لايذكرُ آلان دوبوتون مصدرها مئة وثلاثون ميلون كتابٍ ومن بين هذا العدد الضخم لايمكن لأي فرد  مهما كان مغرماً بالقراءة أن يتابع أكثر من ستة آلاف عنوانِ طيلة عمره ومايتركُ أثراً باقياً في الذهن لايتجاوز ثلاثين عنواناً،والمحظوظ من يكتشف العناوين المؤثرة قبل فوات الآوان.لايتجاهلُ دوبوتون مؤثرات أخرى في تشكيل المعنى منها التذوق الموسيقي والمظهر والسياسة هذا إضافة إلى التواصل مع الطبيعة  ومتابعة الرياضة التي تلهم الخيال وتجددُ الشعور بالتضامن والمشاركة مع الآخرين.

وبما أن الآن دوبوتون يحاولُ من خلال مشروعه المعرفي الإعادة بالفلسفة نحو صميم الواقع لذلك يحتلُ التأمل الفلسفي مكاناً مؤثراً في تشكيلة آليات منتجة للمعنى.كلما زاد التفكير تكن تسمية مايؤرقنا ويثير المخاوف والقلق أسهل.عليه فإنَّ مايخدمُ الصحة النفسية للإنسان ويكسبه التوازن هو وجود بيئة اجتماعية مناسبة لروحيته وبذلك يكون محصناً من الأمواج الخانقة لكن السؤال الذي يفرض نفسه هل تتحق هذه الغاية في عصر تعصفُ الاغراءات بماهية الإنسان وهو بات في مهب ما ينشر ويبث في وسائط متعددة؟ ما يفيدُ في هذا الفضاء المترع بالبطولات المصطنعة هو تحديد الأبطال الحقيقيين وهذا ما يشتغلُ عليه كارلو سترينغر في فصول كتابه المعنون ب"الخوف من الأفول " وهو يستعير من ميلان كونديرا عبارة "المعادلة الوجودية" موضحاً بأنَّ الحياة الحافلة ليست الحياة التي حلت فيها المعادلة الوجودية بل الحياة التي تعاشُ فيها هذه المعادلة بطريقة غنية مثمرة وخلاقة.بالعودة إلى دبوتون فهو يؤمنُ بأنَّ مايعيشهُ الإنسان حيادي  يستمدُ القمية من الطريقة التي تروى بها قصته.

جملة القول حول مفهوم المعنى أنَّ الإنسان حتى لو كان مُخدَراً في لُجج الأيام أكيد يلوحُ أمامه بلحظة ما السؤال عن معنى الحياة.

مع أنَّ السيد فرويد يكتب إلى الأميرة بونابرت قائلاً "في اللحظة التي يسألُ فيها المرء عن معنى الحياة وقيمتها يكون المرءُ يكون المرءُ مريضاً" هنا الأحرى بنا الانصراف نحو خيار الأدب فلغته أكثر شفافية وأقل تعقيداً من التفلسف والتحليل النفسي يقولُ نجيب محفوظ على لسان سمارة بهجت "إنها الحياة لا المعنى".