هل نعيشُ مرحلة ما بعد العقيدة؟

لا يمكن التفكير في موضوع الدين خارجاً عن المعادلة الإلغائية بين المواليين لتعاليمها.

تنبأَ الروائي الفرنسي أندريه مالرو بأنَّ القرن الحادي والعشرين إما لا يكون أو يكون قرناً دينياً. والغائب في منطوق النبوءة هو تحديد الشكل الديني الذي سيهمين بمظاهره على مفاصل الحياة ويتغلغلُ في أجندة الإنسان المُعاصر. هل يكون الدينُ عاملاً للاستقرار والاستباب الاجتماعي أو يذكي العصبيات الهامدة تحت قشور الحضارة؟ صحيح أنَّ ما يجمع بين المتدينين بغض النظر عن الاختلاف في العقائد هو التطلع إلى اللامتناهي أو الظمأ الانطولوجي حسب تعبير ميرسيا إلياد، غير أن هذا المشترك لم يمنع نشوب التناحر والصراعات الدموية بين أتباع الأديان والمذاهب. وبالطبع إنَّ كل طرفٍ يريد مصادرة مفهوم الحق وبالتالي لا يكون للآخر سوى صفة الباطل.

هل هذا يعني بأنَّ هناك نسخة وحيدة للدين تستمدُ شرعيتها من الصراع الأبدي وتقديم الأضحية من الدم؟ وبالتالي لا يمكن التفكير في موضوع الدين خارجاً عن المعادلة الإلغائية بين المواليين لتعاليمها؟ لا شكَّ بأنَّ تطويع الدين غطاءَ لأغراض سياسية أو لمصالح طبقية ظاهرة تضربُ بجذورها في التاريخ. وكما يقولُ ماركس فإنَّ الإنسان غالباً ما يتمُ استغلاله عن طريق العاملين الديني والاقتصادي ويمكن إضافة الشعور القومي أيضاً ضمن المشاريع الرامية لتدجين إرادة الفرد.

البعد الكوني

الأزمةُ الحقيقية لا تكمنُ في المثال الديني بقدر ما يكونُ في النظرة الاختزالية والرؤية السطحية لمُعطياته فالشكل السائد من أي ديانةٍ قد لا يعكسُ كل طبقاتها الفكرية الدفينة وأبعادها المُتعالية. ومن المعلوم إنَّ المناخ العام يلعب دوراً لافتاً في الترويج لنسق معين من الأفكار والأفهومات المُحددة.

والحال فإنَّ التراشق بين أتباع الأديان وإزهاق الأرواح في الحروب العقائدية والمذهبية يحتمانِ البحثَ عن زاوية جديدةٍ للنظر في جوهر الدين وإدراك مغزى منهاجه لعلَّ في ذلك إمكاناً بكشف المستور خلف أكمة عقائدية.

السياقُ هنا يستدعي من جديد التأكيد بأنَّه من الشطط التفكير والمطالبةُ بأقصاء الدين من واقع المُجتمع لأنَّ القيم الروحية تعبر عن التوق للخلاص الأبدي ومتضافرة مع مفاهيم الهوية والانتماء والتضامن. كما أن زيادة الوعي بالفناء حسب تحليل أرنست بيكر يقودُ إلى البحث عن الدفاعات التي تدعم حالة إنكار الموت.

هنا ما يواسي الروح هو الخلود الرمزي المتمثل في التماهي مع البطل والأيقونات والانضمام إلى المحفل التعبدي. أكثر من ذلك فإنَّ الإحساس الديني حسب رأي بنجنامين كونستان بمثابة قانون أساسي لطبيعة الإنسان. ويستمدُ الدينُ خصوصيته من الجواب الذي يقدمُه للسؤال المرهق بشأنِ معنى الوجود. وهو ما يعيدُ الباحثُ المغربي محمد عزوز طرحه في كتابه "فلسفة الدين بين التجربة الباطنية والتأمل النظري" بصيغة هايدغرية "لم كان هناك وجود وليس بالأحرى العدم؟" بخلاف ما يذهب إليه ماسلو في نظريته القائمة على التشكيل الهرمي للضرورات حيث يكونُ للاحتياجات الجسدية الأولوية فإنَّ فيكتور إميل فرانكل يرى بأنَّ الرغبة في المعنى قد تكونُ أكثر إلحاحاً وهو يذكر شواهدَ من تجربته في أوشفيتز على أنَّ تفاقم الخطر يضفي إلى استنفار طاقة الإنسان بحثاً عن المعنى.

ومن المعلوم أنَّ ما يقدمه الدين على هذا الصعيد يبدو مقنعاً أكثر وذلك لوضوحه وسده للفراغ النفسي. هل يفهمُ مما أسلف التلميحُ إليه حول العلاقة بين التعطش للمعنى والدين أنَّ البعد الروحي وما يتبعه من القلق على النهاية لا يمكنُ مواجهته إلا من خلال القول الديني؟ ماذا عن الفلسفة؟ أين يتقاطعُ المبحثانُ اللاهوتي والفلسفي؟ ألم يقل شوبنهاور: لولا الخوف من الموتِ لما كانَ الدين ولا الفلسفة؟ إذن لماذا لا يكونُ التعويل على الخطاب الفلسفي؟ وبالفعل إنَّ ما يقولهُ أبيقور عن السيناريو الأخير واضحُ ولا يخلو من المنطق فبرأيه إنَّ الموت ليس حدثاً بالنسبة للميت لأنّه قد تحول إلى كتلةٍ لم تعد مدركةً للأشياء ما يؤلمُ منها أو ما يُمتع. أما عن تحسر الإنسان لاستمرار الحفلة بعد غيابه يحتجُ المذهب الأبيقوري مجادلاً لماذا لا يتألمُ المرءُ على الفترة الزمنية التي سبقت ولادته ولم يدركها؟ أليس ما يعقبُ موته هو بمنزلةِ ما لم يعشه قبل وجوده؟

لا يتوقعُ كارلو سترينجر أن تلغي الحجج الأبيقورية الخوف الإنساني من الموت موضحاً بأنَ مصدر هذا الخوف لا يستندُ على أساس عقلاني بل جزءُ من الموروث البيلوجي. وما يصعبُ التحول من اللاهوت إلى العقل هو أن السرديات الدينية يقبلُ بها الإنسانُ أسلوباً للحياة مُتمظهرةَ قواعدها في الشعائر والطقوس الحامية للتماسك العقائدي بينما العقلانية دونها العقبة الكأداء قبل أن تتجلى مبادئها في شكل الحياة لدى الفرد أما بشأن المسافة الفاصلة بين العقلانية والجموع فحدِثْ ولا حرجْ. كما أنَّ النظر إلى الكون بوصفه مجالاً طبيعياً يمكن فهم قوانينه حسب المنطق العقلاني أمر جديد للفهم البشري. هل يعني ذلك بأنَّ الفصل بين الدين والفلسفة حتميُ ولامجال لإيجاد الأرضية المشتركة لأنَّ بينهما برزخاً لا يلتقيان؟

ما بعد العقيدة

ما يجبُ تحديده قبل الحديث عن إمكانية التواصل بين الدين والفلسفة هو أن الدين فطري وليس مترادفاً للمذهب والعقيدة وكما يقول محمد مزوز أنَّ المراد بالدين هو إدراك فردي لحقيقة كونية فيما العقيدة من طبيعة جماعية تخص أمة وشعباً ولا يتحطمُ الجدار العقائدي إلا من خلال النظرة الفلسفية وهي تستكشفُ منطقة محايدة للبحث عن الجوهري في الأديان وليس الشكليات. لذلك فإنَّ مكونات الخطاب العقائدي تقع خارج ما يسميه الفيلسوف الألماني كانط بـ"الإيمان الحر" الذي يقومُ على القيمة الأخلاقية ولا ينتظرُ صاحبهُ الثواب والعقاب. ان ما يكسبُ رؤية كانط لمفهوم الدين فرادة حسب الباحث الفرنسي جان غروندان أن مؤلف "نقد العقل الخالص" لم يؤسس الإيمان العقلي على تصور الله مستخلص من نظام الطبيعة بل استنبطه من القانون الأخلاقي المسجل في قلب كل إنسان. لذلك فإنَّ السعادة الإلهية لا يمكنُ تذوقها إلا بواسطة السلوك الأخلاقي.

هنا تستشفُ التناضح بين الفهم الكانطي والرؤية الصوفية للدين إذ يهتمُ الخطان على الجانب السلوكي في التدين يقولُ الحسن البصري: "إن الفتى إذا نسك لم نعرفه بمنطقه إنما نعرفه بعمله وذلك العلم النافع". ويصلُ الصوفي إلى مرتبة ما وراء الثواب والعقاب ولا يتفانى في المعبود خوفاً من النار ولا رغبةً في الجنة. يقول جنيد "إذا خاف المرءُ فإنَّ هذا دليل على أنَّه غير واثق من ربه".

إنَّ الفيلسوف لا يهمه التفاضل بين الأديان بقدر ما ينفتحُ على مختلف التيارات راصداً المبدأ المشترك في سلسلة اللحظات الدينية كذلك الأمر بالنسبة للمتصوف فقلبه مشرعُ على النفحة الإيمانية أيا كان مصدرها وتعكسُ نصيحة الشيخ الأكبر ابن عربي الحيوية في فهم الدين "إياك أن تتقيدَ بعقد مخصوص وتُكفر بما سواه فكن في نفسك هيولي لصور المعتقدات كلها، فإنَّ الله تعالى أوسع وأعظم من أن يحصره عقد دون عقد". وهذا ما تسمعهُ أيضاً من الحلاج الذي يؤمن بأن أصل الدين واحد وإنْ ظهرت له شعب متعددة.

وما تم تصدي له آنفاً ليس كل ما يتقاطعُ فيه الصوفي مع الفهم الفلسفي للدين، بل أن التواضع وعدم إطلاق الأحكام على المختلف هو أبرز ما يجمع ُ الصوفي ورواد الفلسفة العملية ولم ينقل عن المتصوفين الفتاوى ضد من لا يؤمن بالمعتقدات الدينية ما يعني أنَّ المنهاج الصوفي أبعد ما يكون عن التحجر والنفس العدواني، ويقوم مبدأه على المعادلة اللاصفرية.

إضافة إلى ما سبق الإشارة إليه فإنَّ التفلسف والتصوف كليهما يأخذ الدينامية من المزاج والتذوق كما توجدُ المدارس الفلسفية المتعددة ولا ضير من أن يقتات الطالبُ على موائدها يلاحظُ المتابعُ أيضاً وجود المسالك الصوفية بألوان مختلفة يمكنُ التذوق من رحيقها الروحي دون أن تكون من أتباع هذا الاتجاه أو ذاك التيار بالضرورة إذن ليس هناك وصفة محددةُ يمكن تعميمها في التصوف والفلسفة.

قصارى القول في هذا المقام أنَّ مقابل التدين المتشنج والانغلاقي تقع على التدين الحيوي المنفتح لا يشغله المظهر ولا الاستعلاء الديني بل التجدد والانسلاخ من الجلد العقائدي الذي لا يمثلُ صورة الحق بقدر ما هو متشبعُ بالنزعة الأنانية.