هيثم، أيقونة عائلتنا وجوهرتها النفيسة
رحل هيثم.. أيقونة عائلتنا، بعد قتال شرس مع المرض البغيض. واجهه بثبات المؤمن الصابر دون أن يُشعر من حوله بثقل الألم. حرص ألا يخبر أحدًا بمرضه إلا قلةً من المقربين، كي لا يُثقل على أحد أو يُقلق من يحبهم. حتى في لحظاته الصعبة، لا يحب أن يزعج أحدًا، ولا أن يكون سببًا في حزن أحد. عايشت هيثم طفلا وشابا ورجلا. تهرب الكلمات خجلا عن وصفه. كان في عيون عائلتنا جوهرة نفيسة، بل كان ركيزة من ركائزها، يُنير مجالسها بعقله الراجح، لم يكن مجرد فرد منها، بل كان قلبًا نابضًا بالحب، وصوتًا هادئا عاقلاً في لحظات التوتر، وملاذًا آمنًا لكل من قصده بالرأي أو بالمساعدة. في حياته، نسج روابط متينة بين أفراد العائلة، وفي غيابه ترك فراغًا لا تملأه سوى الذكرى الطيبة والدعاء المستمر.
كان هيثم جوادًا كريم النفس إلى أبعد الحدود، لا ينتظر مناسبة ليمنح، ولا يسأل إن كان العطاء سيُقدَّر. عاشقًا حقيقيًا لفكرة الدعم والمساندة، لم يُفرّق يومًا بين صديق وقريب، فالجميع عنده أهلٌ يستحقون المحبة. وكما أتذكر لخّص الأستاذ كرم نعمة صديقه وزميله نبل هيثم الإنساني بعبارة بليغة قال فيها "كان هيثم يعمل ويده تطعم الآخرين،" إشارة إلى عنايته بالناس حتى في تفاصيلهم الصغيرة، وتقديمه حاجاتهم على نفسه دون تردد.
أبدى هيثم ذكاءً حادًا في وقت مبكر، إذ كان دائمًا متقدمًا بخطوات واسعة على أقرانه في مختلف مراحل دراسته. لفت الأنظار بتفوّقه وبرز منذ صغره بعقله الراجح وقدرته على الاستيعاب العميق، فكان تميّزه المبكر دليلا على ما سيكون عليه لاحقًا من تفوّق علمي وفكري استثنائي.
طوال فترة مرضه، كنا نتواصل هاتفيًا بانتظام وكلما طلبت لقاءه، كان يجيبني بابتسامته المعهودة. "لاحقًا إن شاء الله.. عندما أنهي العلاج." كان يخبئ ألمًا كبيرًا خلف كلمات بسيطة، ويترك الباب مفتوحًا دومًا.
ما أوسع قلبك، وما أرجح عقلك، وما أقوى صبرك يا هيثم، أي رجل أنت لتسع كل هذا؟ كنت تمضي وسط الألم صامتًا، لكنك كنت تُعلّمنا في كل لحظة معنى الشجاعة. لم يثقلك المرض وظللت كما أنت: عميق الرؤية، واسع الصدر في أحلك اللحظات، معدنك لا يتكرر.
وجاءت فرصة اللقاء المنتظرة وتمت الزيارة في نهاية أكتوبر- تشرين الأول التي امتدت عشرة أيام أي قبل سبعة أشهر فقط، حيث شهدت حالته الصحية بعض الاستقرار النسبي. استذكرنا فيها العديد من المحطات من حياتنا ودار بيننا العديد من الحوارات المعمقة. رغم وطأة المرض، لم يشتكِ، ولم يُظهر وهنًا. كنت أرجوه ألا يُجهد نفسه، فيبتسم ويقول بهدوء الواثق "أنا لا أعيش الوهم. أعلم تمامًا طبيعة مرضي، وأقاومه بالعمل الجاد." كان يستيقظ كعادته مبكرًا، عند الخامسة صباحًا ليبدأ اتصالاته مع جهات ومؤسسات في دول مختلفة، مستفيدًا من فروقات التوقيت أو لينهمك في الكتابة أو القراءة.
تحدّثنا كثيرًا عن التحولات العميقة التي تشهدها المنطقة، وعن المشهد الثقافي العربي وتحدياته. كان حاضر الذهن، واسع الأفق، متمسكًا بقدرته على العطاء حتى آخر لحظة، وكأن العمل كان بالنسبة إليه نوعًا من المقاومة الهادئة والنبيلة. وحتى في أكثر الأحاديث جدّيةً وعمقًا، لم تكن تعليقاته الساخرة تغيب، تلك التي كانت تعكس روحه النبيلة وشفافيته الصادقة.
وما أدهشني على وجه الخصوص، اطلاعه العميق على المغرب، تاريخًا وثقافةً وشعبًا. وجدت فيه عقلًا متبحرًا في تفاصيل المغرب القديم والحديث، لا من موقع المتابع العابر، بل من موقع العارف المحلل. تحدث مطولًا عن دور المغرب في رفد المشهد الثقافي العربي، وعن كتابه ومفكريه وروح الانفتاح التي تميز ثقافته. كان يُعجب بثراء التراث المغربي، وبالشخصية الوطنية المغربية التي تمزج بين الاعتزاز بالهوية والانفتاح على العالم. وكان يرى فيه نموذجًا عربيًا يمكن الاستفادة منه في بناء مسارات معرفية ومجتمعية متوازنة.
ومن بين أحاديثنا الطويلة، سألته عن هواياته المبكرة، ومن بينها جمع الطوابع وما إذا كانت مشاغل الحياة اليومية قد أنسته إياها. ابتسم، وقال وكأن السؤال أيقظ شيئًا عزيزًا في ذاكرته "لا.. لم أنسَ. جمع الطوابع ما زال يسكنني." كان قد بدأ هذه الهواية منذ مرحلة مبكرة جدًا من حياته، وعلى الأرجح كما أتذكر في سنوات دراسته المتوسطة. ثم نهض فجأة، وقادنا – نحن أفراد العائلة – إلى جولة غير متوقعة، لكنها كانت أكثر من رائعة، عبر عشرات الألبومات المفهرسة تاريخيًا وحسب الدول، والمصنّفة ضمن مجموعات منظمة بعناية احترافية. توقف عند بعض الطوابع ليحكي لنا قصصها، كأنها ليست مجرد قطع ورقية، بل شهادات على تاريخ طويل، ورسائل صامتة من أماكن بعيدة وزمنٍ مضى. كان شغوفًا، دقيقًا، يملك حس الأرشفة، وعين المؤرخ. كانت تلك الجولة داخل مكتبته الخاصة، رحلة أخرى داخل ذاكرته.. رحلة أكدت لنا أن هيثم، رغم انشغالاته الكثيرة، لم يتخلَّ يومًا عن هواياته المبكرة التي عشقها.
من بين المواضيع العديدة التي تناولتها أحاديثنا، أعاد لي قصة تعرّف الدكتور عامر حسن علي عليه في المستشفى. وهي القصة التي كان قد رواها لي سابقًا عبر الهاتف، لكنه هذه المرة سردها بتفاصيل أعمق، وبنبرة امتنان صادقة لجهود الدكتور، ومقدّرًا نبل أخلاقه. إن هذه القصة تصلح لأن تكون عملًا روائيًا لما تحمله من مغزى إنساني كبير.
كان هيثم معبرًا صادقًا وحقيقيًا لفلسفة "الآخر" لم يكن ينظر إلى الاختلاف الثقافي كحاجز، بل كفرصة للحوار والتكامل.
تبنّى هذه الفلسفة في تعامله مع الثقافات المختلفة، وفي كتاباته التي سعت دومًا إلى تفكيك الصور النمطية، وإعادة تقديم الإنسان العربي للعالم بصورته المتنوعة، المبدعة والأصيلة. كان يؤمن أن واحدة من أرقى مهام الصحافة في المهجر هي تجسير العلاقة بين الوطن الأم والأمم الأخرى، والتأسيس لحوار حضاري مستمر عبر أدوات الإعلام والمعرفة. فكانت هذه القناعة دافعًا وراء تأسيسه منصات إعلامية وثقافية متعددة اللغات، شملت العربية والإنكليزية والإسبانية والتركية. لم تكن هذه المنصات مجرد واجهات نشر، بل أصبحت مع مرور الوقت مصدرًا معتمدًا للباحثين ومراكز الدراسات الأجنبية، تسلط الضوء على قضايا العرب بمنطق العقل وبأسلوب بعيد عن النمطية المعروفة. وكان هدفه واضحًا أن تكون الرواية العربية حاضرة بلغات العالم، لا غائبة أو مشوهة.
وقد كان هيثم من أوائل الرواد الذين أدركوا مبكرًا أهمية التحول الرقمي في الإعلام، فأسس منصة ميدل إيست أونلاين عام 2000 باللغتين العربية والإنكليزية أي قبل خمسة وعشرين عاماَ في وقت كانت فيه الإنترنت لا تزال تخطو خطواتها الأولى في المنطقة لتكون من أوائل المبادرات الرقمية العربية المستقلة. شكلت هذه المنصة نقطة تحوّل في طريقة تناول القضايا العربية وإيصالها إلى الجمهور العالمي بلغته ومفرداته.
وفي إطار هذا المشروع الإعلامي الطموح، كان لهيثم دور بارز في مؤسسة العرب، حيث عمل إلى جانب صديقه ورفيق دربه الصحافي محمد الهوني وفريق تحرير متماسك، على إرساء رؤية صحفية جديدة للعمل الإعلامي في المهجر. رؤيةٌ تجمع بين المهنية العالية والانفتاح على ثقافات العالم، وتنهض بمسؤولية تقديم الشأن العربي للعالم بمنطق عقلاني، ومنظور إنساني معاصر. وتحولت العرب إلى واحدة من أولى التجارب العربية الجادة التي تواكب العالم بلغة مهنية ورؤية ثقافية عميقة. وحاضر الدكتور هيثم عن أهمية التحول الرقمي في القرن الحادي والعشرين في العديد من الملتقيات الثقافية والإعلامية. دعا هيثم إلى مواكبة العصر لا تقنيًا فقط، بل فكريًا ومؤسسيًا، انطلاقًا من قناعة بأن من يملك أدوات التعبير الحديثة، يملك أيضًا فرصة التأثير والتغيير.
كان هيثم يفكّر دائمًا خارج الصندوق. يتفحّص الأحداث لا بعيون الحاضر وحده، بل ببصيرة تمتد إلى ما وراء اللحظة، يستشرف نتائجها بطرق غير مألوفة، وينظر إليها من زوايا لا تخطر على بال الكثيرين. امتلك أدوات تحليل متقدمة، جمعت ما بين مهارة التفكير النقدي وعقلية المهندس البارع، وخلفية الفيزيائي، ومعرفة المؤرخ، وفهم العارف بثقافة المنطقة وسياقاتها المتشابكة. فكّك التعقيدات بفكر منظم ومنهجي. لم يكن يكتفي بالسطح، بل كان دائم الغوص في الأعماق بحثًا عن المعنى الحقيقي خلف الظواهر والأحداث.
في لحظة من الصمت المهيب، حيث ترقد القامات الفكرية بهدوء استقر جسد الدكتور هيثم الزبيدي في مأواه الأخير، لكنه لم يترك الذاكرة ولا غادر الوجدان. شاءت الإرادة الإلهية أن تنبت بجوار قبره شجرة زيتون، قلّ أن تنبت في تلك البقاع. لم تكن مجرد مصادفة نباتية، بل رمزًا لا تخطئه العين. شجرة زيتون وحيدة في المكان، لكن حضورها كان بليغًا، وكأنها نبتت لتحمل رسالة: تقول: هنا يرقد رجل عاش للسلام، ونذر فكره للمحبة، وامتدت سيرته عبر الحدود واللغات والثقافات.
تبقى في القلب الكثير من الذكريات، وفي الذاكرة عشرات المآثر والمواقف التي لا يتسع لها هذا النص. لأن هيثم لم يكن عابرًا في حياتنا، بل كان بصمة وأثرًا. نرثيه الآن بالكلمات، لكنه باقٍ فينا بالروح، بالفكر، وبكل ما قدّمه.. وداعًا هيثم، يا من علمتنا أن الكبار لا يرحلون، بل يخلدهم أثرهم.
--------------------------------------------------
د. خيري الزبيدي
رئيس تحرير مجلة اللغة الإنجليزية في العالم العربي