وصايا سمِيح القاسم الشّعرية والشغف صوب الاحتجاب

أعظم إنجازات الشعب الفلسطيني عبر سنوات نضاله ليست في استشهاد أبطاله ولكن في إنتاج شعرائه، فالشهداء يتساقطون خارج حدود القصيدة لكن القصيدة تمنحهم الحياة مرة أخرى، فينتصبون بداخلها رمزاً جديداً لمزيد من الاستشهاد.

ثمَّة وصايا:

ربما ثمة روابط وشيجة تجمع بين الوصايا وأصحابها؛ تتمثل في حالة الإبداع الجماهيرية التي صنعتها أعمالهم، فضلا عن كون أصحابها أيضا لم يعتبروا الأدب حرفة أو صنعة أو وسيلة لكسب العيش فحسب، بل إن احتراف الكتابة لدى هؤلاء بمثابة تجسيد للتاريخ الآني الذي يعيشون فيه، وأنهم بحق صاروا في مصاف كتَّاب التاريخ الذين يسجلون أحداث الزمان بأقلامهم، ثم يسجلون شهادتهم التاريخية على هذه الأحداث أيضا.

ويبقى السؤال الذي وضعه كبار مفكري عصر النهضة الأدبية المعاصرة منذ سبعينيات القرن المنصرم  قائما بالذهن: إلى أين تأخذنا هذه الوصايا؟.

يرى بعضهم أن الوصايا تأخذنا لقراءة أدب هؤلاء، بينما يرى بعض آخر أن الوصايا كفيلة بتخليد ذكر بعض المبدعين من الشعراء، أما من تبقى فيرى ضرورة الاهتمام بالحالة الأدبية العربية وربما العالمية أيضا لأن الأدب في طريقه للمحو في ظل عالم مادي تكنولوجي يصارع البقاء.

لكن هذه الوصايا بجانب كل ادعاءات البعض والكثيرين أيضا تستهدف أمرا آخر؛ الأدب هو مرآة التاريخ، ولم يعد أدب الخيال العلمي وفن الافتراضات التخيلية محط اهتمام في عالم استحال فيه الذكاء الاصطناعي واقعا حيا ملموسا ومشهودا، وربما غفل المؤرخون قليلا ويئس بعض منهم كذلك في رصد وتسجيل واقعنا الحديث والمعاصر، فجاء الأدب الحي، نعم الحي الذي رصد وفسَّر وكتب سطورا تاريخية بلغة أدبية كشاهد عيان على تاريخ مَرَّ من هنا ويستحق اكتراثا كثيرا وطويلا من التأمل والتدبر والتأويل.

والنص الأدبي المعاصر يحتاج إلى قراءة متدبرة واعية تصل إلى حد تأويل المقروء هدفها تعرف مبنى النص ومعناه، حيث يرى النقاد المعاصرون أن قراءة النص الأدبي تتنوع بين القراءة الأدائية التي تصل إلى مستوى القراءة الجمالية، أو قراءة فلسفية، وهذه الأخيرة هي أرقى أنواع القراءات لأنها إبداعية تتعامل مع النص من خلال القراءة الإسقاطية للقارئ والكشف عن البنى الداخلية له وتأويلها.  وتعد القراءة المعاصرة " نشاطا فكريا يشحذ قدرات المتعلمين ويمكنهم من إعادة صياغة العالم، ويزيد من قدرتهم على مواجهة الحياة بصورة أفضل، وهي نشاط فكري وليد هذا التمازج بين التوافق والتباين والتوقعات والمفاجآت.  والقراءة الإبداعية بوصفها إحدى نواتج التعلم للتربية اللغوية المقصودة لا تكتفي بجعل القارئ مستوعبا فقط لما يقرأ وناقدا له فحسب، بل تتعدى ذلك صوب التعمق في النص المقروء، والسعي لإيجاد علاقات وروابط جديدة بين أفكاره ومكوناته، وإبراز حلول متنوعة للمشكلات التي يطرحها النص الأدبي.

وإذا كانت التربية اللغوية المعاصرة تكرس لفعل الحرية وتعززه، وهي في نهاية الأمر تهدف ـ بإجراءات مخططة ـ لإكساب المتعلم آليات المشاركة في النسق الاجتماعي اللغوي، فإن القراءة الإبداعية تعد تجسيدًا مطابقا لفعل الحرية الذي تركز عليه التربية اللغوية المعاصرة كونها تضمن تفاعل القارئ مع النص المقروء تفاعلا واعيا يستخدم من خلاله مهارات التفكير الإبداعي، فيقوم بإنتاج احتمالات عقلية متنوعة، ويطرح علاقات وتراكيب متعددة وأصيلة، معتمدا في ذلك على المعلومات والطروحات الواردة بالنص بعد صهرها بخبرات القارئ السابقة في إطار من الطلاقة والمرونة والأصالة والتوسع.

ويغدو الشعر بوصفه طاقة خلاقة للتغيير، ومحاولة لمبارزة مقولة الشاعر العربي الكبير والاستثنائي " أدونيس " التي يقول فيها : " ماذا يقدر أن يفعله الشعر ورجلاه قيود وعلى عينيه أسوار الظلام".  

هنا تأتي القصيدة ليست بوصفها الاعتيادي جملة من الكلمات والمشاعر والأحاسيس التي يمكن تسجيلها في خطاب غرامي، أو سرد حزين لفقدان الوطن والحنين إليه في الغربة، بل القصيدة الثورة التي تمتلك كافة مقومات التنوير والتثوير والتجديد بوصف الشعر عنصرا ثابتا ومقوما رئيسا من مقومات تجديد الفكر العربي لذا فاختيار الشعراء هرب طويلا وبعيدا عن شعراء يمثلون أعمدة الشعر العربي كأحمد شوقي والبارودي والسياب وحافظ إبراهيم وفدوى طوقان وإبراهيم ناجي وغيرهم، ولجأ إلى أصوات شعرية تشبه وجوهنا وبشرتنا وربما وَجْدِنا اللامنتهي كذلك لتاريخ كنا نحلم بقاءه طويلا.

إن أسوأ عاداتنا النقدية التي تربينا في كنفها الارتكان صوب الصوت والحركة واللون والعاطفة المسيطرة والتجربة الشعورية، تلك العلامات غير المضيئة التي اعتادت الكتب المدرسية أن تلقنها للتلاميذ في المدارس ومن ثم نشأ جيل كامل وكبير يرى في القصيدة ألوانا وحركات وعواطف ومشاعر وأحاسيس فحسب، دون التطرق إلى كنه القصيدة بوصفها نصًّا تجاوز اللغة إلى تخوم الفكر والرؤية التي تهرع نحو التغيير والتجديد.

هذا ما نجده بالضرورة في النصوص الشعرية لمحمود درويش وسميح القاسم وأدونيس وبالقطع لدى محمد عفيفي مطر الأقرب للرمز الصوفي المطلق، ونزار قباني الذي جعل من ألفاظ اللغة قنابل غير موقوتة قابلة لتفجير المخيلة العربية الراسخة في ظنونها وسباتها الطويل.

ذَاكَ الصَّوْتُ. . أنَا:

أن تكون صوتك أنت وحدك، إذن فعليك أن تمشي منتصب القامة، وكفيل بك أن تظل القصيدة وكلماتك مريديك الذين لا يغادرون النظم والقافية، بهذه الكلمات العابرة ننفذ إلى عوالم الشاعر الاستثنائي سميح القاسم مستندين إلى أدواته الشعرية التي اعتاد استخدامها حينما كان يكرس هو وصاحبه محمود درويش الأكثر حضوراً ودهشة لدولة الشعر المعاصر، في الوقت الذي فقدت بعض الحكومات العربية ظلالها وسقطت أوراقها التي كانت تتنتقب خلفها كانت القصائد التي تأتي إلينا من كليهما كفيلة بتدشين حكومة لا يمكن اتهامها بالتقصير أو التقاعس، لاسيما وأن الجمهور لديهما لا يعرف ميادين التظاهر، وشعبهما الشعري لا يؤمن بمنطق الاحتجاجات لسبب قد يبدو عميقاً، أن كليهما الثورة والحدث.  

ولا أعرف على وجه اليقين الاعتقاد الذي ظل يلازمني لسنوات بعيدة أن سميح القاسم هو الذي قرر طوعاً وليس كرهاً لأن يقدم نفسه قرباناً للشعر الأخير الذي دخل مضطرا في معركة الحداثة التي سعت إلى النيل من هوية الشعر وبالفعل تغيرت الأقنعة وتبدلت واختلفت الأصوات الشعرية بقدر حجم اختفائها أيضاً، إلا أن سميح القاسم نجح حينما قدم نفسه قرباناً للقصيدة في الحفاظ على صوته، بل يمكن القول مجازاً بأن الشعر كما تسرد كتب النقد والتأويل لا يقوم بدون الخيال، لكن سميح القاسم دحض الفكرة بمنطق جديد وهو أن الشعر لا يقوم بدون الجمهور لأنه في حالة سميح القاسم الشعرية هو الذي يصنع الخيال، وإذا كان سميح القاسم يفجر ثورة الشعر فإن جمهوره العريض هو الذي يكسب هذه الثورة أبعادها الاستعارية ودلالاتها الرمزية.

وَجْهَا القَصِيْدَةِ. . شَاعِرٌ وقَضِيَّةٌ:

وربما في حالة سميح القاسم الشعرية والتي تفيض بدلالات استثنائية تشبه بعض الشئ مواجيد محمود درويش الشعرية، نستقرئ أنه استطاع بفضل جمهور القصيدة الوفي أن يستحيل هو نفسه قضية الشعر بعد أن نجح في جعل قصيدة الانتفاضة والأراضي المحتلة القضية الأرض لديه ولدى جمهوره، ومن الصعب نسبياً أن يفلح شاعر معاصر في الوصول إلى قرائه باعتباره قضية في حد ذاتها بجانب القضية الأبرز حضوراً في قصائده.  

ففي قصيدته " مقابلة مع المدير" نرى وضوح الجانب الذاتي عند سميح القاسم الذي سيتنامى بعد ذلك لدى القارئ حتى يصير متلهفاً لقنص حكايا الشاعر الذاتية، والتقاط التفاصيل المدهشة عن حياته والمنظومة شعراً، يقول سميح القاسم :

( وضاع شهر آخر/ في البحث عن عمل/ في مصنع الحزن / وفي دائرة الملل/ وضربوا لي موعداً لألتقي بحضرة المدير.  / كانت على المقعد،/ خلف مكتب المدير/ طائرة مقاتله/ وانتهت المقابله !.  ).

وهذا التنامي ربما غير المقصود من سميح القاسم في أن يصير هو القضية كما كانت الانتفاضة قضية رئيسة في شعره، وكما صارت غزة عروساً استثنائية حاضرة على الدوام في مجمل دواوينه، هذا التنامي جعله لا شعورياً أن يسير على نفس درب صديقه الرائع محمود درويش في أن يكون ملتحفاً بالمكان الذي صار قطعة منه، وصار هو أحد تفاصيله، ففي قصيدته ( غزة ) التي يشير في مطلعها إلى تفاصيل المشهد هناك من موتى وأسلحة وغول وعنقاء وسجن كبير واعترافه الشعري الأكثر شهوداً بقوله " قد تموت في الفجر ـ غزة ـ قد تموت ! "، نجده في نهاية القصيدة يعلن أنه غزة بتفاصيلها المادية والإنسانية، يقول سميح القاسم في نهاية قصيدة غزة :

ولا أزال ،/ يا حبي المحظور، /طفلاً لاهياً في ساحتك / وفتى ينازل غاصبيك، على تراب أزقتك / وأنا القتيل على الرصيف / وأنا الأشداء الوقوف /وأنا البيوت. . البرتقال. ./ أنا العذاب. ./ أنا الصمود. ./ أنا المئات / أنا الألوف / اليوم صار على المحبين اختيار الموت / أو أبد الفراق / اليوم عروس دمي المراق / وأنا. . وأنتِ / نعيش يا حبي المقاوم / أو نموت!.

وفكرة العناق هذه نجدها بوضوح أيضاً عند محمود درويش ومشروعه الشعري المتفرد، لاسيما في قصية "الأرض" الذي يخلق من خلالها نفس الحالة التي وجدناها عند سميح القاسم في قصيدته "غزة" فنقرأ في قصيدة الأرض لمحمود درويش حالة التمازج الطبيعي بين الشاعر والمكان، يقول درويش :

"أنا الأرض../ يا أيها الذاهبون إلى حبة القمح في مهدها /احرثوا جسدي !/ أيها الذاهبون إلى جبل النار/ مروا على جسدي/ أيها الذاهبون إلى صخرة القدس/ مروا على جسدي/ أيها العابرون على جسدي/ لن تمروا/ أنا الأرض في جسد/ لن تمروا/ أنا الأرض في صحوها/ لن تمروا...".

وعلى هذا النهج نرى قصيدة ( 30 آذار ) وهو اليوم الذي أعلن يوماً للأرض، وكما يقول سميح القاسم نفسه عن هذا اليوم : " أعلناه يوماً للأرض . وأعلنته دماء شهدائنا عيداً فلسطينياً من أعياد الصمود والفداء "، وهذه القصيدة تسبح في فلك الاعتراف باستثنائية فلسطين وأرضها، وفي ( 30 آذار ) نكتشف على الفور أن التعلق الحميمي بالمكان كفيل بتكثيف إحساس الفتنة بالأرض والافتتان بتفاضيلها وما تحمله من ذكريات ضاربة في القدم، وفتنة الأمكنة شاهد قطعي على وطنية القضية التي يتناولها سميح وغيره حينما يمرون على فلسطين، وهو رهان شعري لديه لا يمكن الفكاك من شركه، وحتى وإن كان المكان يبدو مرتعشاً ومضطرباً وفي بعض الأحايين ساحة رعبٍ فإن الألفة بينه والمكان تظل قائمة بغير إرادة للرحيل، يقول سميح القاسم: "دمكم صوتنا   !/أين سخنين، عرابة، كفر كنَّه ؟/أين بحر البقر ؟/أين يا أخوتي دير ياسين أو كفر قاسم ؟/أين يا أخوتي عين جالوت أو ميسلون ؟/أين ؟/لا نسأل !/أين ؟/لا نجهل !/نحن لا نجهل الفرق يا أخوتي/بين معرفة الدم، والمعرفة/نحن لا نسأل الخارطة/دمكم وحده الخارطة".

وإذا كان المنجز النصي المعاصر الذي يتفاخر به أهل الأدب مبدعين ونقاداً هو الرواية، بل صار بعض النقاد يلهثون وراء اقتفاء أثر الروايات أكثر من الروائيين أنفسهم وراحوا يؤسسون لعصر الرواية، فإن سميح القاسم اجتاز مثل هذه المقولات ليجعل القصيدة والجمهور معاً هما المنجز النصي المعاصر، ذلك حينما استطاع ببداهة العارف بالشعر أن يجعل قارءه جزءاً أصيلاً من النص، وأن يدفع غير الفلسطيني للتعاطف مع القضية والاكتراث بالأرض التي يتحدث عنها هو في شعره.  وكم كان شاعرنا سميح القاسم الأكثر ذكاء ساعة ما قام بتوصيف المشهد في غزة مستخدماً في ذلك آلية الطفل وتفاصيله المدهشة وعالمه البرئ، ففي قصيدته ( أطفال غزة ) يبدأ سميح القاسم بتوجيه النداءات التي تماثل الاستغاثة لما يحدث في غزة، ثم ينتقل إلى أحد تفاصيل لهو الأطفال، مختتماً بدفع القارئ إلى التوحد والاتحاد مع النص الذي سرعان من يستحيل إلى تعاطف وتكاتف من أجل قضية الأرض،  وهنا سميح القاسم ينعطف بعض الوقت بعيداً عن التحريض على الكفاح ونيل الاستقلال ومقاومة الاحتلال الصهيوني الغاشم، ليرنو قليلاً لاكتشاف سحر المكان واختلافه، معلناً شرف الانتساب حتى وإن كان رمزياً ليسمح لغيره أن ينال هذا الشرف يقول سميح القاسم: "للذي يحفر في جرح الملايين طريقه / للذي تسحق دباباته ورد الحديقة / للذي يكسرفي الليل شبابيك المنازل / للذي يشعل بستانا ومتحف / ويغني للحريقة  / للذي ينحل في خطوته شعر الثواكل / ودوال تتقصف/ للذي يصدم في الميدان دوري الفرح / للذي تقصف طياراته حلم الطفولة/  للذي يكسر أقواس قزح / يعلن الليلة أطفال الجذور المستحيلة / يعلن الليلة أطفال رفح  / نحن لم ننسج غطاء من جديلة / نحن لم نبصق علي وجه قتيله / بعد أن ننزع أسنان الذهب / فلماذا تأخذ الحلوي، / وتعطينا القنابل ؟ / ولماذا تحمل اليتم لأطفال العرب ؟ / ألف شكر بلغ الحزن بنا سن الرجولة وعلينا أن نقاتل".

لِذَا وَجَبَ التَّنْوِيْه. . الشِّعْرُ ذاكِرَةُ  الأمَّة:

 وحينما كتب إدوارد سعيد منذ أكثر من خمس عشرة سنة عن محمود درويش مقاله الماتع "تلاحم عسير للشعر وللذاكرة الجمعية" أكد في سياقه على أن درويش رغم صيرورة شاعريته وانتقاله اليسير تجاه القارئ العربي إلا أن التلاحم كان عسيراً بعض الوقت بين شعره وبين ذاكرة العرب الجمعية وعلل ذلك إدوارد سعيد بسبب اقتران محمود درويش الطويل باللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، وأنه أدخل الخاص والعام في علاقات قلقة دائمة حيث تكون قوة وجموح الأول غير متلائمة مع اختيارات الصواب السياسي والسياسة التي يقتضيها الثاني.  لكن سميح القاسم لم يجد عناءاً في التلاحم بين الشعري والذاكرة الوطنية من ناحية، وبين الشعري والشعبي من ناحية أخرى، ففكرة التحلل من الارتباط والتزاوج بين حالة الشعر والنظام السياسي كفيلة بأن تصل بالشاعر إلى مقام محمود لدى القراء من جهة، ونقاد الشعر من جهة ثانية.  وحينما يقرأ المرء قصائد شاعر ما ويفطن لبعض توجهاته السياسية والأيديولوجية بصفة عامة فإنه سرعان ما ينقل تفاصيل السيرة الذاتية للشاعر في نسيج نصه الذي ربما لا يتضمن هذه التفاصيل، أما سميح القاسم الذي قدم نفسه قرباناً للشعر وللقصيدة فهو في حالة ذوبان دائمة مع النص، فأنت تقرأ القصيدة لشاعر إنسان دونما أن تكترث بوضع اسم سميح القاسم عليها، لأنه بالفعل في موقف اتحاد وحلول بالقصيدة لاسيما وأنه اجتاز فكرة عرض تفاصيل حياته اليومية في سياق شعري واكتفى أن يكون الصوت وحده.  يقول سميح القاسم في قصيدته "كانت وتبقى": يخبو الكلام / و تغرب الأصداء/و يغادر الخطباءُ. .  و الشعراء/ و يظل قلبك نابضاً /. .  و يظل في القلب الكبيرِ الإخوة الشهداء /يا أمنا الأرض ابشري و استبشري / ما زال يحرس عرضك. .  الأبناء.  

وفي قصيدة "صقر قريش" نجد الوعي الشديد لدى سميح القاسم بالذكرة العربية الجمعية، إذ يرى أن من مهمات الشاعر الرئيسة أن يعيد السلطة المطلقة لتاريخه العربي والإسلامي، يقول القاسم "وداعا يا ذوي القربى/ وداعا.. والجراح النجل / في قلبي مضاضتها / طوال العمر /ونفسي يا ذوي القربى / وإن شيدت ملك الله في الغربة / ينازعها حنين السفر للأوبة".

وربما يظل سميح القاسم أكثر شعراء الأرض المحتلة حظاً بوعيه بالمشهد العربي جملة وتفصيلاً، وهو وعي يعكس معاصرته للحدث الذي يتلقاه كغيره من أبناء الوطن العربي الكبير حتى يتحول بفضل قصيدته إلى جزء أصيل من الحدث ذاته، هذا ما نجده في قصيدة "حلم عبد الناصر" على سبيل المثال، يقول سميح القاسم: "ما طرحت زيتونة الذاكره / ثمارها، إلا وراء الرحيل / يا موت ! / فافتح شرفة الآخره / وماشياً / أخترق المستحيل".  

حَوَّاءُ فِي قَصِيْدَةِ سميح القَاسِمِ:

يقولون في الأثر على الشاعر أن يسير على أطراف أصابعه وهو يتحدث عن المرأة، لأنها الشاهد التاريخي على بقائه في دفتر الشعر العربي، وعلى رسوخ قدميه على النظم والقوافي، لذا فإن وعي الشاعر عموماً بقراءات نسوية لقصائده يظل خياراًَ شعرياً قائماً برهانات متباينة بين صورة الأم والزوجة والحبيبة والابنة ونساء الوطن، وللشاعر ما شاء أن يغترف من صمتهن الكثير من التعابير والصور البلاغية، ومن كلامهن وهج القصيدة، وإذا كان محمود درويش رفيق درب سميح القاسم قد أدهشنا بقصيدته المدهشة ( أحن إلى خبز أمي )، فإن سميح القاسم يظل محفوراً بذاكرتنا بقصيدته الأكثر ثراء المعنونة بـ ( حتى إشعار آخر ) والتي يظهر فيها صدق الوصف والتوصيف لمشاعر ابن تجاه أمه، لاسيما وأن موقف سميح القاسم يختلف بعض الشئ عن رفيقه درويش، إذ أن حالة الغياب والرحيل والابتعاد القسري تضغط على روح القصيدة، مما تجعل القارئ مهيأ للتناص منها دون أن يعي فعل التناص، يقول سميح القاسم : "واشتقت يا أمي إليك، اشتقت يا أمي كثيرا / لا غير صندوق البريد  / يهب اليتامى التائهين وراء آلاف الحدود / تهليلة أو حبل سرَّه / وعليك يا أمي السلام / وفي الحضارات التي قتلت أبي كل المسره / لا غير صندوق البريد / علقت منديلي عليه ( شراع ملاح عنيد ) / علقت منديلي المبلل بالدموع عليه / صارت لي سفينة / لكنني قرصان حبي / أرتكب الحنين إلى ملاذك / كالجريمه".  

وحينما يكتب سميح القاسم عن الحبيبة فيجب التوقف طويلاً لا لتأمل القصيدة فحسب، بل لتدبر الحالة التي كتبت فيها تلك القصيدة، فإذا تربينا على قاعدة أن أعذب الشعر أكذبه، وخصوصاً فيما يتعلق بمديح النساء والتشبب بهن، فإن هذا ينطبق تمام الوصف على شعراء الوطن العربي جميعهم باستثناء شعراء الأرض المحتلة، هذا الاستثناء مفاده أن هؤلاء الشعراء تغنيهم قضيتهم الأبدية عن الالتفات إلى وجد القلب وإخفاقه، وحجم المعاناة التي يعيشها المواطن الفلسطيني بوجه عام والشعراء الذين يحملون بصدورهم قلوباً تستوعب الدهشة بعنف على وجه الاختصاص كفيلة بأن تبعدهم أميالاً طويلة عن الاكتراث بالحب وقصص الغرام الذاتية.  

لذا فإن حال الحب في القصيدة الفلسطينية تحمل دلالات أكبر من معاني العشق المألوفة، وأن الحبيبة في النص الشعري الفلسطيني لا تمثل جسداً أنثوياً يمكن التغزل في تفاصيليه الحسية، فإن المرأة هنا معادل موضوعي لأشياء أخرى، أهمها الأرض، والملجأ، وصندوق الأسرار، وصوت النحيب، و أم الشهداء، والاستسلام إلى العزلة.  ولا أريد الجنوح بعيداً بالقول بأن المرأة في شعر سميح القاسم تشبه السؤال التقليدي الذي يوجهه منفذ الإعدام بالمعدوم قبل تنفيذ الحكم : ماذا تريد قبل أن تموت ؟.  لأن سميح القاسم ومحمود درويش وغيرهما في مقام كفاح مستمر بسلاح القصيدة، وأنهما حينما يتمنيان حلم العشق المتبادل فهما على وعي شديد بأن الأمنية لا ولن تدوم، وأن الرحيل والافتراق وارد لا محالة.  يقول سميح القاسم في قصيدته "وأريد": "أريد امرأة / تغفر أخطائي الكثيرة./  وتنساني/  إذا ما غبت قليلاً /  ثم تهواني / إذا ما عدت قليلاً./  وتغني لي وتبكي /  وأنا ألفظ أنفاسي الأخيرة".  

ولأن سميح القاسم بوصفه شاعراً ينتمي لمنطقة مضطربة ومسارعة بالأحداث الدامية، فإن ذلك ينعكس بالضرورة على شكل القصيدة التي تتناول المحبوبة من حيث قصرها، وبساطة الوصف والخيال بها، وسرعة التعبير والابتعاد عن الغموض، لأن الوقت لا يسمح من ناحية، وأن الحدث بالفعل "قصيدة الحب" ربما لن يتكرر بفعل المواجهة المستمرة مع الكيان الصهيوني الراهن، بالإضافة إلى التزام الشاعر بالمفردات التي تعبر عن واقعه بصدق ، يقول سميح القاسم في قصيدة له بعنوان " قصيدة قديمة": "أنتقي من سوسن الحقل وشاحاً لحبيبي/غير أن الحقل مزروع بألغام جديدة/أنتقي من قصب الوديان، ناياً لحبيبي/غير أن الجند في الوديان/يجرون تمارين جديدة!/أنتقي من كرمنا أجمل عنقود/لأهديه حبيبي/غير أن الكرم. .يا عيني/أحاطوه بأسلاكٍ جديدة/يا حبيبي. .اطفيء القنديل/موتي..مددوه!/فترة أخرى. ..جديدة!".  

خَيَارُ السِّيْرَةِ الذَاتِيَّةِ:

في نهاية الرحلة التي طفنا بها في بعض عوالم سميح القاسم الشعرية، نقول إن النقاد المعاصرون رغم أنهم احترفوا الحداثة وفتنتها وفضلوا الابتعاد عن سيرة المبدع وعالمه الشخصي اجتراراً لنظريات نقدية وفدت إلينا من القارة الأوروربية أهمها إعلان موت المؤلف وأن النص أصبح قاسماً مشتركاً بين مؤلفه والقارئ، ثم ظهرت نظريات نقدية أخرى بعنوان القراءة التفاعلية أو التشاركية أهملت حتى اسم الشاعر أو الروائي، لكن رغم هذا الزعم فإن النقاد أنفسهم لا يستطيعون إغفال سميح القاسم عن قصيدته لأنه كما ذكرنا القصيدة الحدث، وأن سيرة الشاعر الذاتية التي تظهر بين حين وآخر في دواوين سميح القاسم لهي جديرة بالذكر والاهتمام، لأن حالة سميح القاسم السياسية والتي يعبر عنها شعراً لا تسمح له بادعء الكذب أو إخفاء جانب دون آخر، فالمشهد مكشوف تماماً ولم يعد الكلام عن حدث الانتفاضة وأهلها أمراً بالمسكوت عنه، وإن كانت السيرة الذاتية أقرب الصلة إلى سيرة فلسطين الجمعية، لأنه أحيانا يتكلم بصيغة المتكلم لكنه يتحدث عن مشهد تعرض له مواطنوه،  يقول سميح القاسم في قصيدته "أدافع: "لم أتمدد على كرسي القماش الملون / في شرفة فندق صيداوي / لم أنشد مطلعاً لجماهير بيروت / هل قلت أطفالي؟ / أنا المحروم من شرف التفجر بديناميت الحب / أنا أسير الحرب المتمتع بحق الانتخاب / أنا المواطن المقيم دائماً على مجرود الزبالة / هل قلت أطفالي".  

وكما يقول أحد نقادنا المعاصرين عن الشعر الفسلطيني بإن أعظم إنجازات الشعب الفلسطيني عبر سنوات نضاله، ليست في استشهاد أبطاله، ولكن في إنتاج شعرائه، فالشهداء يتساقطون خارج حدود القصيدة، لكن القصيدة تمنحهم الحياة مرة أخرى، فينتصبون بداخلها رمزاً جديداً لمزيد من الاستشهاد، لذا فالقصيدة الفلسطينية على الدوام تنكر مقولة إن الرواية هي ديوان العرب، فقصيدة فلسطين ديوان العرب وتاريخهم لأنهم بالفعل يعاصرون الحدث ويشاركون في صنعه، يقول سميح القاسم في قصيدته "قصيدة الانتفاضة":

"تقدموا تقدموا ! / كل سماء فوقكم جهنم / وكل أرض تحتكم جهنم / تقدموا / يموت منا الطفل والشيخ / ولا يستسلم / وتسقط الأم على أبنائها القتلى / ولا تستسلم / تقدموا / بناقلات جندكم / وراجمات حقدكم / وهددوا / وشردوا / ويتموا / وهدموا / لن تكسروا أعماقنا / لم تهزموا أشواقنا / نحن قضاء مبرم".