2023.. عام الاستقرار والبناء في العراق

يلمس المواطن العراقي تغيرا حقيقيا على الأرض ويرى في عام ما لم يره في عشرين عاما.

يقول رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني "خلال العام المنصرم عملنا على تحقيق خمس أولويات في البرنامج الحكومي، ممثلة في معالجة الفقر ومواجهة البطالة ومكافحة الفساد المالي والإداري، إضافة لتقديم الخدمات والإصلاح الاقتصادي. وبسرعة سعينا ليرى العراقيون الإنجازات على هذه الأصعدة كي يعلموا أن حكومتهم جادة في الارتقاء بمعيشتهم وحل مشاكلهم من دون إبطاء. وسنستمر على ذلك المسار ونزيده بالشروع في مشاريع البنى التحتية وبرامج التطوير والتأهيل للكوادر الإدارية والبشرية في مؤسسات الدولة، التي لطالما تأخرت لعقود مضت".

تبدو رؤية السوداني اذا ما اسقطناها على الواقع، صحيحة الى حد كبير، ومنسجمة مع المسارات العامة لمجمل الحراك الحكومي خلال عام 2023.

ثورة الخدمات والاعمار

واليوم، فان اي مواطن يمكنه تلمس المتغيرات في الواقع الخدمي العام في ظل الحكومة الحالية، التي تصدت لمهمة ادارة الدولة قبل حوالي عام وشهرين.

ولعل الانطلاق بإكمال العديد من المشاريع المتلكئة طيلة اعوام في مختلف محافظات البلاد، كالمستشفيات والمراكز الصحية والمدارس والطرق والجسور، والشروع بتنفيذ مشاريع جديدة، اكتمل البعض منها، فيما وصل البعض الاخر الى مراحل متقدمة في الانجاز. يعد مؤشرا واضحا على ذلك التوجه.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، فأن مستشفيات ومراكز صحية ذات اختصاصات مختلفة، افتتحت في العاصمة بغداد ومحافظات اخرى، كذي قار وميسان وكربلاء وواسط والديوانية. وساهمت في تخفيف الاعباء عن اعداد كبيرة من المواطنين عبر توفير الخدمات الطبية المتطورة لهم.

وكذلك، فأن عشرات او مئات المدارس، اكتمل بنائها وفتحت ابوابها لألاف التلاميذ والطلبة، فيما تتحرك وتيرة العمل في الاخرى بصورة متسارعة، فضلا عن حل ومعالجة جانب كبير من المشكلات التي تعانيها المؤسسات التربوية على وجه العموم، من قبيل تلكؤ توفير وتوزيع المناهج الدراسية، ونقص الكوادر والملاكات التدريسية.

الى جانب ذلك فأن بناء وتشييد الجسور وتوسيع الشوارع والطرق في بغداد والمحافظات، بات واضحا وملموسا للجميع، بحيث ان المواطن العادي اخذ يرد بأن "ما راه خلال عام واحد، لم ير مثله طيلة عشرين عاما".

مضافا الى ذلك، فان العمل في المشاريع الاستراتيجية الكبرى، كمشروع ميناء الفاو الكبير في محافظة البصرة، وانجاز الخطوات الاولى لمشروع طريق التنمية الدولي، كان له حصة وحيزا في مجمل الحراك الحكومي الخدمي.

ولم تقتصر "ثورة الخدمات" على الجوانب المتعلق بالبناء والاعمار، وانما امتدت الى مساحات الاهتمام بالفئات والشرائح الاجتماعية المحرومة، حيث نجحت حكومة السوداني في عام 2023 بحل مشكلة اعداد هائلة من خريجي الجامعات من خلال توفير الوظائف الحكومية لهم في مؤسسات الدولة، لاسيما في القطاع التعليمي، فضلا عن توسيع شبكة الحماية الاجتماعية لتشمل عشرات الالاف من الذين لا يمتلكون الحد الادنى من مقومات الحياة الاساسية، وكذلك ذوي الاحتياجات الخاصة. وما الى ذلك من الخطوات والاجراءات والمبادرات المماثلة والمشابهة.

محاربة الفساد

ولان تقديم الخدمات وانشاء مشاريع البناء والاعمار لا يمكن ان يكتب له النجاح بدون تطويق وتجفيف بؤر الفساد الاداري والمالي، وتفكيك شبكاته، وملاحقة عناصره، لذا فان العراق شهد خلال العام الماضي حملات واسعة ومنظمة ومدروسة في هذا المجال، باعتبار ان هذا الملف مثّل احد اهم وابرز اولويات الحكومة الحالية، اذ ان رئيس الوزراء، الى جانب توفيره كل الظروف الملائمة لتمكين هيئة النزاهة من اداء مهامها بالشكل المطلوب، فانه اوعز بتشكيل فريق ساند لها، مهمته تفعيل وتنفيذ القرارات التي تتخذها والاجراءات التي توجه باتخاذها بحق الفاسدين. وبالفعل فان ذلك اثمر عن استعادة كميات كبيرة من الاموال والممتلكات العامة، ووضع اليد على منظومات وشبكات فساد كبرى، والقبض على اعداد لا يستهان بها من كبار الفاسدين، علما ان الكثير منهم مسؤولين كبار سابقين وحاليين، وقسم من هؤلاء فروا خارج البلاد، بيد ان الجهات المعنية نجحت في استردادهم من خلال التنسيق مع حكومات الدول التي فروا اليها.

اضف الى ذلك، فأن محاربة تهريب وتجارة وتعاطي المخدرات، والاتجاه نحو نظام الاتمتة، وتقليص حلقات الروتين والبيروقراطية الادارية، ومعالجة ظاهرة التوظيف العشوائي من خلال المنظومات الحزبية وشبكت المصالح الخاصة، قطع اشواطا جيدة، وبالتالي عزز خطوات واجراءات محاربة الفساد بشكل ملحوظ. ولعل تفكيك شبكة ما اطلق عليه بـ"سرقة القرن" واستعادة جزء غير قليل من الاموال التي سرقتها، كان من بين ابرز مؤشرات النجاح الحكومي بهذا الخصوص.   

في ذات الوقت فأن الحكومة، اولت اهتماما كبيرا بالقطاع المالي-الاقتصادي، واجرت اصلاحات مهمة في هذا المجال، جنبت البلاد المزيد من المشاكل والازمات الاقتصادية، وفتحت افاقا لحلول ومعالجات واقعية وعملية.

احداث ووقائع ومواقف

وقد حفل عام 2023 بأحداث ووقائع ومواقف مهمة ومفصلية للغاية، عززت حقيقة ان ذلك العام كان عام البناء والاستقرار في العراق، من بينها تنظيم بطولة خليجي 25 في محافظة البصرة، مطلع العام الماضي، تلك البطولة التي غابت عن الملاعب العراقية طيلة اربعة واربعين عاما. وقد حقق العراق نجاحا باهرا من النواحي الفنية واللوجيستية والادارية والامنية في تنظيمها، لتطلق رسالة بليغة وعميقة، مفادها ان العراق غادر مرحلة الفوضى وانعدام الامن والشحن الطائفي، وبات عنصرا ايجابيا في محيطه العربي وفضائه الاقليمي.

ولم يكن خليجي 25 هو الحدث الوحيد المميز في العراق خلال العام الماضي، بل ان بغداد ومدنا عراقية اخرى، احتضنت فعاليات عربية واقليمية ودولية عديدة، من بينها، المؤتمر الـ 34 للاتحاد البرلماني العربي، والمؤتمر الدولي للوحدة الاسلامية، المؤتمر الدولي الرابع ليوم القدس العالمي، والمؤتمر الدولي الثالث للمياه، ومؤتمر نداء الاقصى الدولي، والمؤتمر الـ 35 الطارئ للاتحاد البرلماني العربي حول فلسطين.

فضلا عن ذلك فأن جهود ومساعي الحكومة العراقية اثمرت في تقريب وجهات النظر وتذويب جزءا كبيرا من جبل الجليد بين ايران والسعودية، وكذلك لم يكن دور العراق هامشيا وثانويا في مجمل الانفراجات والمصالحات الاقليمية التي شهدها العام الماضي، ومثلما كان رئيس الوزراء العراقي وكبار المسؤولين قد زاروا مختلف العواصم العربية والاقليمية والدولية المهمة، فان بغداد كانت على مدار العام الماضي، ميدانا حقيقيا وفاعلا لحوارات ومباحثات معمقة من خلال زيارات زعماء وساسة ومسؤولين كبار من شتى الدول.

وبما ان معركة "طوفان الاقصى"، التي اندلعت في السابع من شهر تشرين الاول-اكتوبر الماضي، مثلت الحدث الاهم والابرز اقليميا وعالميا، فان العراق كان حاضرا فيها بقوة منذ البداية، سياسيا واعلاميا وانسانيا، بحيث تصدر حدث المعركة المشهد العراقي العام لعدة شهور، ومازال كذلك.

ولعل العراق -حكومة وشعبا- عبر من خلال موقفه الداعم للشعب الفلسطيني، عن ثوابته الوطنية في الدفاع عن كل القضايا الحقة، ومناصرة الشعوب المظلومة والمضطهدة، لاسيما الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة.

ولم يكن موقفه المبدئي والحازم حيال الاساءات والانتهاكات والتجاوزات على القران الكريم من قبل بعض الشاذين والمنحرفين في الغرب، بعيدا عن مجمل مواقفه وتوجهاته المناصرة للدين ورموزه ومقدساته.

الانتخابات المحلية

وربما كانت انتخابات مجالس المحافظات التي جرت في الثامن عشر من شهر كانون الاول-ديسمبر الماضي، خاتمة الاحداث الكبيرة في العراق لعام 2023. وقد سبق تلك الانتخابات جدل وسجال واسع حول امكانية اجراؤها، وما يمكن ان تفضي اليه من مخرجات وتسفر عنه من متغيرات في المشهد السياسي العام للبلاد، خصوصا وان كيانا سياسيا كبيرا مثل التيار الصدري قرر مقاطعتها، ناهيك عن اخراج رئيس حزب تقدم محمد الحلبوسي من عضوية ورئاسة البرلمان بصورة مفاجئة بعد ثبوت تهمة التزوير عليه.

وجاء اجراء الانتخابات، في اطار تعهدات حكومة السوداني، والبرنامج الحكومي الذي طرحته امام البرلمان قبيل منحها الثقة. وهي -اي الانتخابات- رسمت عبر نتائجها التي خلت من المفاجئات الكبيرة، معالم وملامح المرحلة القادمة، التي ستشهد التهيؤ والاستعداد للانتخابات البرلمانية المقبلة المفترض اجراؤها في النصف الثاني من عام 2025.

وتمثل الشي المهم الاخر في انتخابات العراق المحلية الاخيرة، انها جرت بعد عشرة اعوام من اخر انتخابات محلية، وكان ذلك الانقطاع لاسباب وظروف موضوعية، من قبيل الحرب ضد تنظيم داعش الارهابي في عام 2014 وما بعده، وتأزم الاوضاع السياسية في عام 2019، ومن ثم ظهور جائحة كورونا في عام 2020.  

اولوية انهاء الوجود الاميركي

وعلى امتداد عام 2023، ظلت قضية اخراج القوات الاميركية من العراق واستعادة السيادة الوطنية الكاملة، تتصدر الاولويات السياسية والشعبية، وبقدر ما كانت الولايات المتحدة تنتهك وتتجاوز وتعتدي، كانت تتلقى الضربات المتوالية من قبل قوى المقاومة لمواقع تمركز قواتها في العراق وسوريا واماكن اخرى.

وفيما بعد، جاءت معركة "طوفان الاقصى" لتفرز المواقف بصورة اوضح، ولتتخذ المواجهة مع الولايات المتحدة والكيان الصهيوني ابعاد اخرى، كانت المقاومة العراقية الرقم الصعب والمؤثر فيها ميدانيا، في الوقت الذي كانت الحكومة العراقية ومعها مختلف القوى السياسية الوطنية واضحة جدا في دعمها للشعب الفلسطيني وادانتها واستنكارها لجرائم الكيان الصهيوني ومن يدعمه ويسانده ويقف وراءه.

وقد اعترفت واشنطن بوقع ضربات المقاومة عليها من حيث الكمّ والنوع، ونفس الشيء بالنسبة للكيان الصهيوني، وهذا ما اوجد حقائق ومعادلات جديدة ربما لم تكن مسبوقة من قبل، او لم تكن مكشوفة وظاهرة للعيان بما فيه الكفاية.

ولاشك ان هذه الاحداث والوقائع والمواقف البانورامية بجوانبها الرياضية والسياسية والامنية والاقتصادية، الداخلية والخارجية، رسمت وصاغت بشكل او باخر ملامح ومعالم العام الجديد في العراق، الذي يبدو انه سيكون مكملا ومتمما لصورة عام 2023، الا اذا وقعت احداثا دراماتيكية مفاجئة خارج نطاق وسياق الحسابات والتوقعات.