مصر.. وقف عقوبة الإعدام وتجديد الخطاب الديني

عقوبة الإعدام جزء من التشريع الإسلامي وخصوصاً في أحكام القصاص وأعرف حساسية الإسلاميين تجاه أي دعوة تتعلق بقضايا التشريع ولكن المطلب التجديدي هنا لا يتعلق بإلغاء العقوبة أو محوها من التشريع الإسلامي بشكل مطلق أو إنكارها أو جحد شرعيتها الدينية وإنما الدعوة تتصل بما يمكن وصفه تعليق العمل بالعقوبة.

  بقلم: جمال سلطان

هناك تركيز متزايد في السنوات الأخيرة على حكاية "تجديد الخطاب الديني"، والملاحظ أن النظم السياسية هي الأكثر ترديدا لتلك العبارة وذلك المطلب، وهي ملحوظة ربما تفيد في استبطان الهدف من تلك الدعوة، وكان الرئيس عبد الفتاح السيسي قد أعاد تأكيد هذا المطلب في مؤتمر الشباب الأخير، وهو ما تجاوب معه فضيلة الشيخ أحمد الطيب شيخ الأزهر مؤكدا على أن تلك الدعوة تحتاج إلى شجاعة أدبية آن أوانها، فإني أسمح لنفسي في تلك المساحة الصغيرة أن أساهم في الاستجابة لدعوى تجديد الخطاب الديني، بما يكون لصالح "الإنسان" قبل أي شيء آخر، قبل السياسة وبعدها.

الجانب الذي أود التركيز عليه هنا هو ضرورة ظهور اجتهاد ديني جديد بين الإسلاميين، مؤسسات رسمية ونشطاء وعلماء مستقلين وقادة أحزاب أيضا، يتعلق بالموقف من عقوبة الإعدام، وتحديدا، أطالب بالبحث عن صيغة اجتهاد ديني جديد يحرم العمل بعقوبة الإعدام في تلك المرحلة الزمنية، ويتواصل مع الدعوات الإنسانية والدينية الأخرى التي تتسع حول العالم اليوم، لوقف عقوبة الإعدام، واستبدالها بعقوبات أخرى تفيد في الردع وفي الوقت نفسه توقف عمليات توظيف أحكام الإعدام في تصفية حسابات سياسية عبر العالم، وكان أحدث تلك الدعوات دعوة البابا "فرانسيس" بابا الفاتيكان يوم الخميس الماضي، والتي أعلن فيها أن إلغاء عقوبة الإعدام أصبحت جزءا من العقيدة الكاثوليكية وأنه سيواصل دعوته حول العالم من أجل إلغائها.

أعرف ـ بطبيعة الحال ـ أن عقوبة الإعدام جزء من التشريع الإسلامي، وخاصة في أحكام القصاص، وأعرف حساسية الإسلاميين تجاه أي دعوة تتعلق بقضايا التشريع، ولكن المطلب التجديدي هنا لا يتعلق بإلغاء العقوبة أو محوها من التشريع الإسلامي بشكل مطلق، أو إنكارها أو جحد شرعيتها الدينية، وإنما الدعوة تتصل بما يمكن وصفه "تعليق" العمل بعقوبة الإعدام، وذلك بالنظر إلى الخطورة البالغة التي تمثلها تلك العقوبة في أجواء الصراعات السياسية التي تعصف بالعالم اليوم، من شرقه إلى غربه، وتحولها إلى أداة تنكيل وسحق بالخصوم السياسيين، ويمكن لأي باحث أو إحصائي أن يرصد أحكام الإعدام التي عرفتها دول العالم الثالث بشكل أساس في السنوات الأخيرة، وهي الأكثر استخداما لتلك العقوبة، ليلاحظ بسهولة أن أكثر أحكام الإعدام التي صدرت تتصل بقضايا ذات طابع سياسي، وليس بأي قضايا إجرامية أو جرائم قتل ونحو ذلك.

مشكلة أحكام الإعدام أنها لا تقبل تعديل العقوبة بعد تنفيذها إذا تبين جديد في الوقائع والأدلة، أو حتى إذا تغير "مزاج" السلطة القائمة، أو إذا تغيرت ريح السياسة وأتت سلطات جديدة تعيد الاعتبار لمن تم إعدامهم باعتبارهم ضحايا وليسوا مجرمين، وكثيرا ما حدث، صحيح أن عمليات التعديل والتصويب بعد ذلك يكون لها رمزية أخلاقية، لكن الضحية نفسه لن تفيده تلك الإصلاحات أو المراجعات ولن تنقذه، فقد قتلوه بالفعل، ولا تكاد دولة في العالم الثالث تخلو من قصة من تلك القصص، بل روايات طويلة عن الظلم والرؤوس التي طارت في إعدامات لا تحمل أي معيار للعدالة، وإنما هي نوع من الثأر السياسي أو تصفية الحسابات.

تعليق العمل ببعض الأحكام يختلف عن إلغائها، وقد فعل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه شيئا من ذلك، بتعليق حد السرقة في عام الرمادة، الذي انتشر فيه الجوع والقحط، وامتدت أيادي لما لا تملك ولا تستحق، من باب الحاجة وإنقاذ الحياة من الموت جوعا، فرأى عمر ـ بحكمته وفقهه ـ أن يوقف العمل بحد السرقة، لحين زوال الالتباس الذي يتسبب في الظاهرة والواقع السيء الذي ساعد على ظهورها، دون أن ينكر أصل الحد ولا أن يلغيه من قواعد التشريع، وأعتقد أننا اليوم في حاجة إلى "حكمة عمرية" جديدة، نعلق بها العمل بأحكام الإعدام عبر نص قانوني وليس عبر عفو تقديري من السلطة، ونبحث عن عقوبات بديلة لمرحلة تاريخية عصيبة وقلقة وملتبسة، تزهق فيها أنفس بالباطل، ويتم فيها الاعتداء على حرمة الإنسان ببشاعة لم تعرفها حتى في عصور الهمجية القديمة، ولنا أن نتخيل حكما بالإعدام يصدر ضد أكثر من خمسمائة إنسان في جلسة قضائية واحدة، ولولا ألطاف الله واستدراك الأمر من محكمة أعلى لكان سيف القتل على رؤوس مئات البشر المظلومين قائما، ولترحمنا على بعضهم بالفعل الآن.

هل يمكن أن نبدأ جهود تجديد الخطاب الديني من هنا، من تشريع زمني يوقف العمل بعقوبة الإعدام ؟.