تونس.. دراسة تفصيلية عن المشهد الديني

مهرجانات سنوية دينية يمتزج فيها الثقافي بالسياسي والديني التعبدي بما في ذلك العمل على الحدّ من تزايد مخاطر الإسلام السياسي الاحتجاجي الذي يستغل تلك المناسبات والتصوف حاضر بقوة في المشهد.

قراءة: محمد الحمامصي

تطمح دراسة "الحالة الدينية في تونس" إلى الإلمام بمكوّنات المشهد الديني في تونس بين عامي "2011 ـ 2015" انطلاقا من دراسات متنوعة حيث الاختصاصات بمشاركة ما يزيد عن خمسين باحثا في: علم الاجتماع، والأنثروبولوجيا، والتاريخ، والعلوم السياسية، والعلوم القانونية، والعلوم الحضارية والثقافية، موزّعين بين الباحثين الأكاديميين والباحثين غير الأكاديميين، وعلى مؤسسات جامعية تونسية مختلفة، وعلى مشارب فكرية متباينة، واتجاهات سياسيّة إن وُجِدَت. وعلى ذلك، تخوض النصوص المجمّعة في الدراسة، فيما يكمّل بعضها بعضاً ويوضّحه ويدقّقه، نوعاً من المجادلة.

الدراسة التي صدرت عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود  في أربعة مجلدات تطلّب إعدادها من مؤلّفي نصوصها وقارئي نتائج التحقيق الميداني، الذي اشتمل على (1800) مستجوب، الكثير من العمل البحثي والاستقصائي الميداني المباشر، وغير المباشر، المعتمد رئيسياً على متابعة الأحداث والتصريحات والمواقف والممارسات والظّواهر في مصادر الإخبار بها على صفحات الصحف اليومية، والمواقع الإلكترونية، والمدوّنات، وحسابات شبكات التواصل الاجتماعي. وقد اشتملت تلك المتابعات على ما يهمّ التّنظيمَ المؤسّساتي الهيكلي والقانوني للشأن الديني في تونس، والممارسات الدّينية الإسلامية والمسيحية واليهودية، والإعلام، والبحث، وتدريس الدين والتدين، والجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسّياسية ذات الصلة، وصولاً إلى ما في المجال الديني من تنظيماتٍ سياسيّة ونقابيّة وجمعياتية.

وقد جاءت الحصيلة مادة وصفية تحليلية موثّقة يمكن عَدُّها قاعدةَ معطياتٍ توضع بين أيدي القرّاء ذوي الاهتمام من كلّ نوع من باحثين، وطلبة، وجامعيين، ومنتسبين إلى مراكز رصد وإحصاء وتوثيق ودراسة وبحث أو مستفيدين منها، وصحفيين، وفاعلين جمعياتيين وسياسيين، ومسؤولين إداريين، وصنّاع قرار... إلخ.  وربّما كان الحوار الذي تشتمل عليه تَمَرُّناً على ما ندعو إليه من إتيان ممارسة فكرية ذات صلة بالشأن الديني قد تنفع في التدرّب على تقبّل الأفكار المتنوّعة والمختلفة في معنى الاستعداد للاستماع إليها ومناقشتها.

على المستوى المؤسساتي

وفقا لمقدمة الدراسة فإنه في المستوى المؤسساتي كان هناك نص مخصص لوزارة الشؤون الدينية على أنها هي الجهة الرسمية المُخولة إدارة الشأن الديني في تونس، بعد أن ورثت إدارة الشعائر الدينية. وقد كشف أن بعض المشاريع الإصلاحية  التي وقف عليها النص تندرج في عمل مسؤولي الوزارة المتعاقبين على تجاوز ما عَدُّوه صنوفاً من التهميش شهدتها الوزارة منذ تأسيسها بمحدوديّة مهامها، وضيق آفاقها، وضعف في مستوى الخبرة الإدارية للعاملين فيها، وغياب منهجية عمل واضحة وتداخل في الأدوار وبطء في الإنجاز. ليست الممثليات الجهوية بأفضل حالاً بحسب النص، بسبب الأوضاع الإدارية للوعاظ الجهويين والمحليين، وعوز المقرّات، وافتقاد الإمكانيات اللوجستية. إزاء هذا التشخيص يقف النص على ما يسمّيه خطط "إصلاح وتطوير" انطلقت سنة 2012، وقوامها "تقسيم أعوان الوزارة إلى فرق مشاريع تحت إشراف خبير جامعي متخصّص في علوم التصرّف للعمل على محاور أهمها الإصلاح الهيكلي للوزارة وتأهيل الإطارات الدينية وبناء المؤسسات". ومن مشمولات ذلك تعميم الإدارات الجهوية ومعالجة منظومة الحج والعمرة ومهام التكوين والتدريب والارتقاء بأداء المعنيين بالشأن الديني؛ "وهو ما تفاعل معه كل الوزراء المتعاقبين سنوات 2013 و2014 و2015"، على الرغم من اختلاف الوزراء في مقارباتهم السياسية، وتباين قدراتهم على التفاعل مع المحيطين الداخلي والخارجي للوزارة.

 

المؤسسة المسجدية

في البحث المخصص للمساجد والجوامع، وهي التي يضعها النص تحت مسمى "المؤسسة المسجدية"، يبرز أن ما يشهده المسجد التونسي من تحوّلات حالية في تونس غير مسبوق "كثافة وحدة وعمقاً وشمولاً" بتفجر كل أوجه النزاع حول المسجد؛ بل وحول محرابه ومنبره. ومن منظور الجديد في مواقع المسجد وأدواره، بدت في المشهد العام الذي وصفه النص صورة فضاءات العبادة الإسلامية في تونس منشطرةً على نفسها في خضم عملية مفاوضة تاريخية اجتماعية عسيرة مخاض عَدَّه البحث "وجهاً من عسر الانتقال من إدارة سلطوية تسلّطية وقمعية للمؤسسة المسجدية، في ما قبل 14 يناير 2011، إلى إدارة مدنية حرّة وديمقراطيّة وتشاركيّة".

خُصص مبحث للمؤسّسة الزيتونيّة في تونس عودةٌ إلى تاريخها مؤسّسةً عريقة ومتعدّدة النشاطات والأدوار، مركزها جامع الزيتونة المعمور. وبعد استعراض سريع لما شهدته المؤسّسة الزيتونيّة منذ أربعينيات القرن التاسع عشر، يتوقف النص عند الجدل الذي شهدته المؤسسة والذي يتعلق بالمزج "بين العلوم الدينيّة بمختلف تفرّعاتها وتنوّعاتها، والعلوم الاجتماعيّة وعلم الأديان والإناسة وعلم النفس والفلسفة الغربيّة والفلسفة الإسلاميّة"، وذلك في سياق استعراض بعض أطوار سياسات بن علي الدينية، ووجوه من صراعه مع حركة النهضة. كما يقف النص على أن السياسة التربويّة التونسيّة في هذا المجال تجمع بين الاحتكام إلى الإسلام السنّي المالكي، والاستناد إلى الفلسفة الأنواريّة بقيم العقلانيّة والعلمانيّة والتسامح والدولة الحديثة من جهة، والارتهان المزمن بالعامل السياسي. ومن علامات ذلك، في ما يرى النص، أن المنزعين الأخلاقي أو الإنساني في تدريس قضايا الدين والتديّن لم يكونا متأسّسين على مراجعات نقديّة مناسبة للتراث، ولا مصحوبين بتحوّل في الخطاب الديني في المساجد أو في  غيرها من الفضاءات العامة... ويختم النص إعماله النقد والمراجعات في ما وصف من مناهج وطرق تدريس وسياسات تربوية بالوقف على ضرورة إصلاح التعليم التونسي، واعتبار أن "من أهمّ ملفّاته 'الشائكة' المسألة الدينيّة".

وينتهي التدقيق، الذي اضطلعت به الدراسة في مُجمل المسارات البحثية الجامعية داخل المؤسسات الرسمية أو خارجها، التي تحاول إخضاع الجدل المجتمعي حول المسألة الدينية وإشكالياته إلى البحث العلمي الأكاديمي"، إلى "أن تلك المحاولات لا تزال ضعيفة في الحجم والوتيرة والعمق والانتشار"، مع ملاحظة الطابع الإيديولوجي السجالي الذي لا يزال "يتحكم في قسم كبير من ذلك التناول"، حيث بدا أن "قراءة التفاعلات الاجتماعية ذات العلاقة والمعتملة تحت السطح ما تزال محتشمة".

الإعلام الديني

في الإعلام الديني والدين في الإعلام تمييزٌ بين ما يقوم به من رصد إخباري تحليلي للمشهد الإعلامي الديني من جهة، والمشهد الديني والإعلام في علاقته بالدين من  جهة ثانية. كان الاهتمام بشبكات التواصل الاجتماعي، في نقلها ملامح الحالة الدينية في تونس، من أنها (الشبكات) تضطلع بدور خطير يبلغ "درجة عالية من القدرة على التأثير في الوضع». وعلى ذلك يقوم التحليل على قراءة في محتوى عينة من المدونات والحسابات والصفحات الدينية أو ذات الاهتمام بالشأن الديني، بما أبان عن فاعلية عالية للخطاب الافتراضي تأكدت بما قدره النص على أنه "تقلص مركزية المؤسسات الرسمية المكلفة بالترويج للخطاب الديني، وسحب البساط منها، خاصة ما تعلّق بوظيفتي الدعوة والاستقطاب". وفي ذلك تعالج الدراسة ما تشير إليه من ارتفاع وتيرة التنازع بين مجال سلطة الافتراضي ومجال سلطة الواقعي في ما يهم الشأن الديني على أنه صورة من التنازع بين ما تسميه "الواقع الاجتماعي" و"الواقع الفائق".

وحصر النص المدونة الافتراضية بصفحات من شبكتي (الفيس بوك) و(اليوتيوب)، فانتقى عبارات بعينها عَدَّها مفاتيح أو رؤوس بحث على الشبكة الدولية للمعلومات، ومنها "السلفية"، "الدعوة الإسلامية"، "العلوم الدينية" "الراسخون في العلم"، "الأمر بالمعروف"، "الهداية"، "التبشير"، "الوعظ"... إلخ. ونظر التحليل إلى تواريخ نشأة الصفحات مقسماً إياها بين صفحات دعوية تتعلق بالأديان وبالمذاهب وصفحات سجالية، ومحللاً مضامينها بما أوقفه على "مظاهر من الهشاشة في المنظومة المفاهيمية والمقولاتية للنظام المعرفي الديني الإسلامي وعجزه عن التجديد والتوليد"، مرجعاً ذلك إلى هيمنة كل من "الخطاب التكفيري" و"الخطاب  التبريري أو الدفاعي"، ما "جعلنا إزاء تشكل مفهوم جديد لأهمية الحقيقة الدينية وفاعليتها" ضمن حالة دينية موسومة بعجز «المؤسسات الدينية المألوفة عن تحقيق فعل تواصلي يعترف بالآخر ويتحاور معه"، مخولة لنفسها "رفض الاعتراف بالحق في حرية الرأي والتفكير" مقابل «خطاب ديني مبثوث في المجال الافتراضي يجمع بين الإيديولوجيات والعلم والمصالح، وهي عوامل كافية ليتحول إلى أداة تشكيل للواقع". 

الاتفاقيات ذات الشأن الديني

في المستوى القانوني الذي خُصّص للمعاهدات والاتفاقيات الدولية ذات العلاقة بالشأن الديني، والتي صادقت عليها تونس، عُدَّ القانون الدولي العام جزءاً من المنظومة القانونية للدولة التونسية. وفي النص الذي أخذ على عاتقه توصيف مواقف الأحزاب المدنية أو العلمانية في تونس ما بعد الثورة إزاء الدين وشؤونه، وتحليلها، فقد اعتمد مفاهيم علم الاجتماع التاريخي ومنهجه، حيث يفرد للسياسة الدينية التي يتبعها حزب نداء تونس في علاقة بسياسة حركة النهضة المجسدة في "تغيير خطابها والانخراط في ما يبدو مراجعة فكرية عميقة... لمقولات السلفية-الإخوانية"، وللعلاقات بين قائد السبسي وراشد الغنوشي، ليبين أن "شدّ الحبل سيطول بين الصديقين اللدودين" مثلما تجسد في "إدارة معركة المساجد".

ويرى النص أنّ علاقة الأحزاب المدنية التونسية تقع تحت أثر وجود "موروث إصلاحي مستنير" وكذا فعل "نخبة سياسيّة متشبّعة بثقافة وطنية عصرية ومعلمنة، اقترحت إسلاماً على شاكلتها، وجعلت منه أداة الدولة". وبعد أن كان انقسام المعارضة المدنيّة لدكتاتورية بن علي بين مجموعة من الأحزاب والشخصيات ذات الإيديولوجيات الماركسية والحداثية، "التقت مع نظام بن علي في تدجينه للهيئة الدينية وتجييره للخطاب الديني"، و"أحزاب مدنية أخرى رفضت هذه الممارسات ومنطلقاتها سواء الإيديولوجية أم المصلحية"، يقف النص على ما أحدثته الثورة التونسية من خلط للأوراق وفتح الباب لاكتساح قوى إسلامية مختلفة التعبيرات ولاسيما المتشددة والمحافظة. ولم تنتج "انتصارات" التيار الحداثوي في انتزاع "تنازلات" من التيار الإسلاموي ضمن الدستور، وفي تشكيل هيئة العمل السياسي والدعاة الحزبية، إنهاءً للتجاذبات حول الدين، حيث "انتقلت من مجال المبادئ الدستورية إلى صعيد التكريس العملي لها في تدبير الشؤون الدينية".

حالة الدين في المؤسسات التعليمية والمرأة

في حضور الديني على الساحة الطلابية التونسية تدقيقٌ في ما كان خلال العشرية الأخيرة من القرن العشرين من معالجة السلطة للتعبيرات الطلابية وغير الطلابية ذات المرجعية الدينية، قبل أن تبدأ تلك التعبيرات تظهر من جديد مع مطلع القرن الجديد على الساحة الطلابية تحت غطاء «الطلبة المستقلين» ذوي الخلفية الإسلامية. بعد الثورة، ومنذ أن تعدّدت التعبيرات السياسية ذات المرجعية الدينية، قبل أن تفوز حركة النهضة الإسلامية في انتخابات تشرين الأول/أكتوبر 2011، شهدت الساحة الطلابية وضع عدد من المسائل المتعلقة بالدين والتدين على طاولة النقاش، ولكن كذلك على محكّ الصراع بين الطلبة الإسلاميين واليساريين. بهذه الخلفية التحليلية، يعرض النصّ بعض أوجه الناشطين في الجامعات التونسية منضوين في أربع منظمات نقابية طلابية مختلفة الحجم والإشعاع وكثافة القاعدة، فيما تتشابه ثلاثٌ منها في الانتماء الإيديولوجي مكرَّساً في الموقف من التدين والممارسات الدينية. وأثناء ذلك، وعلى مستوى  الممارسة الدينية، كانت الصعوبات السابقة، التي كان يجدها الطلبة في أداء الصلاة، قد أُزِيلت، وانتشر الحجاب وفُرِض الاعتراف به، على الرغم من المعارك الشرسة التي انخرط فيها العديد من الأطراف في الجامعة، فيما أصبح الاتحادُ العام لطلبة تونس، ذو الاتجاه الممزوج بين اليسارية والقومية العربية، يضمّ في صفوفه طالبات محجبات، وهو مصيرٌ لا يشبه مصيرَ النقاب الذي أثار معارك أكثر حدة وأقلّ قابلية للحل بالتوافق أو غضّ النظر. وعلى وقعِ ما سمحت به الثورة من حرية في النشاط للطلبة الإسلاميين بمختلف اتجاهاتهم، «خرجت الساحة الطلابية من الاستقطاب الثنائي بين اليسار والإسلاميين مثلما كانت عليه في الثمانينيات إلى مرحلة تتميز بوجود تعددية في صفوف الإسلاميين أنفسهم". 

بعد استعراض جوانب مضيئة لبعض زخم المعطيات ذات العلاقة بالموضوع زخماً قد يوفّر المعطى ونقيضه، يدرس النص التعبيرات الدينية للمرأة في تونس في خضمّ محاولات التضييق على حقوقها باسم الدين نفسه، آخذاً في الاعتبار عسر وضع اليد على أنموذج واحد في علاقة المرأة بالدين، بما في ذلك عسر نمذجة المشهد العام في "التدين" مقابل "اللاتدين" لعدم حسم المجتمع مقاييس لتديّن المرأة. وعلى هذا الأساس تبيّن للنص "أنّ المرأة في علاقتها بالدين ليست دائماً محصورة في خيارين لا ثالث لهما: إما متحرّرة منه... وإما خاضعة له... بل قد يوجد بين هذين الخيارين رؤية ثالثة ربّما ساهمت فيها خصوصية واقع المرأة في تونس، وما راكمته عبر تاريخها الذي يتجاوز مجلة الأحوال الشخصية". أساس ذلك تفاعل ثلاثيّ الأبعاد بين المرأة والواقع الاجتماعي والدين بما سمح بالعمل "على رصد إمكانات وجود الأنموذج الثالث لعلاقة المرأة التونسية بالدين" بخصوصيّات رحلتها التاريخية نحو حقوقها ومكاسبها السياسية والقانونية والثقافية والاجتماعية بما في ذلك من محفزات وحدود ومخاوف.

الدين على المذاهب

في مستوى التنوّع المذهبي هناك نص يستعرض بعض أدوار الانتظام الصوفي التونسي العلاجية والتنفيسية، وخاصة بين الفئات الهامشية، منتبهاً إلى ما كان منذ تسعينيات القرن العشرين من إرادة التشجيع على إقامة التظاهرات في العديد من الزوايا، وتحويل بعضها إلى مهرجانات سنوية يمتزج فيها الثقافي بالسياسي والديني، بما في ذلك العمل على "الحدّ من تزايد مخاطر الإسلام السياسي الاحتجاجي". ومن خلال ذلك يقف النص على قطيعة تعيشها مؤسسات التصوّف مع وظائف اجتماعية كانت، أو يفترض فيها أن تضطلع بها (الوساطة، المخالطة، التكافل الاجتماعي، الحفاظ على الذاكرة الجماعية...) منكفئة على ممارسات طقسية، ما زاد في هشاشتها تجاه ما تصوبه إليها المجموعاتُ السلفية من اتّهام بالقبورية والشرك والبدعة، وصولاً إلى تكفير أربابها. وعلى الرغم من وجود هذا المعطى ونقيضه، فإنّه لا يسوغ القول «بانقضاء فصل التصوّف كلّياً... ولا بعودة الروح إليه».

ويتناول النصّ تاريخ وحاضر ثلاث تجارب صوفية اعتبارية يرى أنّها أثّرت بشكل بليغ في تشكيل مؤسسات التصوّف، مستنتجاً أن المشهد المعيش "يعبّر... على انخراط تدريجي فيما قد تستقيم تسميته بمرحلة ما بعد الإسلامي"، وقوامها "الخضوع لضوابط العيش المستقر... ومحو الفوارق القديمة الفاصلة بين البادية والمدينة،... ومن تداعيات ذلك القبول بما نسميه الحلول التوافقية" أولاً، و"تخلّي المدينة عن أداء دور الضامن الوحيد لاتساق الانصياع لسجلّ الضوابط الاجتماعية والأخلاقية... لانقسام سكانها إلى نُخب قادرة على الفصل بين الحلال والحرام، مقابل عامة ليس بوسعها تبيّن الفرق بين الأمرين" ثانياً، و"الحضور اللافت للمرأة في المجال العمومي. بما دلّل على تلوّن المشهد الاجتماعي التونسي بحاجيات لم تكن موجودة سابقاً" ثالثاً، وانخراط الشرائح الشابة التي تعيش عقدها الثاني أو الثالث "في المشهد الاجتماعي الذي وسمناه بما بعد الإسلامي، وهذا لا يعني أنهم معنيون بمشروع الحداثة ضرورة" رابعاً وأخيراً.

في استنتاجات البحث، بدا الحنفي في تونس اليوم مخلياً الساحة أمام المذهب المالكي، أو متخلّياً عن حنفيّته أحياناً، أو مناوِئاً للتوجّه السلفي الوهابي مع بعض مظاهر "الاعتزاز بالأصل التركي"، الذي يوازيه رفضٌ لتوجّه حزب العدالة والتنمية (التركي)، ولتوجه نظيره التونسي، مع وجود "فئة نسيت انتماءها المذهبي الأوّل؛ لأنّها اندمجت في طائفة الأكثريّة". وفي كلّ الحالات تبدو تلك الفئة ضعيفة التديّن وأَمْيَل إلى اليمين الليبرالي سياسياً وإلى التغريب ثقافيّاً، وغير ذات علاقة "بالتديّن الحنفي خارج البلاد (الجزائر، ليبيا، آسيا الوسطى، الهند، تركيا...) ولا بالجدل الديني - العالمي الراهن". نستنتج من العودات التاريخية للنص أنّ سقوط حكم الباي (1957) "الحنفي" ذو أثر محدّد في ذلك، وخاصةً مع ضمور مشاركة الحنفيين الباقين أو ذوي الأصول الحنفيّة في تأسيس الأحزاب والحركات ذات المرجعية أو التوجهات أو الخلفيّات الدينيّة الإسلامية، مع تفاوت في الشعور بالانتماء الهوياتي بين المناطق (المرسى، قليبية، المهديّة، المنستير، باجة، بنزرت..). وفي غير المجال السياسي ذي الخلفية الدينية الإسلامية، يبدو مَن تمكَّنَ البحثُ من الوصول إليهم مِن "ذوي الأصول الحنفيّة ضعيفي المشاركة، على الرغم من أهميّة الباجي قايد السبسي، وهو منهُمْ، في الحراك التونسي في هذه السنوات، ولكنّهم موجودون وجوداً مؤثراً في الدولة العميقة وفي التصوّف غير الطُّرُقي".

ومما خلصت إليه الدراسة بالإجمال "ربّما كان من بين أبرز ما تقدّمه تلك المادة ما يمنع القول إنّنا إزاء حقل ديني بالمعنى العلمي الاجتماعي للفظة، ولا إزاء مجال مرتّب إلى هذا الحد أو ذاك. قصارى ما نحن أمامه هو مشهد ديني لا يفتأ ينبني حتى ينهدم ليُعاد وضع بعض مكوناته من جديد. تمتزج في ذلك آثار آتية من سطح المشهد ومن قاعه، ومن فوقه ومن تحته، ومن داخله ومن خارجه، ومن الديني فيه وغير الديني، ومن القدسي فيه ومن الزمني،... حيث يمتزج التديين بنزعه، والتزمين بنقضه،... وهو ما أسميناه في غير موضع التجادل بين تديين المدينة (كناية عن الوجود الإنساني) وتمدين الدين.  وبالفعل لسنا في وضوح تام من حيث حدود ذلك المشهد، ولا من حيث فاعليه بمواقعهم ومواردهم وغاياتهم واستراتيجياتهم ومنطق فعلهم، ولا من حيث حقيقة الرهانات والمعقوليات التي تحكم جدلها. وعلى ذلك ليس لنا إلا أن نقف على استخلاص اتجاهات عامة لتغير ذلك المشهد (ولا نقول تطوره) يبدو أن مختلف النصوص، التي يتكون منها التقرير، تدفع نحو الإقرار بها.