إدلب: سقوط المثالثة

بوتين يود أن يذكّر في طهران أن الشراكة مع تركيا وإيران لا تعني المثالثة في مآلات سوريا المقبلة.

شيء من النفاق يعتري الموقف الغربي من مسألة معركة إدلب. وشيء من التواطؤ يكتنف مواقف الولايات المتحدة في تحذيراتها "الحنونة" من الكارثة التي ستحملها تلك المعركة على المحافظة وأهلها. وشيء من الاستقالة يتسرّب من تصريحات الأمين للأمم المتحدة ومبعوثه الخاص إلى سوريا ستيفان دي ميستورا. الكل كان يعرف منذ سنوات أن لإدلب مصيرا قاتما، والكل ساهم وشارك في تحضير ذلك المكان لهذا الزمان.

ليس سراً أن محافظة إدلب اختيرت لتكون محّجاً تنحشر داخله كافة القوى المقاتلة ضد النظام السوري أيا كانت جنسياتها وقناعاتها وأجنداتها. وليس سراً أن رعاة الحلول وعرّابي التسويات خلطوا بدهاء داعش والنصرة وملحقاتهما، بفصائل معارضة توصف بالمعتدلة. بدا أنه يراد لذلك الخليط العشوائي إنتاج طبخة يسهل التهامها، بما يصيب عصفورين بحجر واحد. واحد يخلّص الدول المصّدرة للإرهابيين من عبء عودتهم والثاني يخلص نظام دمشق من عبء معارضة قد يثقل وجودها وامتداداتها الإقليمية أي تسوية تعّدها مطابخ كبرى وفق أجنداتها ومصالحها.

بات السوريون يعرفون أن لـ "الغيرة" الدولية الطارئة على إدلب حسابات أخرى لا علاقة لها بمأساتهم. وباتوا بعد سبع سنوات على انطلاق ثورتهم لا يثقون بعواصم "حقوق الإنسان" التي مرت تحت أعينها مجازر ومسالخ ووقائع إبادة لا تقارن دمويتها بتلك في بلدان كثيرة تحرك العالم بفاعلية لوقفها. فإذا ما خرج وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو بموقف قلق ولائم لنظيره الروسي سيرغي لافروف، فذلك لا يعدو كونه أبجديات مشفرة، تفهمها واشنطن وموسكو، تطال ملفات وحسابات يقع السوريون داخلها كتفاصيل هامشية.

في السياسة تحدد معركة إدلب طبيعة مستقبل التسويات في سوريا. وفي ذلك لن يكون السوريون، نظاما ومعارضة ومواطنين أبرياء، إلا أدوات على رقعة اللعب الكبير. وطالما أن فسيفساء الحصص بات واضح المعالم خارج إدلب، فإن دمشق وأنقرة وطهران وموسكو معنيون مباشرة بخطوط المحاصصة وخرائط موازين القوى هناك، ذلك أن أمر إدلب، للمفارقة، قد يمثل مداخل لمصائر إيران وتركيا وروسيا وبلدان أخرى في المنطقة.

تبدو التصريحات الأميركية الغربية المحذرة من استخدام السلاح الكيماوي بمثابة ضوء أخضر لروسيا بالمضي قدماً في ورشتها لإسقاط إدلب. تهدد واشنطن بردٍّ موجع على أي استخدام للنظام السوري لهذا السلاح في المعركة المقبلة. غير أن هذه التهديدات لا تربك الاستعدادات الروسية الإيرانية الدمشقية، ذلك أن الردّ الأميركي على "كيماوي خان شيخون" في أبريل 2017 والردّ الأميركي الفرنسي البريطاني على "كيماوي دوما" في أبريل 2018، جاء، على الرغم من ضراوته، رمزياً لا يهدد موازين القوى لنظام دمشق، ولا يُعتبر حدثا عسكرياً مزلزلا ضد قواه العسكرية.

يهمل التحذير من الكيماوي على نحو صار سمجاً ما تفعله الأسلحة المسماة تقليدية بالحجر والبشر. تعطي العواصم الغربية صكّ براءة مسبق لما ستقذفه موسكو ودمشق والميليشيات الإيرانية التابعة من نيران على المحافظة وأهلها. ولا ريب أن تصريحات دي ميستورا حول وجوب التخلص من الإرهاب في إدلب ليس زلّة لسان أو سوء تعبير، بل هي كلمة السرّ التي تتناقلها كافة العواصم كعنوان رئيسي للمعركة المفترض أنها "أم المعارك" وخاتمتها. وعلى هذا لا تنشغل موسكو كثيراً بالقرقعة الصادرة في واشنطن، لا بل تعتبرها من عدّة الشغل التي تؤكد وكالتها الكاملة للحل في سوريا بموافقة ورعاية ومواكبة وترحيب الأطلسيين جميعا على ضفتي المحيط.

يأتي تحرك جيمس جيفري، المبعوث الأميركي للشؤون السورية، في عواصم المنطقة مواكبا وليس مناكفاً للورشة الروسية في إدلب. تعلم واشنطن أن ما بعد إدلب يعبّد الطريق لتسوية نهائية للوضع في سوريا، وأنها من خلال استيقاظها المفاجئ على الوضع في سوريا، تبلّغ كل العواصم المعنية، وعلى رأسها موسكو، أنها شريكة في مطابخ السلم بعد أن تفرغ روسيا من تنفيذ ما تبرعت به وشجعتها الدول الغربية عليه من إنهاء عسكري لزلزال ضرب سوريا منذ عام 2011. يأتي الدبلوماسي الأميركي لينظم مع دول المنطقة المتاح والممنوع على طاولة التسويات، بما في ذلك فرض الشروط التي من شأنها إنتاج حل سوري يباركه المجتمع الدولي.

لا تفصح واشنطن كثيراً عن استراتيجيتها الجديدة في سوريا. كل ما خرج عن منابر واشنطن يجمع على مطلب إخراج إيران من هذا البلد. جرى تنفيذ ذلك لمسافة 85 كلم عن الحدود الإسرائيلية، وسيكون لما يمكن أن تعد به موسكو في هذا الشأن على باقي الأراضي السورية شأن في رفض أو قبول مقاربة موسكو الجديدة، وفق عملية آستانا. وقد يمكن تصديق ما تبوح به الأدبيات الأميركية من أن بقاء القوات الأميركية في سوريا يهدف إلى القضاء على داعش وتأمين زوال النفوذ الإيراني في سوريا. فمعركة واشنطن مع طهران ونظامها حقيقية تُحشد لها كافة الجهود وتُستنفر الطاقات من أجلها في اليمن والعراق وسوريا طبعاً.

على هذا تتأمل واشنطن باهتمام ما الذي يمكن أن تنجزه روسيا في القمة الثلاثية اللافتة في طهران التي ستجمع خلال أيام الرئيس فلاديمير بوتين بنظيريه الإيراني والتركي، رجب طيب أردوغان وحسن روحاني.

بدا أن صفقة ما قد أبرمت بين موسكو وأنقرة وضعت على إثرها تركيا جبهة النصرة على لوائح الإرهاب. أسقط أردوغان هذه الورقة كما أسقط ورقة حلب قبل عامين مقابل ما قد تفصح عنه الأيام المقبلة. بالمقابل أرسلت إيران وزير دفاعها لإبرام اتفاق عسكري مع دمشق يمدد وجودها العسكري ويشرع ديمومته. وفي الفرّ التركي والكرّ الإيراني ما يحرك خيوطا وحدودا لشركاء آستانا الثلاث، وما يؤشر إلى انخراط طهران وانقرة التام داخل استراتيجية بوتين وحساباته.

هنا فقط قد نفهم الحشود البحرية الروسية في البحر المتوسط. لا يبدو أن أهل الأطلسي قلقون من سفن بوتين هناك ولا يبدو أنهم معنيون بعرض العضلات في تلك المياه. يبدو ذلك الاستعراض تذكيراً لأهل المنطقة، لاسيما الشركاء في آستانا، بقوة روسيا وجبروتها وقدراتها في أن تختال بترسانتها أمام نظر العالم. في ذلك أن بوتين يود أن يذكّر في طهران أن الشراكة مع تركيا وإيران لا تعني المثالثة في مآلات سوريا المقبلة.

قد نكتشف يوماً أن اضطرار الشريكين للاستظلال بسقوف روسيا سببه تلك الضغوط الاستثنائية التي تمارسها الولايات المتحدة على البلدين. وقد نكتشف يوما أن في ذلك تواطؤ خبيث بين واشنطن وموسكو من أجل تفريغ فائض قوة لدى أنقرة وطهران لا تتناسب مع شروط وقواعد نظام عالمي شديد تنحته عواصم كبرى وجب على الآخرين الخضوع لحقائقه. هنا فقط قد نفهم سرّ الضجيج الكثيف حول إدلب.