البناء يحتفي بالذوات المبدعة وتفاعلاتها

عنوان كتاب "أوراق فنية" للناقد العراقي عبدالعليم البناء يشكل معادلا موضوعيا لمسيرة طاولت الأربعة عقود.
تجارب متنوعة قسمها المؤلف على ثلاثة فصول تتباين محتويات كل منها، لكنها تصب جميعها في هدف إصدار الكتاب
المؤلف يكرّس الفصل الثاني للراحلين من كبار مبدعي العراق في مختلف فنون الإبداع

يشكل عنوان هذا الكتاب "أوراق فنية" للناقد العراقي عبدالعليم البناء معادلا موضوعيا لمسيرة طاولت الأربعة عقود ونيف خاضها المؤلف عمليا في مسارين متلازمين ومتفاعلين ومتداخلين وظيفيا ومهنيا، وكانا بمثابة وجهين لعملة واحدة: عمله مسؤولا لإعلام دائرة السينما والمسرح وصحفيه في الوقت ذاته، بكل ما ينطوي عليه هذان المساران من رؤية وهدف واستشراف وإلهام متكامل، ليثمر عن حصيلة منتقاة من عموده الصحفي "أوراق فنية"، الذي تراكمت فيه خبراته وتزايد خزينه المعرفي، مسلطا الضوء فيه على مختلف مجالات الإبداع وصناعه وإنتاجاته ورسالته ودوره التنويري والطليعي، والذي استمر إلى ما بعد تقاعده الوظيفي، لتسجل وتضيء، وتغطي تقريبا السنوات الأربع الأخيرة في جزئها الأول، تجارب متنوعة قسمها على ثلاثة فصول تتباين محتويات كل منها، لكنها تصب جميعها في هدف إصدار الكتاب.
في تقديمه استعرض الناقد والأكاديمي د.عقيل مهدي يوسف المقالات التي ضمها الكتاب، حيث تناول البناء في الفصل الأول عددا من الكتب الفنية الخاصة بالمسرح، والسينما، والببلوغرافيا والسرديات وغيرها، فيقف عند كتاب د.سامي عبدالحميد الموسوم "من المسرح الشعبي إلى المسرح الشامل" وما حفل به من دراسات وبحوث، ترجمها وعلق على بعضها، ومنها ما يخص الأسلوب في المسرح ومفهوم الطراز، والرؤية والبنيوية، ومصطلح التجريبية، والمسرح الشامل، والشرقي. وكتاب د.يوسف رشيد "الإنشاء المسرحي وعناصره" الخاص بالسينوغرافيا والإخراج، ومعمارية المنظر، والإسهامات التشكيلية في العرض المسرحي لفنانين أعلام مثل: حافظ الدروبي، وإسماعيل الشيخلي، وجواد سليم. وكتاب د.مجيد حميد الجبوري فيما يخص الجانب النظري والفني والتطبيقي، تحت عنوان "دراسات في الحبكة المسرحية عربيا وعالميا"، وكتاب "الرهان على الزمن" وهو سيرة ذاتية لمحسن العزاوي عن زمن الشباب وزمن الشيخوخة، وأيضا كتاب د.عقيل مهدي يوسف "دوائر نقدية وجمالية" عن الذاكرة الإخراجية والتجريب، والنص". وكتاب بشار عليوي "المسرح والإرهاب"، و"الممثل والسينوغرافيا في العرض المسرحي" لجواد الحسب. ثم يدرج كتاب د.جبار جودي "السينوغرافيا، المفهوم، العناصر، الجماليات" الخاص بتشكيل المنظر المسرحي وجمالياته، ومنظوماته البصرية.
أما الكتب السينمائية فيتوقف البناء عند كتب كاظم مرشد السلوم "دراسة تحليلية في السينما الوثائقية" وضياء البياتي "موسوعة السينما العراقية"، وعلاء المقرحي "كلاكيت" وكتاب مهدي عباس "السينما العراقية في عام 2015"، ثم ينعطف على مجاورة تخص الجانب الببلوغرافي، بـ "نبذة موجزة من آثار الواسطيين" يكتبها الأخوان نبيل وعقيل إبراهيم العطية، ويقف عند الكاتبة إيمان عبدالحسين وهي تكتب عن القاصة والروائية ميسلون هادي وتميزها في السرد العربي. كما يتناول "المجلات" ومنها مجلة "السينمائي التي يرأس تحريرها الآن، مستعرضا تجربته فيها والكتابة عنها وعن مجلات أخرى موازية، وعرض تجاربها في رفد المشهد الثقافي مثل "باليت" و"رواق التشكيل" التي تعني بالفنون التشكيلية، وسواها من المجلات على تنوعها.

الكتاب مهم لسعة الأنطولوجيا، وتضافر الأزمنة والأمكنة والذوات المبدعة فيه وتفاعلاتها وبدراجات واضحة التميز في معيارها ومحاكاتها الموضوعية 

وكرّس البناء الفصل الثاني للراحلين من كبار مبدعي العراق في مختلف فنون الإبداع ومنهم: المسرحي الرائد والسينمائي والتشكيلي والمعماري، والتليفزيوني، والمنتج والممثل، والشاعر والروائي. والتي آثارهم الإبداعية مازالت شاخصة وملهمة للأجيال الجديدة، من أمثال: أسعد عبدالرزاق، يوسف العاني، طه سالم، ناهد الرماح، فؤاد الشطي، شفيق مهدي، خليل شوقي، زها حديد، على الجابري، صلاح محمد صالح، فوزي كريم، فؤاد سالم... وغيرهم ممن يشكلون ركائز نهضة ووجدان الشعب العراقي المعطاء، لاسيما أن كثيرا منهم رحلوا في منافي الغربة هربا من جور وظلم واضطهاد حكام العراق المستبدين.
وفي الفصل الثالث "المبادرات والإبداع" يتوقف البناء مع هؤلاء المبدعين العراقيين الذي دفعتهم حماستهم الوطنية إلى أن يقرنوا إبداعاتهم الفنية بالجانب الحضاري والثقافي للعراق، ويختار الكاتب من بين هؤلاء الفنان نصير شمة، وهو من أعلامنا في العزف والموسيقى وانطلاقا من روحه الخلاقة باتت مشاريعه شاخصة في مدننا وعاصمتنا الزاهية بغداد، بمثل زهو شيخ المعماريين محمد مكية، وزها حديد، وهم ينقلوننا إلى ذرى هندسية بنائية، تتخطى الحدود التقليدية إلى الحداثة وما بعدها في عالمنا المعاصر. ويقودنا الكاتب إلى "مؤسسة: مدينة الفن للسينما والتليفزيون" التي يديرها الفنان د.حكمت البيضاني.
كما يتأمل البناء العديد من العروض المسرحية لأجيال متنوعة من المسرحيين أمثال "هلوسة تحت النصب" تمثيل عزيز خيون ومحمد هاشم، ويقدم الكابريه السياسي في مسرحية "نون" للمخرج كاظم نصار، وتجربة مسرح المقهى للمخرج حسين علي هارف. ويفخر البناء بما قام به المبدع والمثقف الشيخ د.سلطان القاسمي عضو المجلس الأعلى للاتحاد، حاكم الشارقة من دعم متواصل وتأسيس غير مسبوق لمهرجانات مسرحية، تحت رعاية الهيئة العربية للمسرح، وما يبذله الكاتب إسماعيل عبدالله من جهود خلاقة ومعه يوسف عيدابي وغنام غنام وآخرون، إذ بفضل الهيئة العربية انتشرت عروض المسرح في دول عربية مغاربية ومشرقية مما يدعو إلى الفخر بمنجزاتها.
وقال د.عقيل مهدي يوسف إن البناء في كتابه استطاع أن يركز سعة معلوماته الاستقصائية، سواء في تحليله واستنتاجاته بأسلوب الصحافة الفنية الجذابة في نقل الخبر ورسم الحدث، وهو يدون مقالاته التي توثق رجالات وتيارات في ضروب من الإبداع المختلفة، تارة يأخذنا إلى دقائق الحياة اليومية، وأخرى يتسامى بآفاق المتخيل الإبداعي الجميل والجليل، مثيرا لأسئلة رئيسية وأخرى تابعة، في وحدات كلية وجزئية في عصر الميديا والعولمة، وصراعاتها المتواترة والغرائبية، ما بين طرفي التوثيق المنطقي العقلاني لجغرافية الواقع، وفعل التخيل والتخييل الإبداعي الحر. لذلك اجتمعت في أوراق الكتاب موتيفات ومواضيع وفروض ومناهج تتفاوت في علاقاتها الترابطية، تبعا لخصوصية الذين تناولتهم المباحث المتنوعة، وخصوصية بعض التجارب الفردية، وما تركوه من أثر على البيئة المحيطة ومواكبة المتغيرات، وإعادة بناء مواقفهم إزاء قيم الحق والخير والجمال، ومتابعة تعمق رؤاهم الفنية والحياتية.
يفيد الكتاب القارئ الباحث عن موضوعات مختلفة، أو ما يستبطنه من أفكار محورية تعزز من بحثه عن الحقيقة والكرامة الإنسانية، فالكتاب مهم لسعة الأنطولوجيا، وتضافر الأزمنة والأمكنة والذوات المبدعة فيه وتفاعلاتها وبدراجات واضحة التميز في معيارها ومحاكاتها الموضوعية.