في التطبيع العراقي مع إسرائيل ومَن يقف وراءه
لا يحتاج العراق إلى قانون يُجرم بموجبه التطبيع مع إسرائيل. "باستثناء إسرائيل" وهي الجملة التي أُزيلت من جواز السفر العراقي لا تزال محفورة في عقول العراقيين وقلوبهم. لم يكن العراقيون ينطقون بكلمة إسرائيل. كان السفر مسموحا به إلى جميع دول العالم ولم تكن إسرائيل موجودة على خارطة الوجدان العراقي.
ما حدث بعد 2003 أن قلة من البشر المنحرفين تجرأت على الإعلان عن سفرها إلى إسرائيل في سباق محموم لشراء الرضا الأميركي بحثا عن رصيد مضاف لتسلق سلم السلطة. نواب ووزراء ومستشارون (وأدباء ومفكرون) وقضاة وزعماء أحزاب، كلهم خرجوا علنا وهم يبشرون ببركة إسرائيل التي حظيوا بها. البعض ذهب سرا أما الأكثرية فإنها لم يردعها أي وازع وطني لا تمتلكه أصلا ففخرت بما فعلته بل أنها دافعت عنه باعتباره سلوكا حضاريا.
قبل سنوات نشر مسرحي عراقي مقيم في باريس مقالا في صحيفة الحياة السعودية لا من أجل الدفاع عن زيارته لأحد أصدقائه اليهود في إسرائيل بل من أجل السخرية من الأصوات التي نددت بتلك الزيارة. سبقه في ذلك روائي عراقي مقيم في المانيا كان قد ألقى محاضرة في حيفا يشيد بها باليهود الذين هاجروا إلى إسرائيل زاعما أنهم أساس النهضة المدنية التي شهدها العراق أثناء الحقبة الملكية.
كان الاحتلال الأميركي للعراق البوابة التي سمحت لدعاة التطبيع العراقيين بالظهور باعتبارهم رسل سلام. لم تُسقط الحصانة عن النائب مثال الألوسي حين ذهب غير مرة إلى إسرائيل. لم يجرؤ أحد على المطالبة بذلك. لا مقتدى الصدر ولا سواه من حراس البوابة الإيرانية التي خرج منها قرار تجريم التطبيع. قال العراقيون كلمتهم في ما بعد حين لم يهبوه أصواتهم. مضى الرجل في حال سبيله ولم يقل أنه أخطأ ولم يعتذر مطمئنا أن أحدا لن ينال منه وهو الحاصل على جواز سفر أجنبي.
يعرف العراقيون أن التخابر مع إسرائيل أو أية دولة أجنبية عقوبته الإعدام في قانون العقوبات. اما وقد وضع ذلك القانون على الرف بعد أن عطله الحاكم المدني الأميركي بول بريمر فإن كل شيء صار جائزا ومسموحا به. وبدلا من العودة إلى القانون الذي يدين تخابر العراقي مع الدول الأجنبية وبضمنها إسرائيل أصدر مجلس النواب قانونا يُجرم التطبيع مع إسرائيل وحدها بما يعني أن التخابر مع أي دولة أجنبية أخرى مسموح به وذلك ما يضع التخابر مع إيران خارج أية مساءلة. ولكن ذلك ليس كل شيء.
هناك رغبة إيرانية في عزل العراق عن العالم تقف وراء ذلك القرار الذي لا يحتاجه العراقيون. ذلك لأن الحكومات العراقية السابقة امتنعت عن تنفيذ فقرات القانون العراقي الخاصة بالتخابر خشية أن يشمل ذلك عملاء إيران وهو ما يعني أن ثلاثة أرباع الطبقة السياسية ستذهب إلى السجون. كان من الضروري إذاً أن تتم التغطية على إيران بواجهة إسرائيل. فـ"التطبيع" مفردة لا تعني بالنسبة لسامعها العربي سوى إسرائيل غير أنها بالنسبة للعراقي لا تعني سوى إيران.
إيران هي البلاء الأعظم بالنسبة للعراق وليست إسرائيل.
إيران التي لم تبق مكانا في العراق إلا وتدخلت فيه تسعى من خلال قانون مفضوح إلى تدمير علاقات العراق بالشركات الأجنبية التي ستخشى التعاون مع بلد قد يضعها في أية لحظة في قائمة الدول التي تتعاون مع إسرائيل. وإيران هي المستفيدة الوحيدة من عزل العراق عن العالم في الوقت الذي تعمل على تطوير علاقاتها العالمية بغض النظر عن مسألة إسرائيل.
لم تكن مفردة "التطبيع" جزءا من الثقافة العراقية وهي ليست كذلك اليوم. غير أن هناك أكثرية من العراقيين كانت قد أدركت أن إيران هي أكثر خطرا على وجودهم الوطني والقومي من إسرائيل. بل أن البعض منهم صار يرى أن إسرائيل قد تكون عدوا مؤجلا فيما تحتل إيران موقع العدو الذي لا يمكن تأجيل الصدام به. ذلك ما يسلط الضوء على رغبة الطبقة السياسية في العراق في الانحراف بالحقيقة. فبدلا من جريمة العمالة لإيران التي هي فعل مؤكد احتل التطبيع مع إسرائيل وهو سلوك مجرد الواجهة. المطلوب أن يتجه العراقيون إلى الجهة الخطأ. وهو ما أسعد حزب الله الذي دمر لبنان تحت شعار مقاومة إسرائيل.
في كل لحظة تمر يخسر العراق شيئا من سيادته فيما يلوح سياسيوه بمقاطعة إسرائيل التي لم تتدخل في شؤونه. لعبة هي جزء من الكارثة العراقية.