'نوريس الفشكول': الموت للجميع
بيروت - صدرت رواية "نوريس الفشكول" للروائية اللبنانية ضحى المل عن المؤسسة الحديثة للكتاب في طبعتها الأولى 2023، والتي تنطلق على لسانِ راوٍ بصيغة المُتكلّم لا نعلمه، من قصّة الطفل نورس الذي رأى النور يوم توفيت أمه وهي تلده، فتربّى يتيما في بيت جدته "مكارم" على قسوة العيش والمعاملة بعدما تعهدته بالرعاية، في قرية "السّن" الجبلية النائية شمال لبنان، حتى شبّ وقوي عوده وتعرف إلى صديقه "ألبير" ابن قرية مجاورة، الذي سيصبح توأمه الروحي حتى يقرّرا الهرب معا مهاجرَين على متن سفينة من لبنان إلى صقلية الإيطالية بحثا عن حياة أفضل.
هناك، وعلى امتداد عشر سنوات مضت، تحوّل نورس إلى "نوريس لوتشيو" الذي يعمل في بيع اللوحات التي ترسمها حبيبته الإيطالية "أنابيلا"، ثم تسليمها إلى زبائن مهتمين بالفنون ومنهم "كاوتيكو" السيدة السوداء الثلاثينية التي كان يضطر للمبيت عندها أحيانا إذا ما تأخر الوقت، حتى تطورت علاقتهما بشكل غير شرعي بعيدا من نظر أنابيلا، وعلى الرغم من انتشار وباء الكوفيد 19 حينذاك.
أما ألبير فأصبح "ألبيرتينو" الذي يعمل في تجارة العملات وتهريب القطع الأثرية محافظا على صداقته القوية مع نوريس والتي لم تنقطع يوما، إلا أنها بدأت تتحول عما كانت عليه سابقا، فكان ألبيرتينو يغيب أياما عن المنزل بين فترة وفترة، فيقلق عليه نوريس ويغضب لذلك حتى حدّ الشجار غير مرة، لاسيما أن الأخير لا يزال يهرّب القطع الأثرية مما يرفضه صديقه.
تطرح الرواية جدلية الهجرة بين بلد شرق أوسطي وآخر أوروبي بدءًا بدلالات لوحة الغلاف التي تجمع بين الأناقة الإيطالية والعمق الفطري لهيئة الريف الشرقية، امتدادا إلى الراوي الذي مارس تقنية الاسترجاع مبكرا، فكان يقطع السّرد في غير موقف لنوريس سواءً مع أنابيلا أو كاوتيكو أو ألبيرتينو في الوطن الإيطالي، ليعود إلى بعض تفاصيل ماضيه في لبنان، كالسنين العشرين الطويلة التي قضاها مع جدته مكارم وعانى فيها مواقف قاسية ومُحبطة من الملاحظات والإهانات تغرقه باليأس والضجر كلما استعادها، لاسيما أنه كان مطيعا لأوامرها وهي تسخّره لعمل كلّ شيء من التحضير لبدء صناعة الفحم في مشحرة القرية،إلى توزيعه على الدكاكين ثم بعد ذلك جلي الصحون وتنشيفها وتوضيبها على الرفوف، حتى تناديه "شنتير" ثم لقبته ظلما بالـ"فشكول".
يقيس نوريس حياته تلك محروما من حنان الوالدين ومن البحبوحة وأدنى مقومات العيش الكريم مع ما هو فيه حاليا في إيطاليا مع أنابيلا حيث الحياة الناعمة الجميلة والسهلة بما يحيلنا إلى البُعد النفسي الذي حضر في كافة تداعيات ما تعالق من ثنائيات حياته السابقة مع حياته الحالية، فهو أحب أنابيلا وعاشرها كما أحب الفتاة "نبيلة" في لبنان وعاشرها أيضا، بل هما وجهان لعملة واحدة بالنسبة إليه في الحيز العاطفي والنفسي مع الفارق في الزمان والمكان، ولطالما أجرى الراوي الكلام عنهما وهو يتناول وجدان وأحاسيس نوريس بينهما سواء في الوطن أو في الغربة زائد محنته مع جدته القاسية، وهو أيضا يعيش الآن ثنائية عاطفية متجددة بين امرأة بيضاء "كالغمام" (أنابيلا) وأخرى سوداء "كحجر أثري نفيس يتقاتل عليه كل من يراه" (كاوتيكو)، إلى ثنائية ثالثة إنما متناقضة تماما نعني علاقته بألبير أو "ألبيرتينو" التي تأزّمت بحدّة في المهجر عكس ما كانت عليه في لبنان، فالأخير أصبح عصبيّ الطّباع، مزاجيا وأكثر قسوة، عبثيا يسخر من كل شيء حتى النساء اللواتي يكرههن بعكس نوريس، ضاربا عرض الحائط بالمبادىء التي عرفها سابقا حتى يشبهه الراوي ببطل الأنيمي المعروف باسم "لايت" في مسلسل "مذكرة الموت" (Death Note)، ذلك الصبي الذي يمتلك مذكرة يقتل فيها أيّ شخص يكتب اسمه فيها، في تماهٍ مخيف مع وضعية نوريس الذي يرى نفسه دائما على لائحة مدوّنة صديقه ألبيرتينو الذي لطالما ناداه "الفشكول"، أو الاسم الذي يكرهه حدّ الغضب السريع، ضاعفه عناد الأخير في قراره بالعودة إلى قريته اللبنانية وعَدّهُ نوريس مرعبا ومُغضبا، فهو لا يريد العودة إلى الوراء ولا يريدها لصديقه لأنها فعل قسوة ومشهدية فشل وإذلال ومهانة بعد عذابات الخطر في أعالي البحار، أو كمن يعيد جلد ذاته أو يذهب برجليه إلى الانتحار، مما تراكم يأسا وثورة في قرارة نوريس وتكتّل في قبضة واحدة وجهها إلى وجه صديقه القديم بعد تضاربٍ عنيف ليس الأول بينهما، كانت كفيلة بإحداث جرحٍ في رأسه ليرحل عنه هذه المرة وهو لا يعلم بأنه ينزف حتى الموت في كوخ بعيد، نهاية قاسية جدا تضاف إلى مراحل حياته القاسية بين الوطن والغربة.
الملّ استطاعت بناء الرواية من منظور نفسي ذاتي وآخر موضوعي معا، بتوافق مُقنِع
هكذا، تستشرف الملّ في روايتها المستقبل الضبابي غدا وما بعده للجيل الحالي ولمن بعده، حيث تؤكد في حكاية النص أنّ خطرا ما داهمنا في علاقاتنا الإنسانية مهما كانت متماسكة العرى، ولا يزال يقضمنا شيئا فشيئا، وأن لا قدر جميلاً في الجنّات الموعودة ما وراء البحار، بواقعية وجرأة وبعمق الرائي من كواليس الراوي، ذلك أنّ الأخير هنا ليس المؤلف، إنما هو الشخص المتخيَّل الذي يرسل الخطاب الروائي باتجاهنا نحن المتلقّين، والذي يبدو أنه يتحوّل بين حين وآخر إلى راوٍ مُشارِك في الأحداث من ضمن الشخصيات الأُخرى لأنه يخاطبنا بالضمير المتكلم الذي يعتمد أيضا الأسلوب المباشر في التعبير، أو خطاب الشخصيات، بالحوار الذاتي (مناجاة) أو بالتأملات أو بالتفكير بصوتٍ عالٍ، أو الحوار مع الآخرين، أو بالاسترجاع، أو بتداعيات الذاكرة، وهذا كله فعله نوريس.
من هنا أتقنت الملّ دائما، بوصفها المؤلف، تحريك هذا الراوي كتقنية أساسية في بناء روايتها، في منحًى فني يبدو أنه عصارة تجربتها الروائية الفذّة بعد عدة إصدارات سابقة، كما أحالتنا إلى المرجعية المجتمعية في عمق المناخ العام وفي مفاصل العلاقات بين شخصياتها، ما جعل الرواية ذات قيم إنسانية موافقة تماما لمنظومة قيمها، تقترب من المنظور الإيديولوجي بعض الشيء ولا تنغمس فيه، كما ابتعدت من شاعرية القصّ، التي وبالمناسبة أدخلت السرد العربي حتى اللحظة في متاهات الخلط بين الرواية، والحكاية بمعناها المُسلّي للجمهور، وذلك من أجل أن تطفو الجدية على سطح المآلات التي تود بلوغها في خاتمتها، في نسيج متساوق من الحوارات السهلة المفردات العميقة التي تطرق باب خصوصية المجتمع الذي تنساب فيه الأحداث، مصدرا للمادة الحكائية وحبكتها ولغتها التي صنعت شخصيات روائية لا تُنسى، في تجاوز مقنع عن التقيد بأصول وتقنيات وقواعد سردية مسبقة، بحساسية متنامية تكتب مناخها الدلالي وهي تلامس التجريب الروائي عفوا أو قصدا.
في مثل هذا التصوّر، استطاعت الملّ بناء الرواية من منظور نفسي ذاتي وآخر موضوعي معا، بتوافق مُقنِع، وعيا بأفعال الشخصيات من جهة، وعرضا للأحداث من جهة أخرى، مع وجاهة ترتيب مستوى عالٍ من المعاناة لمن نكتشف أنهم أبطال لحادثة قد تكون واقعية وتحصل في أيّ ريفٍ فعلا ولو اختلف الزمان والمكان، ما دفع إلى تشكّل خطاب رسالي رؤيوي محضته الكاتبة منحة التأثير في القارىء وهي تقوم بمهمة تسعير الحكاية، فلا تتكلم عنها كواقعة اجتماعية محددة بعينها من حيث هي سرد وحدث وحوار أفراد فحسب، إنما تحيلنا، وهذا لربما هو الأهم، إلى الحيّز المعرفي/الأنثروبولوجي الذي نبتَ فيه وعي أولئك الأفراد بعالمهم، أو ما يمكن اعتباره نشوء الوظيفة الاجتماعية لكل منهم ثم تطورها بشكل مُتوقَّع ترجمته قسوتهم بالإجمال (نوريس، ألبير، مكارم) التزاما بواقعية الرواية وصدقيتها، حيث يمكننا استخلاص غير حقيقة تأخذنا لاستخلاص أفكار لافتة تنقدُ مسلّمات من المسكوت عنه قصد تقويمها بالاتجاه الصحيح، تكرست خلسةً في ثنايا سلوكياتنا الأسرية بطريقة غير صحية، منها تربية الأطفال التي لا يمكن للجدّة فيها مهما كانت قادرة ومُحِبّة أن تكون بديلاً تربوياً من الأم أو الأب لتؤتي ثمارها كما يجب، ما يحيلنا إلى فهم سيميائية اللّقب "فشكول" الذي يعني المُستهتر والفوضوي هو هنا نوريس نموذجا لتنشئةٍ خائبة غير سويّة هي نفسها التي حكمتْ سيرة ألبيرتينو.
بنفس زاوية الرؤية، نلحظ بمعيّة الصديقَين اللدودَين عملية نموّ الشّخصية الرّوائية وهي تتغيّر فلا تتلبّث على صفات أو ثقافة أخلاقية واحدة بين سنٍّ وآخر وبيئة وأخرى كما حصل في تطور علاقتهما، منذ نشأتهما الفطرية السليمة معا الأول كمُسلم والثاني كمسيحي في أعالي جبال الشمال، ثم تحوُّلهما مشروعَي وفاة غرقا في البحر، قبل أن تنخر فيها الإيديولوجيات مع تقادم الزمن ودخول عصر الثورة الرقمية الخطيرة ليتقوقع كل منهما داخل ما يراه صحيحا من أفكار ومصالح ضد الآخر لا تكاملاً معه، ودائما تحت وطأة تحدّرهما من نسلِ مكوّنٍ ديني يسهل فيه التطور الخُلُقي من التسامح إلى التطرّف في شرقنا العربي.
في هذا السّياق أيضا، تقرّ الرواية وبما يشبه الاعتراف بأنّ تعارف الرجل (نوريس نموذجا) بنساء من بيئات مختلفة يتغايرن في الجمال والتفكير والقناعات، يضيف إلى شخصيته ثقافة جديدة مكتسبة ليست من صفات ما نشأ عليه في بيئته، وقد تفيده في حياته العملية وتفتح له باب التخلص من الرهبة والقلق في التعامل مع الآخرين لاسيما في بلد أوروبي كإيطاليا بصرف النظر عن شرعية تلك المعرفة وظروفها.
إنها رواية رسائل اجتماعية حادّة ومشتعلة، تسقط أقنعة الجنّات الموعودة في الغرب، وهما حزينا على هامش السعادة، كما تنعدم معها إمكانية التخفيف من الصورة/القساوة التي تمنع الموت أن يكون خلاصا مع رمزية دخول الكورونا على خط السرد كأداة للقتل المتوحش حصدت أنابيلا في غرفة الإنعاش ثمّ "كاوتيكو"، وحتى لا تقتل الكاتبة اعتبارات الظروف القاهرة التي لا مفرّ منها كممر إلزامي إلى وفاة "ألبيرتينو"، ولو عفوا، على يد صديقه "نوريس" الذي قضى هو الآخر لاحقا بالوباء قبل أن يخبرنا الراوي في النهاية أن طبيبه الذي كان يعالجه من الكورونا، وأنه ابن نبيلة حسين حسن جواد التي عاشرها ذاك الفتى يوما في قرية "البيرة" المجاورة لقريته، مقرّرا إجراء فحص DNA قبل دفن من قد يكون والده فعلاً إذا أرادت الأقدار المؤلمة.