سيرة فلاحة نمساوية تحدت الرايخ في 'المرأة التي قالت لا لهتلر'
في 13 مارس/اذار 1938 قام هتلر بضم النمسا لألمانيا بالقوة، وفي محاولة لجعل الأمر يبدو شرعيا، تم في 10 أبريل 1938تنظيم استفتاء للموافقة عليه، وبالتأكيد ربح النازيون التصويت بأغلبية ساحقة، وصلت في بعض الدوائر إلى 100 بالمئة ولكن الاجماع لم يكن في كل مكان، ففي قرية لعمال المناجم بمنطقة جبلية بالنمسا؛ حيث كانت الحماسة النازية في أوجها، صوتت الشابة ماريا هايم كوسلر في الاستفتاء بـ (لا)، وأمست معروفة في القرية كلها بـ "الصوت الرافض للضم"، وقد كلفها هذا الكثير حيث عانت من العزلة والتجاهل ومحو الأثر لدرجة إزالة اسمها من على شاهد قبرها.
الكاتب الألماني وولفغانغ مارتن روث المقيم بالنمسا، قدم في كتابه "المرأة التي قالت لا لهتلر" الصادر عن دار صفصافة بترجمة د.إشراقة مصطفى حامد، سيرة ذاتية لماريا هايم كوسلر، تتبع خلالها تفاصيل حياتها وخطواتها الجريئة. ليسلّط الضوء على أجواء الاستفتاء والمواقف والأحداث التي أحاطت برفض ماريا؛ كونها دُرة نادرة رفضت الانصياع للضغوط الاجتماعية والسياسية خلال فترة حكم النازية، لتصبح رمزًا للرفض والشجاعة في مواجهة الظلم.
انطلقت فكرة الكتاب عندما انتقل روث مع زوجته كارين إلى المنزل الذي ورثته في بلدة ألتاوسي. حيث بدأت كارين في التعامل مع تاريخ المكان مثيرة اهتمام زوجها بتفاصيله، لتلفت نظره إلى الاستفتاء بضم النمسا إلى الرايخ الألماني في 10 أبريل/نيان 1938، حيث كان هناك تصويت واحد بـ "لا". ليبدأ رحلة البحث، يزار المكتبة الوطنية في فيينا ويرصد ردود فعل في الصحف وقتئذ، ويلتقي الأشخاص الذين ما زالوا يعرفون ماريا هايم كوسلر شخصيا ويحصل على بيانات وسجل (حزب العمال الوطني الاشتراكي) في ألتاوسي، وهو تاريخ الحزب النازي في المنطقة، والتي ورد فيها "كشفت التحقيقات، لم يتم الإدلاء بهذا التصويت من قبل عاهرة فلاحية غبية، مما أثار انزعاج كبير للمجتمع بأكمله، الذي جلب بالتالي عيبا لا يمكن إصلاحه في النتيجة الجميلة للتصويت".
يقول روث "حصلت على عينة من ورقة الاقتراع للتصويت الذي تم في 10 أبريل 1938.. وجاء كالتالي: الاستفتاء الشعبي والبرلمان الألماني الكبير: هل توافق على إعادة توحيد النمسا مع الرايخ الألماني الذي تم في 13 مارس/اذار 1938، وتؤيد قائمة قائدنا أدولف هتلر؟". صوت واحد ضد الاستفتاء الذي جرى بشأن ضم النمسا إلى ألمانيا "الأنشلوس" (تمت عملية "الضم" في 13 مارس 1938). كان الاستفتاء الشعبي موجهًا للموافقة على الانضمام إلى الرايخ الألماني بقيادة هتلر، وصوتت غالبية الشعب النمساوي بـ "نعم"، في حين كانت نسبة الصوت الرافض (الذي تم تمثيله بعلامة "لا" أو"X" صغيرة جدًّا). في هذا السياق، كانت خطوة المرأة الوحيدة في ألتاوسي التي اختارت أن ترفض هذا الأنشولوس، في موقف شجاع يميزها عن باقي السكان الذين صوتوا بـ "نعم".
ويضيف "دائرة "نعم" كانت كبيرة مقابل دائرة "لا" الصغيرة، وهذا يدل على أن الرأي العام كان مؤيدًا بشدة للقرار الذي دعا إليه هتلر، في حين كان الصوت المعارض هو صوت واحد، صوت المقاومة الجسور؛ مما جعل هذه الحالة بارزة في تاريخ المنطقة. ومع ذلك، كان رئيس الحزب النازي لمنطقة باد آوسيه قد تحدث بكلمات واضحة في صحيفة ألپنبوست بتاريخ 8 أبريل: "ما نقوم به في يوم الأحد هو عمل مقدس، إنه خدمة عظيمة للأمة جمعاء. يجب أن يشعر أدولف هتلر، ابن وطننا ومنقذه، بحبنا العميق والمخلص له، بكل عظمته وعمقه. شكر بسيط جدًّا على كل الجمال والنبل الذي ينبعث من هذا الرجل الذي يضيء أرضنا الصغيرة وإمبراطوريتنا المجيدة. تقدموا أيها الأوزير، والألتوسير، والغروندلسير، والشتراسنر والريترير، وأنتم يا أهل هنتربرغ، تقدموا إلى الأمام لتقديم الاعتراف البهيج! أيها الفوهرر، قلوبنا وحبنا لك، نحن ننتمي إليك كما تنتمي إلينا!. وفي مساء يوم 9 أبريل، دعونا ننحني أمام ربنا الإله، نشكره على عطائه لنا القائد، ولتكن صلاتنا الصباحية ليوم الأحد القادم: "نشكر الفوهرر نعم بالإجماع!".. يحيا هتلر!".
ويتابع روث "رفضت هذه المرأة أن تصوت بـ "نعم"، ليكون التصويت بالإجماع، النتيجة التي كان يتوق لها القائد. لا بد أنها كانت تفكر في صلاة صباحية تختلف عن تلك التي دعا إليها الجميع. ورغم ذلك، لم يتأثر قرارها بحقيقة أن أساقفة كنيستها قد أصدروا "الإعلان الرسمي" الذي تمت قراءته في أنحاء البلاد. وفي رسالته المرفقة بهذا الإعلان إلى جوزيف بوركل، أوضح الكاردينال إينيتر موقفه ورؤيته للأحداث، لكنه لم يتمكن من تغيير قناعتها. أؤكد مرة أخرى أن إعلان الأساقفة مثل بياننا حول الانتخابات بشكل عام، يجب أن يُنظر إليه على أنه التزام نابع فقط من صوت دمنا الألماني المشترك. هذا الإعلان الذي تمت تلاوته أيضًا في قداس الكنيسة في ألتاوسى، والذي خُتم بعبارة: "يحيا هتلر!".
(إعلان رسمي!)
بمناسبة الأحداث التاريخية العظيمة في ألمانيا والنمسا، نحن أساقفة المقاطعة الكنسية النمساوية الموقعين أدناه، نعلن بكل قناعة تامة وبإرادتنا الحرة: نُقرّ بفرح بأن الحركة الاشتراكية الوطنية قد حققت وما زالت تحقق إنجازات عظيمة في مجالات التنمية الوطنية والاقتصادية والسياسة الاجتماعية للرايخ والشعب الألماني، خاصةً لأكثر الفئات فقرًا. ونحن مقتنعون أيضًا بأن جهود الحركة الاشتراكية الوطنية قد أحبطت خطر البلشفية الإلحادية المدمرة. يواكب الأساقفة هذا العمل بأطيب التمنيات للمستقبل، ويوصون المؤمنين باتباع هذه الروح. ومن المؤكد أنه من واجبنا الوطني نحن الأساقفة أن نعلن ولاءنا للرايخ الألماني كألمان، ونتوقع من جميع المسيحيين المؤمنين أن يدركوا ما يدينون به لشعبهم.
فيينا، 18 مارس 1938.
ويرى أن هذا الصوت المنفرد لـ " ماريا"، المتمرد على التيار الجارف، صدر عن فلاحة وُصفت بالمعتوهة، ما أثار استياء المجتمع بأسره، وترك ندبة في مشهد الانسجام الكلي الذي كانوا يسعون إليه. ورغم كل شيء، كان لا مجال لتدارك هذا الخلل الذي شوه النتيجة المثالية. لقد كان ذلك الرفض الوحيد مصدر إزعاج لحزب العمال الوطني الاشتراكي، بل كان عارًا يلاحقهم، أصبح هذا التصويت الاستثنائي وصمة يخجلون من ذكرها. ومن غير المرجح أن تكون ماريا هايم قد انضمت إلى موكب المشاعل هذا. ومنذ تلك اللحظة، باتت معروفة بلقب (الصوت الرافض)".
ويكشف روث "بحثت عن قبرها، المرأة الشجاعة التي تحدت بجسارة هتلر وصوتت بـ لا، وبالرغم من أن المقابر عادة ما تنفرني، فإن مقبرة ألتاوسي طالما جذبتني بما تحمله من سكينة مضللة. هناك عثرت على قبر جاكوب فاسرمان، وعلى الكنيسة الجنائزية الضخمة للكاتب برونو بريم، الذي كان مدرجًا فيما يُسمى بـ "قائمة المختارين" للفوهرر . ورأيت شاهد قبر بسيط يحمل لوحة باسم يوهانيس هينريشسن، مستشار هيرمان غويرينغ لسرقة الفن، وزوجته التي حصلت على فيلا فاسرمان ، مما كان يثير السخرية. وقفت أيضًا أمام قبر قائد الوحدة العسكرية فيلهلم هوتل، أحد أعوان كالتنبرونر البارزين . لكن قبر ماريا لينورتنر المولودة باسم ماريا هايم والمعروفة باسم كوسلر، لم يكن له أثر، وعندما أخبرت كارين بذلك، لم تجد في الأمر ما يستحق الاهتمام.
ويوضح أن ماريا "توفيت في عام 1986، ولم يكن لديها أطفال، وبعد ثلاثين عامًا هُجر قبرها، ولكن من المحتمل أن تكون قد دفنت أيضًا في ماوترن. لم يهدأ لي بال حتى أكملت البحث في المقبرة بأكملها مرة أخرى، ثم توجهت إلى الإدارة؛ إذ علمت أنها دفنت في ألتاوسي، لكن لم يكن أحد قادرًا على إخباري بمكان قبرها بدقة. قالوا إنه في المنطقة الجديدة من المقبرة، باتجاه المخرج الأيمن. وبعد وقت طويل من البحث المضني وجدته. كانت قد دُفنت مع شقيقتها الصغرى جولي، لكن اسم ماريا لم يكن على لوحة القبر. هل كانت هنا بالفعل؟ أم أن قبرها لم يكن موجودًا على الإطلاق؟ كان القبر مزينًا بعناية، ومحاطًا بألوان الزهور الصفراء والبيضاء والزرقاء، وأمامها نبتة أرجوانية كبيرة مسطحة على الأرض، ربما كانت نبتة "لا تنسوني". لم أكن أعرف شيئًا عن الزهور. وفوق شاهد القبر النحاسي كان هناك درع من الحديد المطاوع، كما لو أن شخصًا قد بذل جهدًا كبيرًا هنا. ربما لم يكن من أجل ماريا، بل من أجل أختها التي لها أحفاد، لكن في النهاية كانت ماريا هنا أيضًا. أسعدني أن أراها تستكين في أزليتها في قبر جميل، حتى وإن لم يُكتب اسمها عليه. وفي طريقي، بالقرب من المقبرة، صادفت رجلًا مسنًّا من أهل البلدة، فسألته عن ماريا هايم، ففاجأني أنه كان يعرفها شخصيًّا.. "ولكن لم يحدث لها شيء"، تُقال هذه الملاحظة دائمًا عندما يتحدث عنها السكان المحليون. سألته عما كان يميزها. قال عنها إنها: "كانت إنسانة ودودة ولطيفة، وكانت كاثوليكية جدًّا، لكنها كاثوليكية من الداخل". لم يستطع أن يصفها بأفضل من ذلك، ربما لم أكن في حاجة إلى معرفة المزيد، ربما كان يكفي أنها كانت مؤمنة بطريقة معينة، وأن هذا أعطاها الحرية في تجاهل توصيات كنيستها الرسمية. يبدو أن هناك موقفًا دينيًّا، موقفًا داخليًّا، يمكن أن يتيح لها مثل هذه الحرية.