أحداث ما بعد الحفلة الراقصة

هناك مَن فاز بالكأس، ومن فاز بالمحبة والتعاطف العالمي لحد إسقاط الديون، ومَن فاز باحترام العالم بأسره لحد إعادة ترتيب نظام القوى العالمي .
العرب مروا على المدرجات والملاعب ولم يتركوا إلا أثراً قبيحاً، وأحياناً جاهليٍّا
يالها من مستديرة! حقاً ساحرة، وساحقة أحياناً

انتهى الموسم بحفل بسيطٍ وراق، ما زال دفؤه وعطره يحيطان (بلوجنيكي) في العاصمة الروسية موسكو، وما زالت هوامشه باقيةً وتداعيات أحداثه مؤثرةً. فلم يكن حدثاً كرويّاً فقط، ففي هذا الموسم الرياضي لم تكن تغطي ظلاله الكرة فحسب، بل الكثير من السياسة والتاريخ والثقافة والدين والفكر .
لذا فهناك  مَن فاز بالكأس، ومن فاز بالمحبة والتعاطف العالمي لحد إسقاط الديون، ومَن فاز باحترام العالم بأسره لحد إعادة ترتيب نظام القوى العالمي .
فيالها من مستديرة! حقاً ساحرة، وساحقة أحياناً .
 ففي هذا الكرنفال تحولت المدرجات لمعرضٍ فني، تحدث كل مشجعٍ عن وطنه وتراثه وانتمائه بطريقة رائعة وبلغاتٍ راقصة وبألوان مبهجة ورسوماتٍ بعيداً كانت الأجواء عن السياسة والقوى العظمى، وكان المشجعون بشراً يعبرون عن إنسانيتهم أكثر مما تعبر عنها الأمم المتحدة نفسُها.
فمن خلال التشجيع والمدرجات ظهرت ثقافة الجماهير فكان اللاتينيون راقصيين بمذاق مختلف متأثرين بالكابوريا، والسامبا، والتانجو، والسلاسا. وكان الأوروبيون فلاسفةً للموضة ليعكسوا بذلك تراثهم وحضارتهم الإنسانية .
أما الأفارقة فكانت أبواقهم وطبولهم وحركات أجسادهم دليلاً على حماستهم، فالموسيقى لديهم صوتٌ لغويٌّ، وليست ايقاعاتٍ فحسب . 
 وهؤلاء الآسيويون أحفاد التنانين، ومحاربو النينجا والساموراي، التشجيع لديهم كأنه يضم طاقتي الحركة والسكون معاً، وكأنهم يرددون أنهم من بلاد الشمس والحكمة.
أما العرب، فقد مروا على المدرجات والملاعب ولم يتركوا إلا أثراً قبيحاً، وأحياناً جاهليٍّا.  
لست  الْيَوْمَ في معرض التحليل الرياضي، ولكنني ولأول مرةً أَجِد أموراً أشد أهميةً من الكأس، حدثت بشكل عارض أحياناً، ومتعمد أحياناً أخرى. لتحول المونديال الكروي لصورةٍ دراميتيكية، تجعل للحدث الواحد أكثر من بطل مؤصلةً  بذلك لفكرة  الأحصنة السوداء.  
سأكتفي من تلك الأحصنة بثلاثٍة:

الحصان الأول: فرنسا، التي أحرزت الفوز الكروي بانتصار يحققه الفرنسيون بأغلبيةٍ ذات أصولٍ إِفريقية، وإسلامية، الأمر الذي جعل العقلاء يستدعون في عجالةٍ سياسة فرنسا التمييزية ضد المنحدرين من ذات الأصول، في إشارةٍ لتذكير اليمين المتطرف بمعاييرهم الازدواجية، وسط انتشار سعار الإسلاموفوبيا في فرنسا.
فهل تتذكر فرنسا عنصرية الرجل الأبيض الفرنسي ضد الأفارقة؟ وهل ستوقف المخابرات الفرنسية ما تهندسه من تدابير للحفاظ على حقها في تلك المستعمرات الإفريقية المكتظة بالثروات الهائلة. وهل ستعيد فرنسا ترتيباتها تجاه المهاجرين الذين تركتهم يتمركزون في ضواحيها المهمشة والفقيرة في ظروفٍ اقتصادية واجتماعية قاسية، ليستمر بهم الحال يتبنون بلد المستعمر، وتبتلعهم دوامة التهميش التي أوصلت البعض منهم للتطرف الداعشي. أسئلة أراها لم تعد قيد الحفظ والتهميش.
الحصان الثاني: كرواتيا التي نالت بفضل منتخبها ورئيسته التي نجحت بشكل إعلامي هائل  - أكثر من سياسي - في اجتذاب تعاطف العالم، فيما اسميه "تفاؤل الإرادة"، فكيف استطاعت دولة مثل كرواتيا فُرِضَ عليها نظام العزل الدولي لفترةٍ طويلة عقب انتهاء الحرب تجاه البوسنة والعراك وذلك لما ارتكبه الجيش الكرواتي من جرائم حرب ضد المدنيين الصرب أثناء موقعة العاصفة، وكان من أبرز الانتقادات التي وُجهتها الإدارة الأميركية وقتئذٍ تنامي التعصب القومي، ورفض الحكومة الكرواتية التعاون مع محكمة الجنايات الدولية الدولية فيما يخص يوغسلافيا والتسامح مع الفساد .
استطاعت بعد هذه الخلفية الاستبدادية وشبه الديكتاتورية إلى التحول لنظام ديمقراطي ليبرالي حر مع مزيد من النضج السياسي، فنجحت كرواتيا في استعادة ثقة المجتمع الدولي، وفُتحت أمامها أبواب الاندماج الأوروبي .
واستطاعت بوقت غير طويلٍ باستكمال الشروط المطلوبة للانضمام للاتحاد الاوروبي فيما يتعلق باحترام حقوق الأقليات، ومكافحة الفساد، فقامت بإصلاحات جذرية في سلك القضاء والشرطة، وتأسيس مكتب لمكافحة الفساد والجريمة، لتثبت قدرتها على تأدية دور إيجابي في تحقيق أهداف الاتحاد، لا أن تكون منتفعةً فحسب.
هذه الإرادة الشامخة لا تنفي كون كرواتيا تمر بفترة اقتصادية راكدة، في الوقت الذي توحي فيه البنية التحتية للبلاد وطرقاتها وشواطئها الجميلة على البحر الأدرياتيكي بأن البلد غني ومنظم ومتطور. فكيف استطاع (فقراء أوروبا الجدد) اجتياز كل هذه التحديات، فعلى الرغم من الكساد الاقتصادي إلا أنها تمتلك من الإمكانات والقدرات ما يؤهلها لأن تكون دولةً أوروبية مزدهرةً .
فهكذا كانت بلداً صغيراً مساحةً وديموغرافيا قادرةً على التحدي بفضل الإرادة والرؤية الواضحة القدرة على الابتكار.

حفل ختام المونديال 2018
روسيا تتصدر المشهد العالمي

الحصان الثالث المهم  والمبهر معاً (الدب الروسي):
فقد فازت روسيا باحترام العالم بأسره لتظهر اللقاء العالمي في قمة الروعة والحيرة أحياناً والمفاجأة كثيرا.ً 
هكذا مضى الروس قدماً ليؤكدوا حقيقة أنهم مازالوا قادرين على تقديم الكثير للعالم، فنتذكر معهم شعاراتهم الصاخبة وإبداعاتهم المليئة حماسةً وقهراً وأملاً عندما احتلوا قصر الشتاء وتدافعوا للتعبير عن ذلك (الحكم حكمكم والثورة ثورتكم) فَانكِبوا بعدها مشكلين التجمعات والمسارح والموسيقى والشعر والرواية والنضال السياسي، فتتحول الثورة لدولة. 
إنها روسيا التي ظهرت بصورة لاعب جديد في مشروع قديم، روسيا اللغز المحير، هي أرض المغول والتتار والمظاهر البربرية والرواية التاريخية والقص الاجتماعي والفنون التجريدية والموسيقى وألحان تشايكوفيسكي، وقصائد بوشكين الرائعة ولوحات كاندانسكي  وغيرها، هي البانوراما المأساوية الإنسانية وعالم الأسلحة في ذات الوقت، أي لغز ذاك؟
إنهم دعاة السلام وقارعو طبول الحرب، الأسياد والعبيد، نبض الحضارة والحياة ولعبة الإدعاء والتظاهر وأدوار الطغاة، وترسانات الصواريخ والسلاح الإلكتروني الذي يفوق قوة القنبلة النووية، فأي سيكولوجيا تلك المعقدة التي تحيط بها، وأي غموض ذلك الذي يكتنفها؟
ويعتبر بوتين في حد ذاته لغزاً، فهو ذلك الرجل الأنيق الذي يرسل ابتساماتٍ دافئةٍ وهو يقوم في الوقت نفسه بسحق معارضيه داخلياً وخارجياً، فبعد توليه السلطة أبريل؟؟/نيسان 2000 اعتمد استراتيجية تهدف لدعم السلطة المركزية للدولة، وتشديد قبضة الدولة على المؤسسات الاقتصادية والسياسية وتقوية قدرتها الاستراتيجية، كما أحكم سيطرته على ثروات البلاد من النفط والغاز مما أنعش الاقتصاد الروسي، اتجه لبناء علاقات شراكة مع الصين والهند واستثمار ميراث الاتحاد السوفيتي لتحقيق توازناً بين المحلية والدولية، والاعتبارات الداخلية والخارجية، واستطاع العودة مجدداً للحرب الباردة محتفظاً بأكثر من ورقة من أوراق اللعبة السياسية من خلال علاقته المتميزة والتاريخية بالجزائر وسوريا والعراق وإيران ولبنان وفلسطين، كل ذلك وصولاً لإعادة هيكلة النظام الإقليمي في المنطقة وتوطيد علاقاتها بالقوى المختلفة فكراً وتوجههاً، بل تحاول ترسيخ نفوذها وعلاقاتها ثقافياً من خلال جامعات موسكو في الشرق الأوسط لتستعيد مكانتها في التصنيف الدولي.
هكذا روسيا تتصدر المشهد العالمي، بعدما تغيرت صروحاً ومضمونا، ففي نيتها أن تسبق الصين وصولاً للشرق الأوسط، وأن تحل محل أميركا المنحدرة نفوذاً وقوة. فهل ظهرت نواياهم جليةً أم أن الأهداف الكورية ضللتنا؟
 كانت هذه فقط هوامشٌ لأحداث ما بعد الحفلة الراقصة.