حالمان يسفران 'في المكان' على خرائط غوغل

الكاتب الروائي الكندي فرانسوا بليه يقدم في روايته قصة اثنين من الكسالى يقضيان وقتهما في السفر في جميع أنحاء أميركا الشمالية وذلك باستخدام الخرائط الرقمية ما يؤدي بهما في النهاية للرغبة في رحلة حقيقية.

يقدم الكاتب الروائي الكندي فرانسوا بليه في روايته "السفر في المكان" قصة اثنين  من الكسالى بطريقة ما؛ "تيس" و"جود" كلاهما في أوائل الثلاثينيات من العمر، يقضيان وقتهما في السفر في جميع أنحاء أميركا الشمالية وذلك باستخدام خرائط غوغل التي توفر لهما رفاهية المغامرة مع البقاء في منزلهما المريح. "تيس و"جود" حالمان، وتؤدي مغامراتهما عبر الإنترنت في النهاية إلى الرغبة الحقيقية في السفر إلى مكان ما. حيث يقع اختيارهما على بلدة "بيرد إن هاند"، في ولاية "بنسلفانيا" الأميركية. ويبدأن في التخطيط لجمع الأموال التي سيحتاجانها للرحلة.

الرواية التي ترجمها داليا سابق وصدرت عن دار العربي تشكل تراجيديا كوميدية، تحتل فيها الإشارات العديدة إلى خرائط غوغل ويكيبيديا والسير الذاتية لأدباء ونقاد مشهورين جزءًا كبيرًا من السرد. ولهذا السبب فإن الرواية قد لا تصمد أمام اختبار الزمن. أو ربما نعم حيث يمكن أن تصبح وثيقة تاريخية!. لكن على أية حال، فإنها رواية تمس واقع يعيشه الكثير من الناس في هذه اللحظة في مختلف أرجاء العالم، حيث تعتبر ألعاب التفاعل في القصة التي يشرحها المؤلف طوال الرواية بارعة بشكل خاص. وكل شيء مكتوب بروح مرحة ومبتكرة..

"تيس" و"جود" ثنائي يرفض النظام القائم ومستاء من العالم وبلدة كيبيك الصغيرة التي يعيشان فيها، "جود" يعيش على الرعاية الاجتماعية، و"تيس" بأجر ولكن بشكل محدود "خمس وعشرون ساعة" في الأسبوع، وهو الحد الأعلى للعيش، ونتيجة لفقرهما وعدم قدرتهما على الادخار ومن ثم امتلاك المال لتحقيق حلمهما بالسفر إلى بلدة "بيرد إن هاند"، في ولاية "بنسلفانيا". يبدأن التخطيط، لتنطلق رواية رحلة برية تدين لصامويل بيكيت وإيتالو كالفينو أكثر من جون شتاينبك، وقد تمت الإشارة إلى شتاينبك عدة مرات في الرواية.

تبدو حبكة الرحلة تقريبًا مثل رسم تخطيطي صممه ناثان فيلدر. الخطة تتمثل في إقناع مؤلف محلي "سيباستيان" الذي كان معجبًا جدًا بـ "تيس" بالتقدم بطلب للحصول على منحة مجلس الفنون نيابة عنهما تمول رحلتهما وكتابة قصة الرحلة. فتلك هي الطريقة الوحيدة للحصول على المال وفقًا لتيس التي تستخدم كل نصائح مارك فيشر الأدبية للوصول إلى ذلك. 

الرواية جاءت بضمير المتكلم، تحتل "تيس" مركز الصدارة في جميع أنحائها - حتى مع القسم القصير الذي يتولى فيه جود واجبات الكتابة بما في ذلك تعليقاتها بين قوسين ـ لكنها تلعب كثيرًا بالأسلوب والصوت، وغالبًا ما تخاطب القارئ مباشرة، وتجرب العديد من الأساليب - محاولة تقديم المزيد من المعرفة الشخصية عن نفسها من خلال إعادة إنتاج الإجابات على استبيان عبر الإنترنت دون تقديم الأسئلة الفعلية، على الرغم من أنه يمكن تخمين معظمها، ثم يأخذ "جود" نفس الاستبيان ويقدم المفتاح لأي شخص يريد العودة والتحقق مرة أخرى.

بشكل عام، تسير الأمور بشكل جيد بالنسبة لـ "تيس" و"جود". التخطيط للرحلة، وتأليف الكتاب، وحتى بعض ما ينتج عن كل هذا النشاط. ومع ذلك، فإنهم يتخذان خيارات سيئة، مما يحد من إمكانية تحقيق نجاح أكبر، ولكن على الرغم من كل إخفاقاتهما الشخصية، فإنهم يظلان زوجًا مبتهجًا وسعيدًا جدًا بما لديهما.

إنها رواية صغيرة مسلية، يتم سردها بشكل انسيابي في فصول قصيرة ومتنوعة تتلاعب بإمكانيات الخيال، بطيئة بعض الشيء؛ ومع ذلك، فمن المفيد أنه على الرغم من افتقار شخصيتي "تيس" و"جود" إلى الطموح، فإنهما ليسا فارغين تمامًا (تتمتع "تيس" بإحساس جيد بالمشهدين الثقافي والأدبي المحلي في كيبيك)، وحتى إذا كان "جود" يفضل اللعب على جهاز الكمبيوتر الخاص به، فإنه قارئ جيدا للأدب، وهكذا فكلاهما يقدران على الأقل بعض الأعمال الأدبية الجادة.

يذكر أن فرانسوا بليه كاتب كندي من مواليد عام 1973، يعد أحد أبرز الأصوات المعاصرة في أدب كيبيك. صدر له 9 روايات ومجموعة من القصص القصيرة. في عام 2013، نُشرت رواية "السفر في المكان"،  وحظيت بإشادة كبيرة من النقاد، هي روايته الأولى المترجمة إلى الإنكليزية. توفى بليه عام 2022.

مقتطف من الرواية

القليل من التاريخ

(نبذة عن موضوعي)

مع نهاية القرن الثالث، وبينما كان الإمبراطور "مكسيميانوس" يقيم في "أوكتودوروس" (مدينة "مارتيني" حاليًّا في سويسرا) التي كان يجدها منطقة مملة إلى حد ما، قرر أن يرفه عن نفسه قليلًا بإعدام بعض السكان المحليين المسيحيين. وعندما لم يتمكن حراسه من إتمام المهمة، قرر الإمبراطور تعيين كتيبة من "طيبة" لتفعل ما لم يفعله حراسه. لكنْ رفضت القيادات العسكرية للكتيبة تنفيذ أوامر الإمبراطور عند علمهم بطبيعة مهمتهم وأوقفوا رحلتهم في وادي "أجون"، وفور سماع "مكسيميانوس" بذلك الخبر أمر بقتل مجموعة من أفراد الكتيبة ذبحًا بالسيوف، فبدأ أتباعه ذبح أول مجموعة من الجنود واحدًا تلو الآخر. رغم ذلك، رفض ما تبقى من الجنود الانصياع له، فأمر بقتل مجموعة أخرى، وفي نهاية الأمر أرسلت الكتيبة وفدًا إلى "مكسيميانوس" تخبره أنهم لن ينقضوا عهدهم مع الرب مهما بلغ عدد قتلاهم، فأمر الإمبراطور جنوده بضرب سيوفهم في رقاب ما تبقى من الكتيبة.

"موريس" و"كانديدس" و"إكسوبريوس"، هكذا كانت أسماء القادة الشجعان الذين فضَّلوا الموت بجانب جنودهم على محاربة أشقائهم المسيحين، لا أعلم إذا ما أُعلِنَتْ قداسة الجندييْن الأخيريْن لأني لم أسمع من قبل عن القديس "كانديدس" أو القديس "إكسوبريوس" (فعلى أيِّ حال، لا تنتظر أن يُسمَّى الكثير من الأماكن تيمنًا بك إذا كان اسمك "كانديدس" أو "إكسوبريوس") لكنْ ما نحن على يقين منه هو أن "موريس" فاز بمكان في التقويم القبطي وأُطلِق اسمه على العديد من القرى والبلديات والمقاطعات والمناطق البعيدة منها والقريبة حول أوروبا. لكنْ من الذي جاء بفكرة تسمية منطقتنا البهيَّة تيمنًا بقائد من "طيبة" القديمة وتقديرًا له؟ لا أحد. ومن المثير للسخرية أن نهر "القديس موريس"، وطبعًا منطقة "موريسي" التي تحيط به، حصلَا على اسميهما بسبب شخص يُدعَى "موريسي بولين فونتين" الذي كان يُجرِّد الأرض حول النهر من الأعشاب في أحد أيام منتصف القرن السابع عشر. قد تجعلكم هذه المعلومة تعتقدون أن ما حكيتُه لكم عن القديس "موريس" كان مضيعةً للوقت، ولكني على يقين بأنكم قد تضيفونها بشكل أو بآخر إلى إحدى محادثاتكم المستقبلية. إذن لنكمل حديثنا، كان السيد "بولين فونتين" شاردًا بذهنه ناظرًا إلى النهر بعد يوم عمل شاق عندما حدث نفسه قائلًا:

- لحظة واحدة! لم يحصلْ هذا النهر على اسم بعد. ماذا لو أطلقتُ اسمي عليه؟ هذه فرصتي الوحيدة لضمان تخليد اسمي على هذه الأرض، ولنضِف كلمة القديس قبله لمنع أي أقاويل قد تتهمني بالفخر والكبرياء. فيجب أن يكون هناك "القديس موريس" كما يوجد "القديسة ميتشتيلد" و"القديسة يوفراسيا" و"القديس أولوج" و"القديس كريسبين"، فليس من المعقول بعد كل هذا ألا نضيف إلى هذه القائمة شخصًا أو اثنين باسم "موريس" وصادف أنهما ضحيا بأنفسهما من أجل المسيح.

حسنًا، ربما لم يكن هذا تمامًا ما حدث وربما لم يقل السيد "بولين فونتين" هذا الكلام من الأساس. على أيِّ حال، أعطى "موريس" اسمه للنهر ومن النهر انتقل الاسم إلى المنطقة المجاورة، ولذلك من المؤكد أيضًا عدم صحة قصة دخول السيد "لافيوليه" مدينة "تروا ريفيير" وهتافه متعجبًا:

- يا إلهي، إنها صحراء جرداء هنا!

استغرقتِ المنطقة قرنيْن آخريْن من الزمن ليأهلها الناس ويستقرُّوا فيها تمامًا. وفي 1889 على الضفة الأخرى من العالم، بينما كان "جاك السفاح" يجوب منطقة "وايت تشابل" ليقتل مَن يقتل مِن بائعات الهوى وبرج "إيفل" على وشك الانتهاء وتَوَّجَت ألمانيا إمبراطورها الأخير، كان السيد "چون فورمان" منهمكًا في بناء محطة طاقة هيدروليكية بالقرب من مدينة "شاوينيجان" الألمانية لإمداد مطحنة لُب الخشب الخاصة به بالطاقة. وبسبب عدم امتلاكه رأسَ المال، أُرغِم السيد "چون" على مشاركة مشروعه مع ثلاثة رجال أعمال من "بوسطن" وهم: "چون إدوارد ألدريد" و"چون چويس" و"هيرمان ملفيل" (نعم هو المرتبط بجزيرة "ملفيل" الشهيرة)، هم أنفسهم الثلاثة رجال الذين سيؤسسون شركة "شاوينيجان للمياه والكهرباء". لا يملك أحد معلومة مؤكدة عن أيٍّ من الثلاثة جاء بفكرة تسمية القرية "جراند مير" على اسم الجزيرة الصخرية التي تتوسط النهر (التي تعني الجدة بالفرنسية)، ولكننا نعلم حق العلم أن شخصًا أمريكيًّا هو من فاز بجائزة ثاني أكثر الأسماء إضحاكًا في "كيبيك" (نعم إني أتحدث عنك يا من جئت باسم "سانت لويس" لبلدتك)، تمتع هؤلاء الأمريكيون حقًّا بموهبة اختيار الأسماء العجيبة وغير المألوفة.