رحلات العمراني مشاهد ورؤى اجتماعية وثقافية وفنية عربية وأجنبية

الكتاب رؤية يمنية في أدب الرحلات للسفير عبد الوهاب محمد إسماعيل العمراني بما يحمله من رؤى ومشاهدات وانطباعات واقعية عن أبعاد مدن عربية وأجنبية وملامح مكوناتها الثقافية والحضارية.

حظي أدب الرحلات باهتمام كبير قديما وحديثا، عرفه العرب وبلدان الشرق ثم انتشر عند الغرب بعد اكتشافاتهم خارج القارة الأوروبية. 
وتعتبر الرحلات أو قراءتها من أوسع أبواب المعرفة والثقافة الإنسانية لكشف المجهول والوصول إلى الغاية، والمعرفة والإحاطة بالعادات والتقاليد، والتعريف بأوصاف البلدان الطبيعية ومناخاتها، كما أنها مصدر للمؤرخ والجغرافي والاجتماعي، وفيها قدوة وأسوة لمن يريد أن يعتبر ويتأمل.. فقد فطر الله الإنسان على حب الاستطلاع واكتشاف المجهول. 
وهذا الكتاب "رؤية يمنية في أدب الرحلات" للسفير عبد الوهاب محمد إسماعيل العمراني، والذي تعد هذه الطبعة هي الثالثة منه وقد صدرت أخيرا عن مؤسسة أروقة للنشر، بتقديم الشاعر اليمني الدكتور عبد العزيز المقالح، يندرج ضمن أدب الرحلات بما يحمله من رؤى ومشاهدات وانطباعات واقعية عن أبعاد مدن عربية وأجنبية وملامح مكوناتها الثقافية والحضارية وما يشغل أبناءها من هموم وما تحركهم من آمال.
رحلات العمراني تنطلق من العراق ومدنها؛ بغداد، والبصرة وسامراء، والنجف وكربلاء ونينوي، وكركوك، ورصدت تجليات ما يحركها من واقع اجتماعي وعوالم ثقافية وفنية وفسيفسائها الإثني من يزيديين وصابئة وشبك، ثم رحلة إلى تركيا وإيران حيث يقدم صورة بانورامية شاملة للتيارات المجتمعية وخصائصها الثقافية والفنية، وكما احتلت رحلة العراق مساحة كبيرة من المشاهدات والرؤى كانت رحلة المغرب وأسبانيا، ورحلات الصين والهند وبلجيكا وغيرها. 
هذه الرحلات خاصة تلك التي كانت في بلاد غربية كشفت عن عمق حضور الثقافة والحضارةالعربية والإسلامية حاضر بقوة في الدول الغربية.
ويرى العمراني أن كتابة الرحلات فن يتناول أيضا عقائد وأديانا وسياسة بل واقتصاد وعلاقات اجتماعية لبلد ما.. وبالنسبة لي وبحكم طبيعة عملي وتخصصي العلمي فإن ما كتبته خلال أكثر من ثلاثة عقود من مقالات في صحف ومجلات يمنية أو عربية هو في الغالب في الشأن السياسي والعلاقات الدولية ونادرًا ما كتبت في المواضيع الاجتماعية والسياحية وغيرها.

بدأت فكرة إعداد الكتاب الذي استغرق وقتا ليس بالقصير عندما كان الكاتب يخلو لنفسه لحظات بعد عناء الترحال لكتابة ملاحظات أولية

وقد يختلف الأسلوب من بلد إلى آخر كما أسلفت بالنظر للفوارق الزمنية وخصوصيات كل بلد.. فبعضها يقتضي استحضار التاريخ والجغرافيا والنواحي الاجتماعية وثمة بلدان أخرى يُحبّذُ أن يكون الباحث أو السائح أديبًا وفيلسوفًا..! فزيارة أثينا مثلا لابد أن يزور المرء متاحف ومعالم تعكس حضارة الإغريق وفلسفتهم، وزيارة أصفهان مثلًا لابد أن تستدعيك آثارها لاستحضار تأريخ حضارة المسلمين عربا أو عجما.
أما زيارة كربلاء فلابد أن يستذكر المرء مأساة الإمام الحسين والحديث عن الشيعة والتشيع وهو الأمر نفسه عند زيارة الأندلس فمعالم غرناطة وقرطبة وأشبيلية تدعُ موسيقى الموشحات الأندلسية أو أغاني زرياب تتسلَّل إلى أذنيك المسايرة لإيقاع رقصات الفلامغنو الإسبانية ولو بعد قرون خلَت!

ويوضح "بدأت نواة وفكرة كتابة تلك الخواطر والانطباعات عن تلك الأماكن التي زرتها تباعا خلال العقود الثلاثة الماضية كمذكرات احتفظت بها لنفسي وهاهي اليوم تلقى النور في كتاب، ولكن بعد أن عدت لعدد كبير من الكتب والدوريات والصحف ووسائل إعلامية أخرى كالتلفاز وتصفح للإنترنت الذي كان له الأثر في تنمية واسترجاع معلوماتي وعدت بذاكرتي لتلك الرحلات وكأنها حدثت بالأمس.
وهكذا بدأت فكرة إعداد هذا الكتاب الذي استغرق وقتا ليس بالقصير، عندما كنت أخلو لنفسي لحظات بعد عناء الترحال لكتابة ملاحظات أولية، و لم أكملها إلا بعد حين..
ويكشف العمراني "رحلاتي في تلك البلدان لازالت لها ذكريات، وكتبت فيها عن كل بلد رأيته من زاوية مختلفة فباريس لها ألف وجه على حد تعبير الفنان الراحل يوسف فرنسيس (باريس الألف وجه)، واليونان تجذبك بآثارها وأسلوب حياتها تماما كأغلب بلدان جنوب المتوسط بدءا من بيروت وانتهاء بمدينة مالقا في جنوب إسبانيا، وأميركا لها مذاق خاص وآسيا هي الجمال بعينه سواء في ربوع الهند ومعالمها أو شوارع وأسواق سنغفورة وجزر ماليزيا، وطهران وأصفهان لهما لون خاص بالجمال في الخلق والخليقة والطبيعة، وإسطنبول التقى فيها إبداع الإنسان بهبة الطبيعة وعبق التأريخ.. ومتعة التجوال في أزقة فاس ومكناس ومراكش... كل بلد له وصف خاص ومذاق مختلف ليس لكاتب واحد بل لكل من يكتب في أدب الرحلات.

يكتشف المرء سر الحضارات وتطورها والفوارق بين الأمم، ولا يقاس التحضر بمعناه المادي المجرد بل بقيم ذلك المجتمع وعلاقاته الإنسانية وثقافته وعمقه التاريخي

خلال أكثر من ثلاثة عقود عرفت بلدانا كثيرة بدءا بسنغفورة وماليزيا والهند في شرق آسيا مرورا بإيران وبلدان عربية من المشرق إلى المغرب، وبلدان أوروبية وإفريقية وحتى الولايات المتحدة من شرقها في نيويورك وواشنطن وحتى غربها في سان فرانسيسكو على المحيط الهادي ومن شمالها في كندا على ضفاف أجمل شلالاتها (نياغرا فولس) الشهيرة، وحتى أطرافها على حدود المكسيك في شواطئ فلوريدا الدافئة..وملاهي ديزني لاند الأعجوبة!
رحلة أدبية فكرية نَمَتْ مع تنامي شخصيتي منذ مراحل الشباب الأولى قبل العشرين حتى الخمسينيات من عمري أردت لها أن ترى النور عبر هذه السطور لتحمل الهم الجمعي بكل صوره..رحلة فكرية بطابع اجتماعي وعمق تأريخي.

ويتابع "سعيت خلال تلك الرحلات بأن أدونها في ذاكرتي أولًا وفي دفتري بقراءة أولية ثانيًا إلى أن يأتي اليوم لتجد طريقها للقارئ الكريم لعله ينهل منها بعض المعرفة والطرافة والغرابة..
وسعيت لأن أجمع بين الحس الذاتي والجمعِي وأن أقرأ في عيون الإنسان البسيط في تلك البلدان همومهم وآمالهم وتطلعاتهم وطريقة تفكيرهم، فالإنسان هو الإنسان بغض النظر عن قومِيته وملّته ولونه ومركزه..
ومن خلال كل ذلك يكتشف المرء سر الحضارات وتطورها والفوارق بين الأمم. والتحضر بالطبع لا يقاس بمعناه المادي المجرد بل بقيم ذلك المجتمع وعلاقاته الإنسانية وثقافته وعمقه التاريخي.
تلك الرحلات تزامنت مع قراءة قبل وبعد أي زيارة لبلد ما، علها تبحث عن القيمة والمعنى، وعلى هذا النحو تماهت سياحتي بإمكانياتي المتواضعة شرقا وغربا قبل التحولات والعواصف والمحن التي ألمت بالعالم وتركت آثارها السياسية والاجتماعية والاقتصادية على أغلب سكان المعمورة بدءًا بانهيار سور برلين وسقوط بلدان المنظومة الاشتراكية وتبعات غزو صدام للكويت وتداعياتها المؤسفة. بداية بالحرب والحصار وانتهاء بسقوط بغداد بالصورة الدرامية التي شاهدها العالم الذي ذكرنا بسقوطها في عهد هولاكو وسقوط غرناطة في الأندلس، مرورا بأحداث الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتحدة التي جاءت بذريعة تدشين مرحلة من حروب واشنطن على أفغانستان والعراق وغيرهما، وانتهاء بما عرف بربيع الثورات العربية والتي اختلط فيها الحابل بالنابل وأطاحت بأصنام أخرى غير مأسوف عليها..

بعض التحولات في مصر التي كانت تعيش في السبعينيات تعيش عصر الزمن الجميل، كانت للأسوأ

ويشير "عشت سنوات الدراسة في العراق قرب المستنصرية ومسجد أبي حنيفة النعمان وتمثال أبي جعفر المنصور قبل أن يهدمه الشعوبيون عقب غزو بغداد الذي أعقب سنوات من الحصار.
عرفتُ بوابة إيران (خرم شهر) قبل شهور من الثورة الإيرانية وعرفت إيران في العمق بعد نحو ربع قرن من انتصار ثورتها وكان بالطبع فارقا كبيرا سيتناوله الفصل المتعلق بإيران.
وزُرت دبي عام 1977 وزرتها بعد ذلك مرات بعد عقود من أول زيارة وبالطبع شهدت تحولات عظيمة بفضل الطفرة النفطية والإرادة والسياسة الحكيمة لحكّام الإمارات.
وعرفتُ مصر الكنانة في سبعينيات القرن الماضي، والتي تضاعف عدد سكانها خلال تلك السنوات التي خلت، وشهدت هي الأخرى جملة من التحولات للأسف بعضها كان للأسوأ، فمصر في السبعينيات كانت تعيش عصر الزمن الجميل!
كما عرفت عمان ودمشق وبيروت في فترات متفاوتة وحصل الكثير من التغيرات التي تعتبر مزيجًا من التحول الإيجابي والسلبي، وهو انعكاس للحالة السياسية والاقتصادية قبل أن يهل ربيع الثورات العربية.
ويضيف العمراني "لم يحصل ذلك التغيير الجذري في أوروبا فباريس التي زرتها إبتداء من مطلع التسعينيات هي نفسها تقريبا بعد أكثر من عشرين عاما إلا أن التغييرات والتحولات الحادة حصلت في بلدان أوروبا الشرقية التي خضعت لعقود للسيطرة الشيوعية وتحولت بين عشية وضحاها إلى الرأسمالية الأمر الذي أحدث ارتباكا اجتماعيا وخللا في معيشة البعض، وظهرت أقلية من أصحاب الملايين مقابل ازدياد الفقراء واتساع الهوة بين هؤلاء وأولئك، وارتفع مستوى الجريمة وزادت العنصرية ضد الأجانب وظهرت التيارات اليمينية والمتطرفة.

السفير عبد الوهاب محمد إسماعيل العمراني

 كان ذلك قبل أن يحدث تحول اقتصادي لتبدأ ملامح الاستقرار الاقتصادي بعد أن انضمت دول شرق القارة للاتحاد الأوروبي وبعضها حتى الآن ليس أفضل حالا من تركيا التي تتربص لدخول النادي الأوروبي فاقتصادها مؤخرا يعتبر أفضل من بعض تلك البلدان الشرقية ولكن يؤخذ عليها أنها بلد إسلامي ولم يدرك الأتراك بأن الاتحاد الأوروبي هو كما قال بابا الفاتيكان السابق: ناد مسيحي.
ويقول "تركيا شهدت تحولات منذ زيارتي لها في نهاية السبعينيات فغدت وكأنها قطعة من أميركا وليس من أوربا فلم تكن في ذلك الوقت ـ أواخر السبعينيات ـ مؤهلة للسياحة والتسوق بالنظر للانتعاش الاقتصادي على النحو الذي هي عليه اليوم فـ"المولات" المستحدثة التي زاحمت بازار إسطنبول الشهير أعطتها نوعا من الأصالة والمعاصرة، كما أنها تطورت صناعيا بصورة متسارعَة، ودَخْلُ الفرد قفز إلى ما يقارب الضعف خلال عشر سنوات.
وكان ذلك بفضل سياسة حزب الرفاه الاجتماعي بقيادة أردوغان الذي حوَّل بوصلة أنقرة باتجاه القبلة وليس للغرب، مدركا أن مصلحة بلاده هي مع الشرق وليس مع الغرب.
عرفتُ أمريكا قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر الشهيرة ولم يكن هناك وجود لأي نفس عنصري.. وصعدت مع أفراد أسرتي إلى أحد برجي التجارة الدولي التوأم قبل أن تعصف به أحداث سبتمبر من العام 2001، وحولته بالفعل إلى أثر بعد عين.
ويبدو ولطبيعة الكتابة عن رحلتي لإسبانيا و إيران والهند والعراق وإسطنبول وفاس ومراكش وغيرها، وبما تحتويه من معالم وآثار وكنوز عربية إسلامية قد تناولتْ ربما الجزء الأكبر من هذا الكتاب. ويغلب على وصف الرحلة لتلك البلدان ملامح تاريخية وأدبية، وبالطبع فإني لست شاعرا أو أديبا أو مؤرخا ولكني أحاول ببساطة نقل مشاعري في تجربة أدبية متواضعة".

ويلفت "تعلّقت بشغف بهذا النوع من الكتب منذ بدايات سنوات الشباب، وتعاملت مع أدب الرحلات، منذ وقت مبكر على الأقل في مخيلتي وقراءتي وانعكس بعضها في مقالات متواضعة في هذه الصحيفة أو تلك، وعندما بلغتُ سن العشرين كنت قد زرت نحو تسع دول رغم إمكانياتي المادية البسيطة وما كانت لتكون لولا ظروف دراستي خارج اليمن في العراق التي سافرت إليها برا وبحرا وليس عن طريق الجو مما سمح لي بزيارة بعض البلدان وكانت البداية وبعد عام دراسي في العراق اتجهتُ لأوروبا الشرقية عبر إسطنبول، وتمكنت بحمد الله من زيارة بلغاريا ويوغسلافيا (قبل تقسيمها) والمجر ثم العودة من نفس الدول بواسطة القطار المجري السريع وحتى إسطنبول مرة أخرى ومنها عدتُ إلى العراق عبر سوريا".