عدنان الفضلي يلخص في 'بريد الفتى السومري' أفكار الذات

الشاعر العراقي عدنان الفضلي يقدم في مجموعته الشعرية أنموذجا عن التجريب في تبني نفي الحدود الفاصلة بين الأنواع.
طالب عمران المعموري
بغداد

الشاعر بشكل خاص له رؤاه التي تميزه أثناء تشكيل قصيدته الشعرية وهو لا يحقق هذا بنظرة خارجية إلى الأشياء وإنما بفعل الحدس والطاقة الكامنة في داخله مما دعاه إلى التمرد والخروج على الوزن والقافية وتجاوز الأسس التي تشكل ثوابت ارتبطت بالتقاليد فكون نظرته الخاصة إزاء ما يدور حوله وهو ما يطلق  عليه الرؤيا الشعرية.

"ولعل أبرز شيء في إطار مفهوم الحداثة ووظيفته هو الرؤيا التي يرى بعضهم أنها تجسيد للحداثة، فالحداثة نفسها رؤيا قبل أن تكون شكلا فنيا، وبهذه الرؤيا تجسد القصيدة الحداثية رحلتها من الذاكرة الماضي إلى المستقبل بل تلى ما وراء الحاضر والماضي نفسه، والرؤيا عنصر مكون من عناصر هذه القصيدة بل إن الشعر الجديد عند  شعراء الحداثة ونقادها المنظرين بخاصة هو أنه رؤيا أو كشف وسيلته  الرؤيا "1

لعل هذا ما يلمسه القارئ في المجموعة الشعرية  للشاعر عدنان الفضلي إصدار الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق، ط1، 2018.

ذات العنونة بريد الفتى السومري 2 التي تتجلى فيها رؤيته الشعرية وهو ممن يكتبون الآني واليومي في قصائده.

تلك العنونة الخيط الرابط بين الكاتب والقارئ جاءت ليست فطرية أو شيئا اعتباطيا يعلن ظهوره وكينونته إنما تلخص أفكار الذات وفلسفتها الواقعية وهو عنوان استنباطي ورود العنوان كما هو صريحا داخل المجموعة.

بين اضمامتها 18 نصا، نصوص مجموعته تتنوع عتباتها العنوانيه إلا أنها ذات مناخ شعري واحد يكاد يهيمن على تجربة قصائده اعتزازه بمدينته العريقة وحبه للوطن.

ابنية تجريبية ومضامين جديدة يوظفها الشاعر السرد في الشعر سعت إلى دمج الشعر مع النثر وتبني تقنيات تعبيرية، معتمدة أنماط تجربيه جديدة من منطلق تبني" نفي الحدود الفاصلة بين الأنواع"3 وفق ما تقره بعض الاتجاهات كون النص هو كتلة أدبية واحدة.

اتخذ هذه التقنية أسلوبا في بناء بعض نصوص نراه جليا في نصه الذي استهله الناصرية التي في العلا) وكأنه ينوه بالحكي (السرد: ص5

في الطريق إلى الناصرية ...

قد يصادفك مشحوف لم يكتب عليه لفظ الجلالة

إنه يعود لبوذا، وقت جاء يتعلم العزف الجنوبي، في مضارب بني أسد

نسيه عند جدتي التي أورثتني الضلالة السومرية اللذيذة

تسقط نظراتك على أطلال بئر تحرسه أفعى خضراء

هذا منبع الأهوار، سكنها شعب يتلو على نفسه فقط.

الأبوذيات التي تكتبها النسوة مدافة بالطين وبقايا القصب

يوظف الشاعر البنية المكانية وهي أحد عناصر السرد فكان فضاءه السردي هي المدينة، المدينة التي احبها والتي كانت مصدر إلهامه وتعلقه الشديد بها ..

ونلمس في هذا المقطع التقريب بين الشعري والسردي، حيث يلعب السرد بآلياته في هذه النوع من التجريب بإبراز عنصر المكان والزمان والشخصيات عبر قصائد المرثيات، والوصف.

في الطريق إلى الناصرية ... ص 6

ستجد آثار البساطيل على طول الطريق

هي ليست للجنرالات ..

إنها آثار المكارید السومريين

الذين لا يجد المخنثون حطبا لنيران حروبهم المتناسلة غيرهم

وأينما تلتفت في ذلك الطريق

ستشم رائحة شواء تنبعث من قلوب الأمهات والعشيقات

كون نارهن أزلية متقدة بوقود الفقد

وظف الشاعر صوره الشعرية المستمدة من مرجعياته من واقع الأمكنة السومرية وحضارتها ومدينته الناصرية وتراثها ومظاهر الطبيعة في المدينة وشخوصها، وارتباطه الروحي بالأرض، وما خلفته الحروب من الحزن والوحدة والفقد وأوجاع الوطن وأحزان الثكالى موظفا الرمز كأداة للتعبير عن القضايا الموضوعية، التي تحمل معاني عميقة تمس الواقع المعيش وربط الزمن الماض بالزمن الحاضر. والذي يحاول فيها الشاعران يعبر عن أفكاره وايديولوجيته الخاصة: هذا ما يتجلى في المقطع الثالث من قصيدة "الحرب بلغتها الام" ص56 

كثيرا ما احتفينا برايات الوطن العتيق

حتى تلك التي تنشر على النعوش ..

العائدة توا من الحرب

مشفوعة بنشيد سومري عتيق

لأم تولول على لحد

يشبه مهداً سومرياً

متكئاً على جبس أبيض

صار قلب الحبيبة

وهي تقرأ لافتة النعي

المجموعة في مجملها كتجربة غنية بالسمات الجمالية والتي تعبر عن تجربة إبداعية تجذب المتلقي وفيها من المتعة الفنية والإبداعية

فالشاعر يسرد تجربته هو معتمدا على شخصيته الساردة  للأفعال والأحداث وأحيانا يعمد في إيصال رؤيته وموقفه عن طريق الإيحاء..

نلمس كذلك تشظي الانا تشظي الذات في المكون الشعري ومنه إلى تشظي الدلالة التي يسعى القارئ للقبض عليها، موظفاً آليات التشظي وهي الاستفهام أو لغة السؤال كما في نص "كيف" ص 21

كيف النسيان/ كيف اتقبله/كيف سأحرسها/كيف اتخلص من ظنوني/ كيف ترحل

كيف ..؟

أسئلة إلى ولدي الراحل غزوان

كيف النسيان ..

وصرير الباب يذكرني

أنك آخر من يسمر وجه الليل

وأنك وحدك لا شريك لك ...

في الهمس قبيل الفجر ... ص 22

كيف أتقبله

عمر خال من شكواك

وساعات الليل

 المليئة بقلقي من جنونك ..؟

ومن التقنيات الأخرى التي قد لمستها في بعض نصوص الشاعر عدنان الفضلي التجريب في تقنية  شعرية النص المفتوح، انفتاح النص وتعدد تأويلاته من حيث توظيف بنية المجاز لقبولها تعدد التأويل وتتيح للمتلقي ان يشارك في بناء النص، وبهذا تحولت الشعرية في تركيزها على المعنى المتعدد أو الدالة الغامضة نلمس ذلك جليا في نص "دون المخفي من البياض" ص 36

من أول السين

الممتدة إلى سقف كتفها

الى آخر الدال

المتقوسة كرسم الشفة

مازال حريق البياض

يرجّ لساني..

ويدفع به الى الرخام

من فسحة البياض المصقول

المطرز بأقواس اللحظ

الى ليل غاير مزاج الرب

فاصطبغ بسمرة مخبولة

ما زلت أمرر أصابعي

بحثا عن لزوجة..

تقنعني بأن الجسد المجنون

قابل للالتصاق

وظف الشاعر أسلوب التكرار الذي يعد ذا قيمة عالية والذي يمنح النص ثراء دلاليا عبر التراكم للكلمة أو الجملة أو الحرف وهو أسلوب استخدمه الشعراء ما بعد الحداثة بما له من قيمة جمالية، فلم يأتي بها الشاعر من باب الترف اللغوي أو ضعفا في طبع الشاعر أو نقصا في أدواته الفنية وإنما له ارتباطه بالحالة النفسية للشاعر وما يبتغيه من إيصال رؤيته الشعرية: كما في نصه "عندي ما يكفي" ص62

عندي ما يكفي من الوهم

لأتخيل العالم

وقد صار مؤهلا لاحتضان الفقراء

عندي ما يكفي من الانحياز

لأصوت ضد كل أنثى..

لا تمنح نهديها للهواء

عندي ما يكفي من الغرور

لأن أمنح الكذابين

صفة البلاهة

في زمن يكذب دائماً

 عندي ما يكفي من البلادة

لأن أصيح بوجه متغنجة

جاءت تطلب ود قصائدي

عندي ما يكفي من الصمت

لأن أجعل حواراتي الليلية تشتكي التهور

وكذلك في نصه "انت جميلة بما يكفي" ص 67 الذي كرر فيها هذه البنية الشعرية عشرة مرات.

'بريد الفتى السومري'

نزوع الشاعر إلى لغة الوميض الشعري في بعض نصوصه التي تقترب من القصة الومضة، فله ومضات جميلة بلغة شعرية ذات إيحاء وتعبير شفاف ومسار إبداعي تأملي مبهر رؤيويا مسكون بهاجس الإبداع والانزياح العميق تسير على نموذج قصيدة الحداثة، كما في نصه "ما سقط من مسلة سومر":

"نذور"

أبي يعلم بسذاجة أمي

لذا كلما افتقدني

راح يفتش في سلة النذور

"مرور"

لها نبض

يخّضر ليلا فأعبر باتجاهها

ويحمّر حيناً

ليعبر اللصوص

"دماء"

حتى يحقنوا ماء الرصيف

سفكوا دماء السابلة..!!

"قيد"

رقّنت قيد قلبي

حتى لا يكمل مراحل دراستها

المجموعة في مجملها كتجربة غنية بالسمات الجمالية والتي تعبر عن تجربة إبداعية تجذب المتلقي وفيها من المتعة الفنية والإبداعية.

المصادر

 عبدالرحمن محمد القعود: الابهام في شعر الحداثة. العوامل والمظاهر وآليات التأويل، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت،2002 ص 131.

الفضلي، عدنان، بريد الفتى السومري،ط1 ، إصدار الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق، بغداد، 2018.

الضبع، محمود، غواية التجريب، حركة الشعرية العربية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2014.