غزة في قلب الجامعات الأميركية

ليست فقط الادارة الأميركية والكونغرس والشرطة، من يقف ضد الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين، بل الإعلام الأميركي أيضا.

يتصاعد التوتر في قلب الجامعات الأميركية العريقة (Ivy League)، وتمتد الاحتجاجات الطلابية الضاغطة ضد حرب الابادة الإسرائيلية في غزة إلى جامعات أخرى، فعشرات جديدة من الجامعات أعلنت انضمامها للحراك خلال اليومين الأخيرين. وباتت تلك الاحتجاجات المتصاعدة بوتيرة متسارعة منذ السابع من أكتوبر تشكل هاجساً يصعب على الحكومة الأمركية إغفاله أو التجاوز عنه. وما بين صدام طلابي داخل الجامعات، بين المؤيدين لفلسطين والمعادين لها، وبين قمع الشرطة للطلاب المحتجين في ساحات الجامعات المختلفة، وبين الإجراءات العقابية الجامعية بحق المحتجين لثنيهم عن مواصلة حراكهم، تبدو الأمور في تصاعد. وتواصل الإدارة الأميركية مساعيها لتقويض الحراك الطلابيّ المستشري في البلاد، عبر إجراءات تنفيذية أمنية لردع الحراك، وتشريعية رسمية ضاغطة على إدارات الجامعات لاحتوائه داخلياً، فوجهت الاتهامات لرؤساء جامعات عريقة، بعدم القيام بواجبها في التعامل مع الاحتجاجات. إن ما يعقد الأزمة اليوم بين الإدارة الأميركية والحركة الطلابية الواسعة المنتشرة في جميع أنحاء البلاد، هو خلط الإدارة الأمركية عن عمد بين انتقاد إسرائيل على جرائمها وبين معاداة السامية، في قصور خطير لفهم تطورات الأحداث والوقائع في أعقاب أحداث 7 أكتوبر. لقد تعمدت الحكومات الأميركية المختلفة عبر العقود الماضية تجاهل واقع القضية الفلسطينية، إلا أن ذلك لم يعد ممكناً اليوم، وبات هناك مواجهة مفتوحة داخل الولايات المتحدة حوّل فلسطين. وبدأت دعوات الحراك الطلابيّ في الولايات المتحدة بوقف إطلاق النار في غزة، ووقف حرب الإبادة التي تشنها دولة الاحتلال الإسرائيلية المدعمة أميركياً ضد الفلسطينيين، وتطورت بعد ذلك لدعوات تطالب بتحرير فلسطين من الاحتلال الإسرائيلي.

قد تكون تصريحات الرئيس الأميركي جو بايدن يوم الأحد الماضي حول ذلك الحراك الطلابيّ، ورد فرانشيسكا ألبانيز مقررة الأمم المتحدة الخاصة لفلسطين في اليوم التالي عليه، وتوصيات لجنة الاستماع التشريعة لرؤساء جامعات كبرى في البلاد، كافية لتوضيح ما تمر به الولايات المتحدة اليوم من تعقيدات. أدان بايدن ما وصفه بمعاداة السامية “الصارخة” في جامعة كولومبيا، وحذر البيت الأبيض من"الترهيب الجسدي الذي يستهدف الطلاب اليهود والجالية اليهودية". وفي ردها على ذلك تساءلت ألبانيز حول جدوى تلك الاعتقالات التي قامت بها الشرطة في جامعة كولومبيا واستهداف الطلاب الأميركيين الذين يظهرون تضامنًا مع فلسطين، وكيف يمكن أن يكون ذلك مفيداً للحكومة والجامعات في التعامل مع طلابها وأبنائها. وأوصت اللجنة التشريعية باقالة رؤوساء جامعة هارفارد وبنسلفانيا، بعد أن رفضا ربط تلك الاحتجاجات بمعاداة السامية، واعتبراها ترتبط أكثر بحرية التعبير، التي يحميها دستور بلادهم، واعتبرت الجامعات أهم منبر لترسيخها. وأدى ذلك الموقف في النهاية لاستقالتهما، ومن المتوقع أن تطول تلك التوصيات رؤساء جامعات أخرى، مع تصاعد الحراك.

والغريب في الأمر أن إثارة قضية معاداة السامية في مهاجمة تلك الاحتجاجات جاءت على الرغم من تعرض فلسطينيين لهجمات قاتلة، في أعقاب أحداث السابع من أكتوبر. فقد قتل طفل فلسطيني صغير، لم يتجاوز عمره الست سنوات، على يد جار مسن أميركي، تأثر بما بثه الإعلام الاميركي المتعاطف مع الإسرائيليين، بعد تلك الأحداث. وبعد أقل من شهر من ذلك الحادث، تعرض ثلاثة طلاب فلسطينيين يدرسون في الولايات المتحدة، كانوا يتحدثون بلغتهم، ويرتدي إثنين منهما الكوفية، لإطلاق النار، وأصيبوا بإصابات بليغة، كادت تودي بحياتهم، كان ذنب هؤلاء الوحيد أنهم فلسطينيون. وجرى الادعاء بارتفاع نسبة اعتداءات الكراهية بعد أحداث 7 أكتوبر لأكثر من 400 في المئة، بينما أكد مجلس العلاقات الأميركية الإسلامية يوم الخميس الماضي ارتفاع نسبة التحيز الذي تحركه مشاعر معادية للمسلمين أو الفلسطينيين أو العرب بنسبة 172 في المئة في الشهرين التاليين لأحداث السابع من أكتوبر. وخلال الاحتجاجات، من الملاحظ أن من يتعرض فعلاً للهجوم والايذاء هم المحتجين المؤيدين للقضية الفلسطينية، وليس بشكل لفظي فقط، بل اعتداءات جسدية وايذاء الفعلي، ناهيك عن رسائل التهديد بالقتل عبر البريد الإلكتروني، وهو أمر مثبت بالدليل وموجود في مشاهد مصورة. في حين تركزت معظم الاعتداءات التي بلغ عنها المناصرين لإسرائيل خلال تلك الاحتجاجات ضمن نطاق الأقوال لا الأفعال، وهي تلك التي رفض رؤساء الجامعات اعتبارها معادية للسامية، "طالما لم يتحول القول إلى فعل". ومن المفارقات أن من يتم الاعتداء عليهم من المحتجين المؤيدين للقضية الفلسطينية أميركيين ويهود بالإضافة لفلسطينيين وعرب ومسلمين.

سبق الأحداث التصعيدية الأخيرة بأيام استدعاء نعمت "مينوش" شفيق رئيسة جامعة كولومبيا، في 17 من الشهر الجاري، للمثول أمام لجنة التعليم والقوى العاملة المنبثة عن مجلس النواب، بشأن مزاعم حول فشل إدارة الجامعة في الحد من تصاعد ظاهرة معاداة السامية في الحرم الجامعي، حيث تتمتع لجان الكونغرس بسلطات واسعة في التحقيق. جاء ذلك الاستدعاء استكمالاً لاستدعاءات سابقة جرت في شهر ديسمبر الماضي، بعد انفجار الاحتجاجات الطلابية في أعقاب أحداث 7 أكتوبر، لرؤساء جامعتي هارفارد وبنسلفانيا ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)، حول ذات المزاعم. ورغم محاولة شفيق تفادي مواجهة نفس مصير أقران لها، اضطرّوا للاستقالة تحت ضغط تحقيقات وتوصيات تلك اللجنة، واتهامات بمعاداة السامية، إلا أنها لم تنج أيضاً. بعد أن امتنع رؤساء الجامعات الثلاث عن وصف الاحتجاجات بأنها ضد السامية أو إبادة جماعية، استقال رئيس جامعة بنسلفانيا بعد أربعة أيام من جلسة الاستماع، ورئيسة جامعة هارفارد في يناير الماضي، وخضعت مهنتها الأكاديمية بمجملها للتدقيق بعد الجلسة. ورغم إدانة شفيق لتلك الاحتجاجات وربطها بمعاداة السامية خلال لقائها مع اللجنة، وسردت إجراءات الجامعة في معاقبة طلاب وأساتذة، ووعدت بمواصلة تلك الإجراءات، وسمحت للشرطة في الاحتجاجات الأخيرة بإخلاء عشرات الخيام التي نصبها المتظاهرون بحجة انتهاك قواعد الجامعة وسياساتها، الا أن شفيق لم تسلم من توصية اللجنة التشريعة باقالتها، بحجة عدم اتخاذها الإجراءات اللازمة لوقف الاحتجاج، وعدم اتساق العمل في حرم الجامعة مع خطاب رئيستها، رغم اعتبار اللجنة أنها نجحت في إدانة معاداة السامية.

سألت فيرجينيا فوكس رئيسة اللجنة البرلمانية شفيق وأقرانها من قبلها إن كانوا يعتبرون شعار “من النهر إلى البحر”، الذي استخدمه المحتجين معادي للسامية أو يشكل إبادة جماعية. رفض جميعهم اعتبار ذلك، وأكدت شفيق أن أعضاء هيئة التدريس اليهود في جامعتها لا يعتقدون ذلك أيضاً. إن مجرد طرح ذلك السؤال على أساتذة الجامعات من قبل لجنة الكونغرس المسيسة يعكس واقع أميركي رسمي منحاز بجنون. إن شعار “من النهر إلى البحر”، الذي استخدمه المحتجين لا يخرج عن شعار كلامي، في حين يعد نهج وخطة وتصريح معلن من قبل الحكومة الإسرائيلية، في ظل تعاون ودعم وتحالف قوى مع الإدارة الأميركية. كما أن محاولات حشر ذلك الشعار كتعبير عن الإبادة الجماعية يذكرنا بموقف هذه الإدارة المخجل، التي تنكر الأعتراف بحقيقة ما يحدث في غزة من قبل إسرائيل، وهو الأمر الذي تؤكد حدوثه أعداد الضحايا الهائل والتدمير المتعمد والمشاهد المصورة وشهادات الضحايا وتقارير وتوصيات اللجان والمنظمات والمحاكم الدولية. إن ما يجري اليوم في الولايات المتحدة هو هجوم على الحقوق الديمقراطية للطلاب الأميركيين من قبل سلطة بلدهم”، على حد تعبير النائبة الهان عمر.

ليست فقط الادارة الأميركية والكونغرس والشرطة، من يقف ضد الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين، بل الإعلام الأميركي أيضاً. ذلك الإعلام الذي يحمل الخطر الأكبر في الترويج للرواية الإسرائيلية على حساب الواقع الذي يعيشه الفلسطينيين. واعتمد الإعلام الاميركي نقل الموقف الأميركي الرسمي الحامل لرواية الاحتلال، ورغم ثبوت عدم صحتها أكثر من مرة، الأمر الذي أحرج الإدارة والاعلام الأميركي أيضا، إلا أن تلك الاستراتيجية استمرت ولم تتوقف. وفي حين لم يكتف الإعلام الأميركي بالتركيز على الرواية الاسرائيلية، وتجنب تغطية معاناة الفلسطينيين، وإبراز الصورة الحقيقة للإبادة التي تقترف في غزة، أصبح مؤخرا أيضاً يركز على استخدام مصطلحات تدعم موقف الاحتلال في هذه الحرب دون مواربة كالامتناع عن وصف ما يجري في غزة بالإبادة الجماعية وعدم وصف وجود إسرائيل في الضفة بما فيها والقدس وغزة بالاحتلال، والتنكر لقضية اللاجئين. إن ذلك يفسر عزوف شريحة واسعة من الشباب الأميركيين عن الاعتماد على الإعلام الأميركي، واتجاهه للبحث عن المعلومة من خلال وسائل أخرى. وباتت وسائل التواصل الاجتماعي مصدراً مهما لتتبع الأخبار. وقد يفسر ذلك المعركة المحتدمة بين الولايات المتحدة وشركة "تيك توك" الصينية المنشأ، والتي يعتمد المراهقون في الولايات المتحدة عليها بشكل كبير في الحصول وتتبع المعلومات.

وتعد جامعات القمة في الولايات المتحدة مكان تجمع الطلاب الأكثر تميزاً علميا وثقافيا واجتماعيا، فمعظم قيادات الولايات المتحدة تأتي منها، وهو مركز تنشئة قادة المستقل. وتسببت حرب الابادة في غزة بحدوث وعي خطير في عقول الأميركيين الشباب، وهو ما نشهد نتنائجه اليوم في ساحات الجامعات، فأعيد تعريف القضية الفلسطينية لهؤلاء من جديد، بعد أن حجبت أو سادت رواية قاصرة أريد لها أن تعم في المجتمع الأميركي، فالعديد من الشباب اليوم بدأوا بالبحث عن مصادر جديدة تكشف لهم حقيقة القضية الفلسطينية التي لم يتعرفوا عليها من قبل. وأجرى مركز بيو للأبحاث في فبراير الماضي استطلاعا أشار لتعاطف 33 في المائة من الشباب البالغين تحت سن الثلاثين مع القضية الفلسطينية، بينما لم يتجاوز تعاطف 14 في المائة منهم مع إسرائيل، مع عدم اهتمام أكثر من نصف هذه الشريحة العمرية بفلسطين وإسرائيل عموماً. لن يؤدي القمع والشراسة في محاسبة وملاحقة تلك الشرائح الشابة، إلا لنتائج سلبية أكبر، وانضمام أعداد جديدة من الشباب لهذا الحراك.

إن قضية سيطرة اللوبي الإسرائيلي على صناعة القرار في الولايات المتحدة، من خلال الأموال والمنح، تهدد الجامعات وحرية الرأي فيها اليوم، وهي قضية طالما أرقت المفكرين السياسيين الأميركيين. وتقدر جامعة كولومبيا على سبيل المثال أن حوالي 12 في المائة من ميزانيتها السنوية تأتي من الهبات التي يدعمها المانحون، ويترك ذلك اعتماد جامعة كولومبيا وغيرها من الجامعات على تلك الهبات والمساعدات في موقف ضعيف. إن تلك الهبات التي تمنح من قبل زعماء اللوبي الإسرائيلي، واستثمارات الجامعات التي ترتبط بشركات إسرائيلية، في ظل الصلة الوثيقة بين اللوبي الإسرائيلي والشركات الإسرائيلية، يضعف قرار وإرادة الجامعات، ويربطها بالمصالح الإسرائيلية مباشرة، وهو ما تنبه له الطلاب اليوم وربطوه بالاستثمارات في شركات إسرائيلية. ويطالب الطلاب المحتجين في الجامعات المختلفة بوقف استثمار جامعاتهم مع الشركات الإسرائيلية. كما لم يخف اللوبي علاقته المباشرة بالمنح والمساعدات الجامعية والطلابية فهدد بوقفها في الجامعات التي يعلو فيها صوت الاحتجاج، واشتراط استمرارها بتوقف ما يعتبرونه معادياً للسامية. وطالما حذر مفكرو السياسة الأميركيين من خطر تأثير اللوبي الإسرائيلي في الكونغرس وأروقة صنع القرار على السياسة الخارجية الأميركية، أمثال المفكر الواقعي ميرشايمر. إلا أن هؤلاء لم يخطر ببالهم أن جرائم إسرائيل ككيان محتل ستخلق واقع وعي طلابي وشبابي جديد في الولايات المتحدة، سيخلق انقساماً بين طلاب الجامعات وحكومة بلادهم المرتبطة بنيوياً مع اللوبي الإسرائيلي. إن تأثير اللوبي الإسرائيلي السلبي لم يعد يؤثر سلباً فقط على علاقة للولايات المتحدة مع الشعوب العربية والإسلامية في مجال سياستها الخارجية، بل يمتد ليخلق صداماً من الإدارة الأميركية وطلاب الجامعات داخل الولايات المتحدة. وطالما شكلت الحركات الطلابية الأميركية بوصلة لتعديل سلوك قيادتها، خلال حرب فيتنام، والموقف من نظام التميز العنصري في أفريقيا، وفي توجيهها لقضايا اجتماعية داخلية أميركية، فهل ما نشهده اليوم في الولايات المتحدة ثورة على القيم التي رسّختها معادلة معقدة من العلاقة بين اللوبي الإسرائيلي والإدارة الأميركية، عبر عقود طويلة؟