غلام الله: مهندس المنظومة الدينية الجزائرية

مفكر إسلامي جزائري يرى مكانة المسجد في الدولة الحديثة.

هل يمكن أن تتجسد المتناقضات المتصادمة في شخصية رجل واحد؟ وهل يستطيع هذا الشخص أن يتعايش مع المتصادمات وهو منخرط في أتون ما تبقى من نموذج الدولة الوطنية؟ وكيف يمكن أن يغامر بإحلال التعايش بين الذهنية الدينية والعقلية الإدارية في منظومة تقليدية معقدة فكريا ومتشابكة اجتماعا ومتنازعة تاريخيا؟ هي بعض الأسئلة التي يتناوشها مثقفون متابعون لموضوع طبيعة النخب في الجزائر، وهي الأسئلة التي تلازم شخصية ما تزال غير خاضعة للدراسة ومؤجلة في الإهتمام العلمي، بالرغم من تأثيرها الواسع وأثرها المتشعب وتراثها الكبير.

هنا تكون تجربة هذه الأسئلة مع الشيخ الدكتور بوعبد الله غلام الله الذي كان أول من بارك الحراك الشعبي وهو في منصبه الرسمي، ولكنه أستمسك بإصرار في الدفاع عن الدولة، هي خطوات ما تزال في بدايتها في مقاربة أوسع لقراءة النخب الجزائرية، وبالذات في زمن نهاية ظل الدولة الوطنية، وبعد مرحلة جديدة من مسيرة المجتمع.

من يقرأ كتاب "قصة جامع الجزائر" تنكشف أمامه الرؤية الإستراتيجية لـ "المسجد" ودوره في حياة الناس ضمن نسق الدولة الحديثة، بالرغم من أن بديهية العصر الحديث تؤكد وقوع التصادم بين الذهنية الدينية والعقلية الإدارية، ولكن الرؤية التي يتبناها الشيخ غلام الله، متجاوزة هذه البديهية، وهي التي كانت وراء قيامه بإعادة الصياغة القانونية والإدارية والتنظيمية وحتى الوظيفية للمسجد وإدراجه في أجهزة الدولة وفق طبيعتها وخصوصتها الجزائرية. فمنذ وصوله إلى وزارة الشؤون الدينية كانت المنظومة الدينية في الجزائر تؤطرها بعض المراسيم التنظيمية فقط وأغلبها منتوج أمزجة عاطفية وأنطباعات شخصية خاضعة لميولات الأفراد. إلا أن صدمة مواجهة الإرهاب الذي سحب البساط من تحت أقدام الدولة في بداية التسعينات من القرن الماضي وقبلها استيلاء جماعات التيار الديني على الفضاء الاجتماعي دفعت الرجل إلى شروعه في إنتاج القوانين وإخضاع المنظومة الدينية لمنطقها وهو ما جعلها تستعيد المبادرة وتسترجع دورها، وهو ما جعله يمتلك خيوط الكواليس وينسج خيوطها فيما بعد، مستعينا بقوة المرأة عندما إدخل (عبر حيلة قانونية) النساء إلى المنظومة الدينية من خلال جهاز المرشدات، وإن كان الرجل لا يخفي في عديد المناسبات تضحيات كبيرة وصراعات دامية خاضها في بناء مشروع عقلنة المنظومة الدينية وتخليصها من مزاجية أهلها وتوجس خصومها.

كما يكشف كتاب "قصة جامع الجزائر" ملامح مشروع عقلنة المنظومة الدينية ليس من الجانب التنظيمي الإداري، ولكنه يذهب نحو إماطة اللثام عن المخطط الهيكلي العمراني للمنظومة الدينية عبر مفصل "المساجد الأقطاب" التي تهيمن عن الفضاء الاجتماعي وتستوعب الميولات الدينية وتتوسع نحو الهيمنة الثقافية للمجتمع، لتستكمل خطوات المشروع بجامع الجزائر، ذي الإستهداف السياسي وليس البعد التعبدي، والمراد منه أن يضاهي في دوره الأزهر الشافعي والحوزة الجعفرية، ويتجاوز القيروان والقرويين المالكيين.

تقول الوثائق الرسمية أن الرجل وهو في منصب رسمي (وزيرا) خاض معركة شرسة في بداية الالفية ضد ما سمي بمشروع "إصلاح المدرسة" والذي تم التراجع عنه بعد عشريتين من انطلاقه. وفي بعض تصريحاته يرفض غلام الله الإدعاءات بأنه عارض هذا المشروع من منطلقات شخصية، ولكنه يرافع عن موقفه بكون المشروع غير متجانس في ذاته وهو متناقض مع القواعد العلمية والفلسفة التعليمية ومصادم لأسس المجتمع.بوعبد الله غلام الله

ولكن المتابعين لموقف الرجل يرجعون منطلقات هذا الموقف إلى خلفيته المهنية وتفكيره الفلسفي وانتمائه إلى أثقال تراث الثورة التحريرية، كما أنه محاصر بتلك التطلعات الكبرى التي صاغت أجيالا بكاملها من خلال مشاريع الدولة الوطنية في بداية الاستقلال بداية من مشاريع إجبارية ومجانية التعليم مرورا بملف التعريب وصولا إلى الحداثة في نظر صناع القرار في الدولة الوطنية (المدرسة الأساسية)، وهي نفس التطلعات والمشاعر التي ساهمت في النهاية باسقاط مشروع إصلاح المدرسة الذي انخرطت في رفضه حتى التيارات العلمانية التي انقلبت عن مواقفها السابقة، لتأتي مواقف التيارات المحافظة داعمة ومساندة بعدما قرابة عشريتين من الزمن.

من يعرف الشيخ غلام الله يعرف خلفيته الفكرية والعلمية التي لا يحصرها البعض في ثنائية المعرفة الفلسفية والغنوصية الصوفية. إلا أن الرجل أكد أنه يمتلك ميولا اقتصادية ذات أبعاد اجتماعية هي أقرب إلى تفكير وطروحات المصلح الشيخ محمد عبده. فميولاته نحو علم الاجتماع وتفطنه لدور الاقتصاد في بناء المجتمع جعله يؤسس أول جهاز حديث في الجزائر لصندوق الزكاة، والذي تبقى حكاية صراعات ميلاده من الملفات المنسية أوراقها في دهاليز النسيان، ويبدو أن الرجل مكنته علاقاته الدولية من الإطلاع على التجارب النجاحة في هذا المجال فأعاد بلورتها في مشروع أطلقه وهو وزير، ويبدو أنه تمكن من تحقيق الكثير من الخطوات الناجحة بعد صعوبات صادمة يذكر بعضها عابرا في مناسبات قريبة، فإلى جانب جهاز استثمار الزكاة أصر على ملازمة الوقف له، ذاهبا تحت سطوة خلفيته الفلسفية نحو تجسيد معنى من معاني الحرية الاجتماعية كونه يعتبر إعادة إحياء الوقف وتفعيله هو التنزيل الواقعي لتحرير السابقين (الأموات) من الاستعمار عبر الأجيال الجديدة من الأحياء باستعادة الوقف ونقله إلى جهاز اقتصادي ذي أبعاد اجتماعية تنموية، وتحريره من الطلاسم الفقهية الكلاسيكية.

ويبدو أن طموحات الرجل أكبر من عوائق تغيير سرج المناصب واستهواؤه لإحداث الجديد غير المسبوق جعلته يؤسس لمشروع جديد في نفس السياق. فبمجرد توليه منصب رئيس المجلس الإسلامي الأعلى سارع إلى مباشرة تأسيس مشروع الصيرفة الإسلامية لأول مرة في الجزائر.

على المستوى الدولي يمتلك الرجل شبكة واسعة من العلاقات تجعله مثار إهتمام من خلال قدرته على تحقيق التوازن بين الأطراف مختلفة المشارب والاتجاهات والمتناقضة في أغلب الأحيان فهو عضو مجموعة الرؤية الاستراتيجية (روسا العالم الإسلامي) وله العديد من الاقتراحات في طبيعة عملها يعلنها في اجتماعاتها الدورية. كما أن علاقته بدار الافتاء المصرية متينة، وهو منخرط في مؤسسة آل البيت الهاشمية الأردنية التي احتفت به في العديد من المناسبات، وفي نفس الوقت حاضر المقام المتميز في نشاطات رابطة العالم الإسلامي السعودية، دون أن يغيب عن دورات مؤتمر الوحدة الإسلامية الايراني، ومن الموقعين على ميثاق العيش المشترك في الامارات العربية، دون أن تخفى لمساته في مناسبات الفاتيكان، مما يدفع البعض إلى الرفع من منسوب دبلوماسيته التي تمكنه من التعايش بأريحية وسط التناقضات الدولية.

لا يترك غلام الله مناسبات إلا وأبان عن تمسكه بتاريخ الجزائري والإشادة بمكانة الجزائر والتنويه باستثنائية الثورة التحريرية دون أن تغيب عنه الدولة إلى استلهام قيمها وضرورة استمرارية مثلها العليا. فالرجل مجاهد ممن عايش الاستعمار الفرنسي ولقى من شروره الكثير اعتقالا وتشردا ومطاردة ومضايقة، مما يجعل من الظلم الاستعماري حاضرا في سلوكاته وكتاباته وتصريحاته التي في غالب الأحيان يفاجئ بها المشهد الإعلامي، بإشارات غائرة في استعادة الذاكرة المستضعفة، إلى درجة تحقيق تلك اليتوبيات القائلة بتعايش منسجم بين الوطنية بمفهومها الأرضي الوجودي والدين بمعانيه السماوية المتعالية.

من يتابع سلوكات غلام الله وحضوره في مختلف المناسبات ينتابه شعور الاستثناء من تلك التلبية التي يسارع بها نحو مختلف المناخات، فبرغم من انتمائه الاصلي إلى المنظومة الصوفية إلى أن الرجل حاضر في المحافل الأخرى من الاتجاهات والأفكار والتنظيمات مع أريحية كاملة دون أن تظهر الحواجز الفكرية أو النفسية مما يجعله مستندا كما يفسر البعض هذا السلوك بالبراغماتية الفلسفية التي نشأ عليها والتي تجعله يتجاوز عوائق تراكمات الماضي.

لا يمل الشيخ غلام الله من المرافعة عن شعار يتبناه يسميه "المنصب والانجاز". فالمقربون منه ومن سبق أن عمل معه في مختلف المناصب، يؤكدون أن الرجل إداري من الطراز الرفيع. فهو ينتمي إلى البيروقراطية الكلاسيكية وكان أثره في كل المناصب التي تولاها، وإن كان بعض هؤلاء يعبرون عن عطالة تريثه وتثاقل تحركاته الإدارية، إلا أن البعض يحصي إنجازاته الكثيرة التي تمكن من خلالها من إحداث فرق واسع بينه وبين من يسبقه إلى المنصب ويترك إرثا ثقيلا لمن يخلفه. فهو القائل أن وصوله إلى المنصب الإداري الذي يقول أنه "لم يطلبه يوما" لا يخرجه من دائرة بيروقراطية الدولة. وسرعان ما يكشف الرجل عن رؤيته هنا وبالذات في كتابه الروح المعنوية والانتاجية، الذي أخذ منه سنوات في التوفيق بين مختلف المدارس الفلسفية والتقريب بين النظريات الاجتماعية والنفسية والاتجاهات الاقتصادية، لتكون نتائج بحثه قواعد منهجية سار عليها في منهية عمله في مختلف المناصب التي تولاها أو المهام التي أدارها. كما يكشف كتاب الروح المعنوية أنه لم يكن بحثا نظريا أو جهدا فكرية بل هو أقرب إلى خطة عمل نسجها الرجل في بداية حياته وبالذات في بداية السبعينات من القرن الماضي، وهو المخطط الذي جعله فيما بعد يمتلك ديناميكية قدرة على الاستثمار في المساحات الفارغة فيستغلها للقيام بما يعتبره استثناء وخطوات ثمينة لا يضيعها دون أن تكون مصادمة لمنهجية البيروقراطية العتيقة، زيادة على إمتلاكه طاقة تمكنه من الاستثمار في القدرات البشرية التي يمكنها من صناعة القرار والعمل وفق طاقتها الجديدة وبالذات الشباب ومن أصحاب الطموح والجسارة دون أن يضمن نهاية النجاح بقدر ما يوفر طاقة الانطلاقة.

إن فرصة الشروع في قراءة علمية (متخلصة من العاطفية والانطباعية) للنخب لا تزال قائمة في الوقت الراهن، يكون المأمول منها إنتاج صورة ناضجة للأجيال القادمة، تساعدها على تحديد تعريف تاريخي لنفسها، وتساهم بناء قدرتها على الانخراط في المستقبل دون منغصات مؤلمة.