متاحف السودان 'ذاكرة حية وتراث خالد'

كتاب د.حاتم الصديق محمد ود.عوض شبا يلقي الضوء على جانب من متاحف هذا البلد الضارب بجذوره في الحضارة الإنسانية.

بعد متاحف سوريا والعراق واليمن وليبيا، متاحف السودان عالقة في مرمى نيران المعارك بين الطرفين المتنازعين، ولا أحد يعرف حجم الأضرار التي لحقت بها وبمحتوياتها من الإرث السوداني والإنساني معا، فهي طي نسيان من الجميع في ظل الأوضاع المأساوية التي يعيشها المجتمع على اختلاف فئاته.

وهنا نلقي الضوء على جانب من متاحف هذا البلد الضارب بجذوره في الحضارة الإنسانية، من خلال كتاب "المتاحف في السودان.. ذاكرة حية وتراث خالد" الذي أشرف على إخراجه د.حاتم الصديق محمد ود.عوض شبا، وضم دراستين الأولى لأماني يوسف بشير مدير إدارة الآثار والمتاحف ـ مكتب شمال كردفان "متحف شيكان المجتمعي - نهج جديد للحفاظ على التراث الثقافي"، والثانية لنجلاء البشير عبد الرحمن مسؤول متحف ودمدني ـ ولاية الجزيرة "متحف الآثار والتراث ولاية الجزيرة".

تشير أماني بشير إلى أنه بالبحث في تاريخ نشأة المتاحف في السودان نجد أنها بدأت وظيفتها متاحف تاريخ قبل بداية البحوث الأثرية، وتُحفظ وتُعرض فيها التحف والهدايا الثمينة حيث ذكر أحد القساوسة الذين عاشوا في السودان في الحقبة المهدية أن بيت المال في أمدرمان حوي قاعة مكتوب على مدخلها "بيت الأنتيكات" وبداخل القاعة قطعاً أثرية وتراثية وبعض مقتنيات حروب المهدية، كان ذلك في نحو عام 1898 ولم يعثر على أثر لتلك القاعة ولا محتوياتها بعد ذلك. ومع بداية الحقبة الاستعمارية في السودان أنشأ السير ونجت مدير المخابرات الذي جاء مع كتشنر وخلفه في حكم السودان قاعة في كلية غردون "جامعة الخرطوم حاليا" عام 1902 جُمعت فيها بعض القطع المتحفية والذي صار نواة لمتحف السودان القومي لاحقا.ثم جاءت فكرة المتاحف التاريخية بتحويل بيت الخليفة عبدالله الذي شيد في العام 1887 ليكون سكن لخليفة الإمام محمد أحمد المهدي، ثم تحول إلى متحف في العام 1928بإيحاء من مس برمبل زوجة حاكم مديريةأمدرمان في ذلك الوقتحيث يوثق المتحف لفترةتاريخ المهدية من 1889 – 1899.

وتقول "وبعد ذلك جاءت فكرة المتاحف الولائية والتي كان من أولها متحف شيكان الذي افتتح عام 1965 ويعتبر أول متحف تاريخي ينشأ خارج العاصمة القوميةومتحف موقع يوثق لتاريخ معركة شيكان الخالدة".

وتتبع أماني أدق التفاصيل الخاصة بمتحف شيكان، وتوضح "اسم شيكان مشتق من الوادي الشائك الذي يكثر فيه نبات الشوكة "الضريسةبالدارجي" الذي دارت على أرضه معركة شيكان، موقع هذا الوادي في غابة شيكان في إدارية كازقيل جنوب مدينة الأبيض والتي تبعد عنها مسافة 52كلم. وقدسميعليها المتحفافتخاراًوتخليداً لاسم معركة شيكان العظيمة التي دارت بين القوات السودانية بقيادة الإمام محمد أحمد المهدي وجيش الاستعمار التركي بقيادة القائدالإنكليزي وليم هكس باشا، حيث كان النصر المؤزر لإرادة ووحدة الأمة السودانية في معركة فريدة ذات تكتيك حربي عال ومتقن، وتقدر فترتهاالزمنية بحوالي 25دقيقة، حسب ما ذكرته كتب المؤرخين، وكان ذلك فجر 5 نوفمبر 1883.

ومنذ تأسيسه ظل المتحف الوحيد في كردفان الكبري حتي الآن، يساهم في العملية التعليمية ورفع وعي المجتمع بأهمية التراث الوطني.

وتوضح "عند تأسيسه في العام 1965م كانت خصصه متحف تاريخي يحتوي على صالتين تُعرض فيها آثار معركة شيكان ومخزن ومكتب لإدارة وغرفة لسكن المدير وأخري لسكن الحارس.في العام 1975م تغيرت وظيفة المتحف من متحف تاريخ فقط بإضافة عرض لأثار الحقب التاريخية في السوداننسبةلسياسة مصلحة الآثارسابقاً الهيئة العامة للآثار والمتاحف حالياً "في نقل المتحف القومي لأقاليم السودان التي بها متاحف وذلك بإنشاء صالة آثار بكل متحف إقليمي بهدف تعريف إنسان الأقاليم بالحضارات السودانية القديمة وكيف نشأ السودان، فتم دمج آثار معركة شيكان في الصالة الثانيةوأصبحت الصالة رقم "1" هي صالة حضارات السودان القديمةحسب التسلسل التاريخي لحقب السودان التاريخية، مع إضافة معرض للفلكلور في صالة آثار معركة شيكان يمثل تراثقبائل السودان المختلفة، وبإضافة تراث السودان أصبحت وظيفة المتحف آثار/ تاريخ/ تراث.

وعدد المعروضات بالمتحف تبلغ "587" قطعة أثرية وتاريخية وتراثية معروضة بالصالتين مع وجود عدد قليل منها بالمخزن والتي تحتاج إلى ترميم، تم إحضارها جميعها من المتحف القومي عند الافتتاح.

وشملت المقتنيات الأثرية الأدوات الحجرية المتنوعة لفترة ما قبل التاريخ، وأنواع وأشكال متعددة من الفخار يمثل كل الفترات، "فكل فترة تاريخية لها سمة خاصة من الفخار تميزها عن الأخرى"، إضافة الى أدوات الزينة المتنوعة والأسلحة والشوابتي "التماثيل الجنائزية"، الأختام، والتمائم والأجراس، وصور للمواقع الأثرية في شمال السودان، وصور للملوك الكوشيين.

وتتوقف نجلاء البشير عبدالرحمن مسؤول متحف ودمدن يولاية الجزيرة كاشفة عن تفاصيل متحف الآثار والتراث ولاية الجزيرة، تقول "هو الجهة المعنية بالتراث الثقافي المادي وغير مادي بالولاية يتبع لوزارة الثقافة والإعلام بالولاية تم إنشاء المتحف في عام 2001 كمعرض للتراث كمرحلة اولى ليتم تأهيله في المرحلة الثانية ليصبح متحف شامل للاثار والفلكلور في عام 2014 م ليفتتح للجمهور بالتعاون مع الهيئة القومية للاثار والمتاحف.

وتتابع أن المتحف يضم ثلاث اقسام تضم الآثار السودانية والحضارات القدمية ابتداء من العصور الحجرية "القديم والوسيط والحديث"، وهيالفترة التي مازالت الأبحاث الاثرية تعمل فيها وكل يوم تعطينا مادة جديدة، وأول عالم اثار كان مهتما بالتنقيب عن فترة العصور الحجرية هو العالم الأنجليزي اركل الذي كان مفتشاًفي مصلحة الاثار في الفترة من " 1948-1938" وتكلل سعيه باكتشاف حضارتي الخرطوم والشاهيناب وهي حضارات تعود لفترة العصور الحجرية . ومرورا بالمجموعات النوبية، وفترة مملكة كرمه "كوش الأولى 25001500 ق..م، وعصر مملكة نبتا "مملكة كوش الثانية" القرن التاسع – القرن الرابع قبل الميلاد، وعصر مروى، فترة الممالك المسيحية في القرن السادس الميلادي في شمال السودان بين الشلال الأول والثالث قامت مملكة نوباتيا وعاصمتها فرس، ومن الشلال الثالث منطقة بالقرب من كبوشية بولاية نهر النيل حيث قامت عاصمة مملكة مروي كانت مملكة المقرة وعاصمتها دنقلا العجوز هي مملكة علوة وعاصمتها سوبا بولاية الخرطوم.

وتضيف مسؤول متحف ود مدني موضحة آثار عصر مروى أن علماء الاثار كشفوا أن تاريخ مدينة مروي القدمية "البجراوية" يعود الى عصر نبتة، وقد عثر على مدافن لزعماء وأعيان المدينة بالجبانة الجنوبية يرجع تاريخها إلى عهدبعانخي "716-747 ق.م" وقد اشار اليها اي المدينة المؤرخة هيرودوت في كتاباته علىأنها عاصمة الأحباش التي تدين بديانة امون اوزيريس ، وكان معبد امون بالمدينةالملكية قد اقيم بين القرن الثاني والأول قبل الميلاد مما يشير اليها بوصفها عاصمة لنبتة أو بمعابد من نفس العصر . وقد اطلق المرويون عليها اسم بروة وكان اول ظهور للاسم في النقوش والكتابات التي خلفها ومسلة M6 الملك أريك أمانوتون بالكوة في النصف الثاني للقرن الخامس قبل الميلاد . وجاءت اول الكتابات بالمدينة من معبد ابادماك "النزور للملك تانيد اماني بين اواخر القرن الثاني والأول قبل الميلاد. ومنذ حوالي سنة 250ق.م صارت المدينة الملكية حضارة للمملكة وهو نفس تاريخ المدافن الملكية المروية بجبانة إهرامات الجنوبية.

وتوضح "أسفرت أعمال التنقيب والبحث الأثري بالموقع عن حاضرة بلغت مساحتها 700×500مترا بالقرب من الضفة الشرقية لنهر النيل وكان مركزها المدينة الملكية بمساحة بلغت 400×200مترا. ويرجع تاريخ الطبقات الاثرية الأولى والتي احتوت في طياتها على معبد صغير يعود إلى الفترة المروية المبكرة مابين 300-700 ق.م وقد امتاز العصر المروي الوسيط "100-300 ق.م" بنشاط ملحوظ في حركة البناء والتعمير واستقبلت واجهات المعابد القبلة الشرقية ومن الراج انه اتجهت نحو أحد فروع النيل القديمة التي جفت والتي كان موقعها بالقرب من الخط الحديدي الحالي والى الشرق قليلا نجد الجبانات المروية والجبانات التي تنتمي الى عصر مابعد مروي .كما امتازت الفترة المروية المتأخرة "350-100" بإقامة القصور بالمدينة الملكية وبإضافات إلى المعابد والتيكان اخرها مسلة الملك يسبوخي أمانيبمعبد اباماك". وقد بلغت المدينة أوج عظمتها في عهد الملك نتكا أماني وشريكته في حكم الملكة امانيتوري في منتصف القرن الأول وكشف أسلوب البناء عن زوق رفيع في فن العمارة وعن مجتمع اتسم بالرقي والتحضر.

وقد صارت مروي مركزا هاما للتعدين وصناع الخزف الجميل والزجاج كما سيطرت المدينة عن طرق القوافل التجارية والنشاط التجاري في القارة الأفريقية وعلى طول ساحل البحر الأحمر وتوطدت العلاقات الثقافية والتجارية بين مملكة مروي وجيرانها في الامبراطورية الاغريقية الرومانية ودولحوض البحر الأبيض المتوسط وقد كانت نهاية المملكة على يد مملكة اكسوم وقبائل النوبة بساحل البحر الأحمر بعد معارك ضاربة بين الطرفين وعثر على كتابات الملوك الاكسوميين والتي سجلت وقائع أحداث المعركة بمروى وقد ارخت للفترة مابين القرنالثالث والرابع الميلاد ودفن اخر ملوك مروى في حوالي سنة. 360م وتشير بعضالكتابات التي عثر عليها اكسوم أن ملوكها كانوا قد تركوا بمروي تابعين لهم يأتمرون بأمرهم".

وتلفت إلى أنه في منتصف القرن الرابع الميلادى قام الملك الاكسومي عيذان استييسر حملة لاخماد اخر محاولات الثورات المروية وانزل الخراب بالمدينة الملكية . واستقر بعض افراد قبائل البحر الأحمر تالتي صاحبت الحملة بالمدينة الملكية وكانت مساكنهم عبارة عن اكواخ من القش " قطاطي"في غير ما نظام أو ترتيب وعثر على مدافنهم بين القصور والخرائط. وقد أرخت جبانات عثر مابعد مروى بالفترة التي اتت بعد ذلك وكشفت مصنوعاتهم عن قلة في المهارات لمتمكنهم من حذق واتقان المصنوعات التي عرفتها مروي. وتزعم النصوص والكتابات المكتشفة بالكبشة ان مملكة لها نفس سمات الحضارة المروية وقد عاشت في ذلك العصر حول قسطل 370 إلى 430م وفي بلانة حوالي 500م وأن آخر عصر مروي تميز بالاضمحلال الذي تفككت الدولة على أثره .