محمد عناني يكشف الخصائص المتغيِّرة لـ'الأدب وفنونه'

الناقد والمترجم د.محمد عناني: بدل محاولة وضع تعريف جامع مانع، سنقتصر على رصد الخصائص التي تُعِين المبتدئ على إدراك الفروق بين الأنواع الأدبية وإدراك ما تشترك فيه جميعًا.

يهدف هذا الكتيب "الأدب وفنونه" للناقد والمترجم د.محمد عناني إلى تقديم فكرة موجزة ومبدئية عن الموضوع الذي يتناوله. وهنا نقول "فكرة" لا تعريفًا لأن أي تعريف لعلم من العلوم أو لفنٍّ من الفنون محدود الفائدة، بل لا فائدة منه للمبتدئ؛ فقارئ القصة يعرف أنها أدب، وقارئ القصيدة يعرف أنها أدب، ولن يفيده التعريف الذي يضم النوعَين إلا إذا كان التعريف يشتمل على دراسة تفسِّر له ما غمض عليه، وتساعده على التفريق فيما بعد بين الأدب الحقيقي وبين ما يتخذ صورة الأدب من غير أن يكون أدبًا، كالنظْم الذي لا يرقى إلى مستوى الشعر، أو كالسرد الذي لا يرقى إلى مستوى القصة.

ويضيف عناني "لذلك فبدلًا من محاولة وضع تعريف جامع مانع، سنقتصر على رصد الخصائص التي تُعِين المبتدئ على إدراك الفروق بين الأنواع الأدبية وإدراك ما تشترك فيه جميعًا، وأملنا أن يستطيع غير المتخصِّص أن يلم بطبيعة هذا النشاط الإنساني الذي يتعرَّض لضغوط كبرى في عصر العلم والتكنولوجيا، ويواجه هجومًا كاسحًا ـ في الحقيقة ـ من كل حدب وصوب في عالَم يتجه إلى المادية بكل قواه".

ويقول "الخصائص التي نستند إليها في حدود التمييز بين الأنواع الأدبية خصائص متغيِّرة. وهي تختلف باختلاف المكان والزمان، وقد اتسم هذا التغيير بسرعة لاهثة في وطننا العربي؛ بحيث أصبح تغيُّرًا من جيل إلى جيل، بل من عَقْد إلى عَقْد. ومثلما تطوَّر العلم تطوُّرًا هائلًا في المائة عام الأخيرة اختلفت أشكال الفن وتعدَّدَت مذاهبه بصورة لم يسبق لها مثيل مما دفع الكثيرين إلى محاولة إعادة تعريفه، أيْ إلى محاولة توسيع نطاقه حتى يشمل الأشكال الفنية الجديدة؛ فالتعريف القديم للتصوير الزيتي الذي يقتصر على محاكاة الطبيعة بتمثيل ما فيها أصبح قاصرًا في عصر يتميَّز بازدهار المدارس الجديدة من تجريدية وتكعيبية وسيريالية وما إليها، كما إن كل عصر يُعيد النظر في التراث الفني الذي خلَّفه الأسلاف فيرفض بعضه ويقبل البعض الآخَر، وكم من أديب هلَّل له الناس في زمانه ثم طواه النسيان بعد أن اختلفت صور الأدب عما كان يكتب! وكم من أديب عانى من التجاهل في زمانه ثم هلَّل له الناس في عصر لاحق!".

ويلفت إلى أن الأدب العربي منذ فجر القرن العشرين شهد عدة محاولات لإعادة التعريف. وسارت هذه المحاولات جنبًا إلى جنب مع ظهور الأنواع الأدبية الجديدة التي دخلت الأدب العربي، مثل القصة القصيرة والرواية والمسرحية وألوان الشعر الحديث على اختلافها. ولا شك أن اتساع آفاق الأدب العربي بعد انتشار الطباعة والصحافة واتصاله بالآداب العالمية ساهم إلى حدٍّ كبير في هذا النشاط. واستهلَّ هذا الجهدَ الدَّءُوب كثيرٌ من الروَّاد، نذكر منهم الدكتور طه حسين الذي كان من أوائل مَن أقاموا علاقة وثيقة بين الأدب والفنون الجميلة؛ وتلاهم جيل الأساتذة الذين أخرجوا كتبًا ندين لها بالفضل في توضيح صورة الأدب للقارئ الحديث، مثل د.لويس عوض ود.رشاد رشدي ود.محمد مندور ود.عبد الحميد يونس. وقد أدَّت جهودهم إلى ترسيخ المفهومات الجديدة للأدب ولم يعُد من العسير على أبناء جيلنا، سواء الذين تخصَّصوا في الآداب العربية أو في الآداب الأجنبية أن ينطلقوا في دراساتهم الأدبية من هذه المفهومات الجديدة (والتي لم يعُد عليها خلافٌ اليوم) مهما بلغ الخلاف في وجهات نظرهم.

ويؤكد عناني إن هذا الكُتيِّب مقدِّمة مُبسَّطة تعتمد على ما أبدعه جيل الأساتذة وتقرُّ لهم بالفضل. وإنْ كنتُ قد تحاشيتُ التعريفات العامة، فإنني أقدِّم في غضون النص تعريفات شاملة أقرب إلى الشروح منها إلى التعريف لكل مصطلح نقدي قد لا يلم به غير المتخصِّص. وإذا كنت أنزع أحيانًا إلى التبسيط الشديد أو إلى ذِكر ما هو معروف لدى الكثيرين، فعُذري أنني أبغي الوضوح كلَّ الوضوح ولا أريد أن أُتَّهم بمخاطبة المتخصِّصين الذين يعرفون ما في الكتاب. وقد حاولت قَدْر الطاقة تجنُّب أسماء المؤلفين من شعراء وقصَّاصين وروائيين ممَّن لا يعرفهم ذو الثقافة العامة، كما تحاشيت الدخول في تفاصيل نشأة كل فن أدبي وتطوُّره، واكتفيت بأحدث تطوُّر فيه بالمقارنة إلى ما كان عليه في الجيل السابق أو الجيل الذي سبق ذلك على أكثر تقدير؛ فالمكتبة العربية تزخر ولله الحمد بالكتب المتخصِّصة في كل فن أدبي، ولن يُعيِي طالبَ الاستزادة أن يجد بغيته في مكتباتنا العامرة.

ويضيف "إذا كانت القصة القصيرة فنًّا صعبًا فالرواية أصعب الفنون الأدبية على الإطلاق وذلك للأسباب نفسها التي تجعلها تبدو سهلة وهي غياب الضوابط الشكلية أو التقاليد الثابتة التي تسهل على الكاتب مهمته، فلا هي تكتب نظمًا مثل الشعر ولا هي مقسمة إلى فصول ومشاهد تخضع لأعراف سائدة مثل المسرح. فالكاتب يسرد الأحداث دون أن يقيده الزمان ولا المكان ودون أن تحده حدود الطول ولا القصر! كما أنه ليس مقيد اليدين إزاء الوصف والاستطراد وعدد الشخصيات، فهو يستطيع أن يقدم أي عدد من الشخصيات وأن يتعدى وحدة الانطباع فيخلق العديد من الانطباعات وهلم جرًّا. أي إن الرواية الحديثة هي الفن الأدبي المنثور الذي حل محل القصة الشعرية الطويلة (وبخاصة الملحمة) عندما نشأت المدن وتحوَّل الأدب من الشكل المسموع إلى الشكل المقروء ونحن نقول إن الرواية بالمعنى الحديث صعبة لأنها تبدو سهلة!

ولكن ما ملامح الفن الروائي بصفة عامة؟ يقول عناني إنها "قصة طويلة تتوافر فيها الخصائص الخمس الأولى التي ذكرناها بالنسبة للقصة القصيرة وهي أنها فن أدبي منثور، وهي خيالية "أي تختلف عن كتاب التاريخ مهما كان فيها من حقائق تاريخية" ويستخدم الكاتب فيها السرد (بدلًا من التعبير عن مشاعر آنية كما يحدث في الشعر وبدلًا من الحوار كما هو الحال في المسرح)، وتخضع الأحداث فيها "سواء الأفعال الإرادية البشرية أو الحوادث القدرية" لنوع من المنطق أو التسلسل سواء كان تسلسلًا زمنيًّا أو خاضعًا لقانون العلة والمعلول وسواء كان السرد يتبع خطًّا متقدمًا في الزمن أو متعرجًا يتردد بين الماضي والحاضر، وهي تحاول إبراز المعنى الكامن في هذه الأحداث البشرية ودلاتها. ثم نزيد على ذلك سمة أساسية في الرواية هي الشخصية، أو مجموعة الشخصيات التي تُبنى عليها الرواية والتي بدونها لا يمكن أن يكون للأحداث معنى ولا يمكن أن يكون دون ما أسميناه بالحبكة أو العقدة. (وسوف نفصل الحديث فيما بعد في هذا الموضوع الأخير لأنه أهم ما اختلفت فيه الرواية الحديثة عن الرواية في القرن التاسع عشر".

ويلفت إلى أن موضوعات الرواية، والتي تغري بعض النقاد باعتبارها أساسًا لتقسيمها إلى أنواع مختلفة، فتكاد لا تحصى؛ إذ أثبتت الرواية قدرتها على التكيُّف والتطوُّع والتطوُّر بحيث أصبحت قادرة على معالجة أي موضوع وأثبتت قدرتها على البقاء في عالَم يواجهها فيه منافس قوي هو السينما (وأخيرًا التليفزيون) فالفيلم السينمائي أقرب الفنون المرئية إلى الرواية، وقد اجتذبت السينما بالفعل عددًا من كتَّاب الرواية، كما إن حلقات التليفزيون أو ما يُسمى بالمسلسلات وما يُسمى في الغرب "أوبرا الصابون" (وتفسير التسمية أن أوائل المنتجين كانوا من أصحاب شركات الصابون الذين استغلوا رواج المسلسلات للإعلان عن بضائعهم)، هذه المسلسلات تمثل صورة حديثة للفن الروائي وإن انحط مستوى معظمها إلى حدٍّ بعيد، فنحن نواجه كل يوم كتَّابًا جددًا للرواية وما زالت الرواية فنًّا تتجدد حياته بتجدد أساليبه وموضوعاته، رغم ما نسمع من حين لآخَر عن اقتراب موعد احتضار هذا الفن الأدبي!.

ويرى عناني أن دخول الطباعة إلى مصر مع الحملة الفرنسية قد أثر في هذا التطور تأثيرًا غير مباشر أو قل تأثيرًا تدريجيًّا فمع مطلع القرن العشرين بدأت الفنون الأدبية المنثورة تدخل الأدب العربي عن طريق الصحافة، فنشأت صور من المقالة الأدبية التي كانت تتراوح طولًا بين الخاطرة (وهو المقال الذي يعتمد على صورة أو فكرة مثل القصيدة الغنائية ويُكتب نثرًا) وبين المقال القصصي أو المقال التأملي الذي كان يحاكي كتاب المقالات الأدبية من رومانسيي القرن التاسع عشر في أوروبا (وهو أيضًا يقترب من الشعر في أفكاره وصوره أو من القصة في جانبه السردي، ولكنه مكتوب بالنثر). وإلى جانب هذا أو من خلال هذا نشأت الرواية الطويلة التي لم تعد تفترض وجود محفل للإلقاء وبدأت بالتدريج تتخلص من رنة الخطابة. ولكن ذلك لا يعني أن الكاتب أو القارئ لم يعد يستجيب لسحر الكلمة العربية فلها طرب وصفه أحد الأقدمين بأنه السحر الحلال "الذي يُسكر دون خمر" بل يعني أنها لم تعد مقصورة على التحادث فالكاتب العربي يستخدمها اليوم في السرد وفي الوصف وفي التحليل وفي الغوص في أعماق النفس وهو ما يستدعي القراءة المتأنية والتأمل وينفي الطرب المباشر لرنين كلمة أو لفظة ما مهما تكن «حلاوة» وقعها، إذ لم تعد للكلمة في ذاتها "حلاوة" بل أصبحت حلاوتها نابعة من علاقتها بسائر الكلمات وأهم من هذا بالمعنى الذي توحي به ويبدو أن هذا التأثير "الإيقاعي" أو "النغمي" قد انتقل إلى الشعر وإن لم يقتصر عليه، وأصبح قارئ الرواية لا يتوقعه إلا إذا كان الكاتب قد استهدفه ورمى إليه. فهناك من الروايات ما يقترب من منهج الشعر في إحكام بناء العبارة وإبداع جرسها حتى لكأنك تسمع أنغام كتَّاب الرسائل القدماء وأرباب النثر الفني الأوائل. ولكن تيار التطور جعل من هؤلاء قلة قليلة فأغلب الروائيين يستخدمون النثر مثلما يستخدمون لغة الكتابة العادية ـ بل لغة الصحافة نفسها ـ دون محاولة الصعود في مراقي الشعر.

ويوضح إن اللغة العربية المستخدمة تغيرت في الرواية وتطورت وكنا نظن أن الكاتب الكبير نجيب محفوظ وصل بها إلى آخر المطاف ولكن الجيل الذي تلاه ما فتئ يُدخل تجديدات وتعديلات في أسلوب الكتابة يصعب الحكم عليها الآن، وإن كانت تمثل تيارًا عامًّا يبتعد بلغة الرواية عن لغة الشعر ولغة الرسائل جميعًا. ولا بد أن نترك للمستقبل أية أحكام على مدى جدوى هذا التطور.