'اللغة والسلطة' على طاولة بحث نورمان فيركلف

الكتاب يتناول الروابط بين استعمال اللغة وعلاقات السلطة غير المتكافئة، خصوصًا في بريطانيا الحديثة.

موضوع هذا الكتاب للأكاديمي البريطاني المتخصِّص في اللسانيات واللُّغويات نورمان فيركلف "اللغة والسلطة"، أو بمزيد من الدقة الروابط بين استعمال اللغة وعلاقات السلطة غير المتكافئة، خصوصًا في بريطانيا الحديثة. وقد كُتب ـ وفقا للمؤلف ـ لغرضَين رئيسيَّين: الأول نظري، وهو المساعدة على تصحيح ظاهرة واسعة الانتشار، ألَا وهي التقليل من أهمية الدور الذي تضطلع به اللغة في إنشاء علاقات السلطة الاجتماعية والحفاظ عليها وتغييرها. والثاني عملي، وهو المساعدة على زيادة الوعي بالأسلوب الذي تُسهم به اللغة في تمكين بعض الناس من السيطرة على البعض الآخر؛ لأن الوعي يمثِّل الخطوة الأولى على طريق التحرر.

ووفقا لذلك فإن الكتاب الذي ترجمة د.محمد عناني وصدر عن مؤسسة هنداوي، يدور حول العمل الذي تؤديه للحفاظ على علاقات السلطة وتغييرها في المجتمع المعاصر، وحول أساليب تحليل اللغة بحيث تكشف عن هذا العمل بشقيه، وحول وعي الناس به زيادتهم قدرتهم وتغييره.  

يرى فيركلف إن مسألة اللغة والسلطة مسألةٌ جوهرية في التحليل الأكاديمي للنظام العالمي الجديد وضروب الصراع حوله. لماذا؟ لأننا نشهد ظاهرةً مهمة ومستمرة هي "التحول إلى اللغة" في الحياة الاجتماعية المعاصرة، أي إن اللغة أصبحت عنصرًا تزداد أهميتُه باطراد في الحياة الاجتماعية. والعولمة نفسها تشير إلى جانب من أسباب هذه الظاهرة. فالعولمة تقتضي "العمل عن بُعد"، ومعنى هذا أن العمليات الاجتماعية والعلاقات الاجتماعية قد اتسعت رقعتُها فأصبحت في مساحات شاسعة من حيث الحيز الجغرافي والاختلافات الاجتماعية والثقافية. ومن ثَم فإن الصور الممثلة لهذه العمليات وهذه العلاقات في الخطاب تزداد أهميتُها باطراد للحفاظ على نوع ما من النظام داخل التعقيد الظاهر، فإن جانبًا مما يربط الأشخاص بعضهم إلى بعض ـ كترابط العاملين في شركة متعددة الجنسيات على سبيل المثال ـ يعتمد على اشتراكهم في تصور ما يؤدونه من أعمال. ولكن اللغة، في الوقت نفسه، تزداد أهميتها لما يؤدونه من أعمال؛ إذ إن ما تقوم به الشركات المتعددة الجنسيات، وما تُنتجه وتبيعه من بضائع وخدمات، يزداد ارتباطُه بالطرائق الخاصة لاستخدام اللغة. وانظر مثلا إلى سلسلة فنادق متعددة الجنسيات مثل فنادق هيلتون، تجد أن جانبًا كبيرًا من بضائعها يتكوَّن من أسلوب استعمال اللغة في المعاملات بين موظفي الشركة وعملائها، في الوثائق المطبوعة واللافتات، وفي الدعاية لهذه الفنادق وهلمَّ جرًّا. إن "التحول إلى اللغة" يعني أن الكفاح في سبيل فرض النظام الجديد أو مقاومته يعتبر إلى حدٍّ كبير كفاحًا في سبيل لغة جديدة أو ضدَّها. وهكذا يُصبح البحث النقدي في اللغة عنصرًا مهمًّا من عناصر السياسة الخاصة بالنظام العالمي الجديد. وهذه فرصة متاحة، مثلما هي تحدٍّ للدراسة النقدية للغة، فلها أن تُسهمَ إسهامًا له وزنه في القضايا ذات الأهمية الحيوية لمستقبل البشرية.

ويضيف "إذا كنَّا نشهد عولمة الخطاب، فنحن نشهد أيضًا خطاب العولمة. والواقع أن لدينا مشكلة شعر عددٌ من كبار المعلقين على العولمة بضرورة التصدي لها، ألا وهي السؤال التالي: هل "العولمة" و"المرونة" وما لفَّ لفهما عمليات حقيقية أم مجرد جوانب للخطاب؟ إنها قطعًا من جوانب الخطاب؛ إذ تُستخدم هذه المصطلحات على نطاق واسع عندما يتحدث الناس عن حالة العالم الراهنة وكيف تتغير. وإذن فإن أحد الاحتمالات يقول: إن هذه كلمات جوفاء، أي مجرد خطاب، مجرد أيديولوجيا. ولكن لدينا أدلة كثيرة على أن العولمة الاقتصادية مثلًا (بمعنى النشاط الاقتصادي الجاري على نطاق عالمي ما فَتِئ يتزايد) كيانٌ حقيقي. هل نقول إذن إن "العولمة" و"المرونة" وما إلى ذلك أنشطة حقيقية وجانب من جوانب الخطاب؟ ولكن السؤال التالي يطرح نفسه: ما العلاقة بين عملية العولمة وخطاب العولمة؟".

ويتابع فيركلف "ينقلنا هذا السؤال إلى قضية مهمة عن علاقة اللغة بالسلطة في العالم المعاصر. وقد اقترح عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو إجابةً له مفادها: إن العولمة عملية حقيقية ولكنها ناقصة، فهي تُفيد بعض الناس وتضرُّ البعض الآخر. ويسعى الذين يستفيدون منها إلى توسيع نطاقها، ومن بين الموارد التي يستخدمونها خطاب العولمة الذي يصوِّرها في صورة تُوحي بأنها "أكمل" مما هي عليه في الواقع، بل يُوحي أيضًا بأنها من حقائق الحياة البسيطة التي من المحال علينا (إن كنَّا نتمتع بالعقل السليم) أن نتشكك أو نطعن فيها. وهكذا فإن خطاب العولمة يتوسل في عمله بالأيديولوجيا. فهو خطاب سلطة، أي إنه خطاب يستخدمه إلى جانب موارد فعالة أخرى (مثل التبرعات التي يقدِّمها للأحزاب السياسية) أصحابُ السلطة ليزيدوا من سلطتهم. أَضِف إلى ذلك أن جانبًا مما يسعَون إلى تحقيقه يتمثل في عولمة خطاب العولمة؛ إذ إن مصطلحاتها الأساسية تُترجَم إلى لغات كثيرة، وتُستخدم على نطاق واسع (في السياقات المهنية للإدارة، والصحافة، والتعليم وهلمَّ جرًّا) في مجتمعات كثيرة. وما يترتب على هذا كلِّه أن علينا أن نُبديَ الحذر من تعبير "العولمة"، بمعنى أننا نُواجه مهمةً شاقة تتمثل في فصل الألفاظ الطنانة عن الحقيقة الواقعة، إن صح هذا التعبير.

ويلفت إلى أن القضية المطروحة هنا في الواقع قضية خطاب عولمة معين من بين شتى الضروب الفعلية أو المتصورة الأخرى. ولا يقتصر ما يُبنى في صورة حقيقة لا تقبل التغيير من حقائق الحياة على ظاهرة العولمة، بل إنه يعني عملية التعولم التي يجري تنفيذُها بأسلوب الليبرالية الجديدة على أسس السياسات الحديثة لبعض المؤسسات والمنظمات؛ مثل الاتفاقية العالمية حول التجارة والتعريفات الجمركية (اتفاقية الجات)، ومثل البنك الدولي، ومثل صندوق النقد الدولي. أي إن هذه عولمة ذات صورة خاصة.

ويؤكد فيركلف أن الحياة الاجتماعية في مطلع القرن الحادي والعشرين تتسم بمفارقة معينة؛ فإذا كانت قد أُتيحَت فيما يبدو مساحة غير مسبوقة للاختلافات الفردية والجماعية، فإننا نواجه في الوقت نفسه نوعًا من "التقنين" لبعض جوانب الحياة الاجتماعية، وهو يعتبر ـ إلى حدٍّ ما ـ تقنينًا للخطاب. وأعني بذلك تضييق نطاق أساليب استخدام اللغة ونطاق ضروب الخطاب المتاحة لتمثيل العالم، أي ظهور أشكال قوية من ضروب الخطاب المهيمنة وطرائق استخدام اللغة، وانتشار هذه جميعًا عبر شتى مجالات الحياة الاجتماعية، وكذلك (من خلال عولمة الخطاب) عبر مختلف البلدان. ويتضح هذا الاتجاه إلى "الإغلاق" في شتى مجالات الحياة الاجتماعية، أي في العمل، وفي السياسة، وفي الحياة الثقافية. ولكنه اتجاه لم يَسْلم من التشكيك فيه، ومن أساليب ذلك اعتبار المفارقة التي أشرتُ إليها عاليه محاولةً لتقويض الانفتاح في أسلوب الحياة الاجتماعية وفي الخطاب الذي شهدته الستينيات والسبعينيات والإيحاء بأن الاتجاه إلى التقنين اتجاهٌ خلافيٌّ تُحاصره الشكوك.

ويشير إلى أن فروعا كثيرة من البحث النقدي تتلاقى اليوم حول انتقاد الليبرالية الجديدة. وأرى أن ذلك المجال هو ما ينبغي للتحليل النقدي للخطاب أن يركز فيه جهودَه، أي حول الصراع المعاصر حول النظام العالمي الجديد المصطبغ بالليبرالية الجديدة؛ إذ لا توجد قضيةٌ أكبر من السؤال الذي يقول: هل يمكن تبرير التدمير الهائل للمجتمعات البشرية والموارد الطبيعية، الناجم عن الرأسمالية الجديدة، بما يمكن أن يأتي به من الثروة؟ وقد تكون لدى الآخرين أولويات أخرى، مثل تحرير البشر من التعصب العرقي البشع الذي شهدناه أخيرًا في شبه جزيرة البلقان، أو وضع حدٍّ للاستغلال المنتظم للعاملات المأجورات في المنازل وفي المصانع (وهو الذي يتبدَّى بصورة صارخة حاليًّا في بعض بلدان العالم الثالث مثل المكسيك وإندونيسيا). أما أنا فأجد أن علينا تحديد أهم القضايا الأساسية للغة والسلطة التي تشكِّل غيرها.

ويلاحظ فيركلف أن البعض ينتقد البحث الاجتماعي النقدي بسبب انحيازه، ما دام التزام المرء بالاهتمام بالمعارف التحررية يعني ـ بطبيعة الحال ـ أنه منحاز!.. ولكنني أتصور أن الأوهام الخاصة بحياد البحث الأكاديمي قد انقشعت قطعًا هذه الأيام، إذ تحوَّلت الجامعة على امتداد العقدَين الماضيَين، بصراحة متزايدة، إلى فرع من فروع الاقتصاد العالمي الجديد، وذلك في إطار تعبئة غير مسبوقة للحياة الاجتماعية من أجل تلبية مطالب الذين يسيطرون على الاقتصاد. ولا تزال النظرة إلى التعليم الجامعي والتعليم على مستويات أخرى تزيد من اختزاله في مجرد إعداد الناس للعمل. وتدور معظم البحوث الممولة في مجالات تُوصَف بأنها أولويات قومية للحكومة ورجال الأعمال. أي إن الحياة الأكاديمية قد فُرضت عليها علاقة وثيقة ومتشابكة مع دنيا الأعمال والحكومة، والحديث عن استقلال الجامعات يمثِّل في معظمه الحنين للماضي. ولا تتمثل القضية فيما إذا كانت الجامعات سوف تُفضِّل إقامة روابط معينة مع شرائح اجتماعية معينة أخرى، بل تتمثل في أنواع الروابط التي تفضِّلها. ولكن تفضيل أية روابط لا ينبغي أن يعني: "التخلي عن المعايير الأكاديمية"، فالعمل الأكاديمي ضربٌ متميز من الممارسة الاجتماعية، ونتائجه تخضع ـ كما ينبغي ـ لتقييم الأقران له داخل الجامعات، وللتقييم خارجها، وهو ما ينطبق على البحث النقدي أيضًا.

ويؤكد أن البحث الاجتماعي النقدي يمثل نضالًا ـ ومحاولة كثيرًا ما تكون شاقة ـ لتصحيح هذا التحيز الشديد. إنه نهج يمكِّن الجامعات من إعادة اكتشاف دورها المهم باعتبارها أماكنَ عامةً أو ساحات تُتيح للدارسين أن يناقشوا بعض جوانب الحياة الاجتماعية ويطعنوا فيها بعيدًا عن ضغوط القسر والمصلحة الخاصة. إن التحليل النقدي للخطاب يدين بقيمته إلى كونه موردًا من موارد الكفاح ضد الهيمنة. وأرى أن غايته والغرض من التحليل النقدي للخطاب تزويد المنغمسين في الكفاح الاجتماعي بمورد للبحث النقدي في اللغة، في الظروف الحالية التي يؤدي فيها "التحول إلى اللغة" إلى جعل البحث النقدي في اللغة جانبًا مهمًّا من جوانب ذلك الكفاح. وأنا أعتقد أن الكفاح الأول لا بد أن يكون الآن ضد الليبرالية الجديدة.