محمود سعيد فرح لنجاحه في وصف الغربة في كتاباته

الكاتب العراقي المغترب: الأدب هو وجودي كله، لا استطيع أن أفكر في عالم يخلو من الأدب والرواية بالذات، أعطتني الرواية كل شيء، هي تعادل الحياة عندي.

محمود سعيد ولد في الموصل، منع من النشر في العراق، فلم يصدر له هناك إلا مجموعة قصص قصيرة "بورسعيد وقصص أخرى" في 1957. كتب أكثر من عشرين رواية ومجموعة قصص، وله كتابان في التاريخ وقواعد اللغة العربية غير مطبوعين، ومئات المقالات.

إلى الحوار:

*في رواية "بنات يعقوب" كنت تفكر في فضح العبرانيين وأساطيرهم التي ورثوها للعالم أجمع أم كنت تحاول التأكيد على عظمة وعراقة الحضارة العراقية؟

- تعجبني قراءة التاريخ، واكتشاف وقائعه، فالتاريخ مكتوب بقلم المنتصر، أي مزيف، لكن التفكير فيه يخلصه من بعض شوائبه، والرواية تضع لبنة احتجاجية يقف عليها القارئ ليطلع على ما وراء السور، فربما تكون عيناه قويتا النظر إلى حد توصله إلى الحقيقة. عندئذ أكون راضياً عن نفسي.

* لاقت روايتك "أنا الذي رأى" احتفاء كبيرا عالميا حدثنا عنها وعن ردود الأفعال عليها؟

- "أنا الذي رأى"، لقيت احتفاءً عالميا بعد ترجمتها إلى الإنكليزية. نشرها  بالانكليزية كان سهلاً جداً، لكنه لقي استغلالاً، فقد نشرت عدة مرات من دون نيل حقوق النشر، ولكي تتخلص الشركة من دفع حقوقي، أعادت نشرها في الهند. باسم شركة أخرى، ثم نشرت بالإيطالية من دون الحصول على حقوقي أيضا.

اختارها بعد نشرها  موقعlibrary thingفي نيويورك، يديره مثقفون من جميع أنحاء العالم، يهتم بتصنيف الروايات المنشورة بالانجليزية أو المترجمة إلى الانكليزية، ويعطيها درجات. فقد منحها للمشهورين، أربعة نجوم، ولم يمنح خمسة نجوم إلا لعدد لا يتجاوز عشرة أسماء، كلهم غادروا الحياة، منهم مغربي "لدريس شرايبي، وألبير كامو"، أما الذين منحوا أربعة نجوم فلا يتجاوزون سبعين أديباً في جميع أنحاء العالم، منهم سبعة أدباء نالوا جائزة نوبل، ك"سماراكو وماركيز ويوسا ونابيونالوباموك أوهان"، وكذلك منحوا رواية "أنا الذي رأى – صدام سيتي" أربعة نجوم، وكانت هي الرواية العربية الوحيدة، أما الباقيات فثلاثة نجوم.كذلك كتب عنها أكثر من 30 مقالة في الصحف، والمواقع الإلكترونية، ودرست أكثر من عشرين مرة في مختلف الجامعات الأمريكية والأوربية.

* قصة "جند السماء" كانت مشاركة منك في الكتابة عن ميثاق حقوق الإنسان، بمناسبة ذكرى صدوره الستين، حيث تم اختيارك مع 37 كاتبا حول العالم للمشاركة.. لماذا اختاروك عن كتاب العربية؟

- هناك معايير لاختيار الكاتب، ومجرد ذكر أي كاتب يعني أنهم اعتبروا معياراً معينا، وفي الاختيار جوانب إيجابية وأخرى سلبية، فالإيجابية تعني أنه وصل درجة لا يستطيعون إغفالها، والسلبية تعني تعريضه للانتقام وإعلان الحرب عليه، والهجوم عليه حقاً وباطلاً. وفي مناسبة نشر الكتاب دعيت إلى أدنبرة، وحضرت حفل التوقيع، واخترت موضوعاً جديداً، وهو أحداث كربلاء، التي أبيد بها مئات الأشخاص من دون وجه حق، وقتلوا هم وأهلهم وأطفالهم بصورة وحشية، واتهموا اتهاماً ظالماً بأنهم كانوا يرومون قتل المراجع الدينية التي أطلقوا عليها "المراجع العظمى".اخترت موضوع الحرية في تكوين حزب، ولقيت القصة القصيرة إعجاب المشرفين. واختيرت القصة المترجمة في جامعة "دي بول" ودرسّت هناك. أما المجموعة التي اختيرت قصصها معي، فكانت تضم الروائي المشهور "باولو كولو" والروائية "نادين كورديمير"وقد "حازت على نوبل من قبل"، وآخرين.

* في روايتك "هزائم وانتصارات" قدمت نموذج البطل الذي يفعل الخير لأجل الإنسانية، المناهض للحرب، وشخصيات كثيرة تسعى لتحقيق السلام الإنساني.. هل هذا خيال كاتب أم أن حدوث ذلك في الواقع أمر محتمل؟

- آنذاك كنا نعيش أيام الحرب العراقية الإيرانية، وكنا نرغب بالسلام إلى آخر درجة، وكنا مناهضين للحرب، وضدها، والآن اكتشفنا أننا كنا على خطأ، كنا نرغب بالسلام، وكان عدونا يرغب بالحرب، وكان الوضع في العراق وجيران العراق يسير باتجاه الحرب والاستمرار بها، فما كان لدينا إلا الأحلام بالسلام، والعمل من أجله، وكان هذا شعوراً عاماً عند معظم أبناء الشعب العراقي، ويستطيع قارئ الرواية اتخاذ مؤشراً يميز فيه أكان ذلك واقعاً أم مجرد خيال كاتب. لقد هرب من الحرب العراقية الإيرانية عشرات آلاف الجنود من الجانب العراقي، ومثلهم من المواطنين العراقيين تركوا العراق إلى أي بلد في العالم يقبلهم لاجئين عراقيين.

* هل أثر اغترابك وبعدك عن وطنك على نصوصك الغزيرة سواء قصص أو روايات.. وكيف كان هذا التأثير؟

- ظهر التأثير واضحاً في اختيار موضوعات الرواية. فمعظم رواياتي في الغربة عن عراقيين تغربوا وعانوا في غربتهم من: الحنين، التوق، لخدمة البلد. اشتياقهم لرؤية ربوع الوطن. الذكرى، وقسم منهم اعتراه الندم للتغرب، وفي الحقيقة كانت الكتابة بالنسبة لي أشبه بتأثري الشخصي بالغربة، ولما كنت أرصد تأثر الآخرين فهذا يعني أنني كنت أعبّر عن هذا التأثر. لقد أصبحت معاناة الغربة شيئاً شخصياً لي، أتبارى مع نفسي في وصفي لها، وأفرح لنجاحي في وصفها، وأغتم كذلك في فشلي للتقصير في الوصف.

** في تناولك لقصص الحب في أعمالك تحرص على أن يفيض عذوبة وإنسانية، ورغم احتفاءك بجمال المرأة إلا أنك تقدمها كند للرجل، لها قوتها وإرادتها.. حدثنا عن ذلك؟

- أحب تصوير حقيقة المرأة. نعم، لا يخلو أي موقع في الحياة، في جميع الأوطان من امرأة خشنة، قاسية، مهملة، أو حتى وضيعة، لكن هذه النماذج قليلة في الحياة، ونسبة الإساءة عند المرأة أقل من الرجل بما لا يقاس، وقد تتبعت اتجاه القسوة والسوء في تراثنا، فوجدت أن من هاجم المرأة كان ناقصاً، عنيفاً، لا رحمة عنده، أما الرجال المصلحون الواعون المفكرون فكانوا يحمدون أخلاقها وتصرفاتها ورعايتها لأطفالها، وتفانيها في خدمة أطفالها، ورعايتها لهم، وتضحيتها من أجلهم.إضافة إلى كل ذلك فالمرأة جميلة رقيقة عذبة فعلاً، خفيفة كنسيم عذب، وهي إلى جانب ذلك كله تتمتع بفكر نير، وقابلية على التفكير لا تقل عن الرجل. وقد أثبتتالدراسات التشريحية، أن المرأة تتوافر على خلاياً عصبية حساسة تكاد أن تكون ضعف الخلايا الموجودة عند الرجل. هذا يعني أنها أكثر حساسية منه بما يجد في الحياة، وأنا أنظر إلى الموضوع هكذا. إن كان الإحساس شديداً عند المرأة فالتأثير شديد كذلك، وهذا يعني تفكيراً أكثر، وأعمق، وأشمل. لذا فالمرأة تستأهل احتراماً أكثر، يعني أنني وضعت في كتبي ما تستأهله من دون مبالغة.

* ماذا أضاف الأدب لك كانسان؟

- الأدب هو وجودي كله، لا استطيع أن أفكر في عالم يخلو من الأدب والرواية بالذات، أعطتني الرواية كل شيء، هي تعادل الحياة عندي، أنا أسافر كل سنتين إلى بلد عربي لأشتري في الأقل خمسين كتاباً، لأن شيكاغو تخلو من مكتبة عربية، والكتب التي نحصل عليها بوساطة الإنترنيت تكلف كثيراً مع الشحن، فالتي ثمنها في بيروت أو القاهرة عشر دولارات عندما تصلنا تحمّل في الأقل 15 دولاراً إضافياً، وهكذا، لكن الكتب مهما غلت فهي رخيصة، ووجودها أفضل من عدمها، ولولا العناية الصحيّة المجانية المتوافرة هنا لما بقيت لحظة واحدة، فأيّ مدينة في العالم تتوافر فيها الكتب ستكون موطني.

** فايروس كوفيد19 هل سينعكس على مراجعة الإنسان لذاته وكشف حساب لما فعله وسيفعله في المستقبل وكيف سيؤثر ذلك على الكتابة والكتَاب؟

- في الغرب لا يحسون بالتغيّر، لأن وقع حياتهم السريعة تجعلهم في انتقال دائم.أما نحن فجديدنا قليل وضئيل، لكنا نصفق له، ونحتفل به.ستتغير أمور كثيرة في الغرب، وستتبدل أنظمة حكم لا تحصى، أما نحن فسننتظر حتى تتحول العاصفة إلى موجة عادية، لكننا سنعاني سلباً وإيجاباً مادمنا بعيدين عن الديمقراطية الحقة، وحرية الفرد.

** كيف تقييم ردات الفعل للأوساط الثقافية العالمية على نتاجك الأدبي،وعلاقتك بتلك الأوساط الأدبية في أميركا التي تعيش فيها، وهل أنت راض عن ترجمة بعض أعمالك الأدبية من اللغة العربية إلى لغات أخرى؟

- نعم، الحدّ الأدنى، لأن شركات النشر، نادراً ما توافق على نشر الكتب غير الأمريكية والأوربية، أو المشهورة جداً لبعض الكتاب اليابانيين وكتاب الدول اللاتينية، أي التي تكتب بالاسبانية والبرتغالية، أما باقي كتب آسيا وأفريقيا فلا تنشر سوى جزء من المشهور الذي يزكيه كتاب أميركان مشهورون، وإن نشر فتنشره شركات تعود إلى جامعات أو ما يطلقون عليه "الشركات الصغيرة".أنا وأمثالي لا نحظى حتى بالشركات الصغيرة إلا بشق الأنفس، لأن آلية النشر في أميركا لها نظام خاص لا نعرف عنه شيئاً، فحالما ينهي الكاتب الأمريكي مخطوطته الأولى يرسل نسخة منها إلى وكيل أدبي، عندنا لا يوجد وكيل أدبي مثلهم، الوكيل الأدبي يأخذ على عاتقه نشر كتاب ومقالات الأديب، ويأخذ نسبة من الربح بعد النشر. الوكيل يوزع المسودة، وخلاصة المضمون، ويذكر لماذا هذه المخطوطة مهمة، ويرسل المسودة على بضعة كتاب، ومجلات وصحف في أنحاء البلاد، ليكتب كل واحد منهم بضعة أسطر عن الكتاب يضعها على الغلاف. إن وفق الكاتب إلى كتابة شيء جاذب، حاز على رضا شركات النشر، فسينشر الكتاب.

الوكيل الأدبي في أميركا يهودي على الأغلب، ومن المستحيل أن يقبل بتبني نتاج كتاب مسلمين، إلا بوصيّة من كتاب يهود مشهورين وهذا غير وارد.