منير راضي يقيم الحد على شكسبير في 'الثلاثية الشكسبيرية'

الكاتب يلتفت بعد خمسة قرون الى لحظة عدل من زاوية نظر أخرى ومرآة تعيد انعكاس صور ضحايا وشخصيات الشاعر والمسرحي الانكليزي الشهير من وجهة منقلبة، تعيد إليها مصيرها من حيث إعادة حقها في اختيار مسارها وأحداثها من جهة ومن حيث مصداق تاريخها قبل وقوع اسقاطها في فخ درامية شكسبير الخادعة من جهة ثانية.

يعرف النص المسرحي عادة بأنه" نص مكتوب عن حكاية تقوم على الحوار والحركة، والصراع، وغايته بالأساس أن يتجسد من خلال التمثيل على خشبة المسرح" ولدينا في العراق المعاصر – كما هو معروف - أن التأليف المسرحي كانت بداياته على أيدي الآباء الكلدان السريان الاشوريين في مدينة الموصل, وأن أولى محاولات التاليف المسرحي في العراق كانت على يد الشماس حنا حبش الذي كتب ثلاث تمثيليات أطلق عليها كوميديا "أدم وحواء، طوبيا، يوسف الحسن" فكانت فاتحة لظهور المسرح وكتابه في العراق، الذي شهد أجيالاً من الكتاب الذين إستطاعوا أن يعكسوا واقعية الحياة من خلال كتاباتهم التي عبرت عن وعي الكاتب ومرجعياته التي أثر وتأثر بها ومصادره وتحولاته الفكرية والمعرفية والجمالية والإبداعية المتنوعة.

كان واحداً من هؤلاء الكتاب والمؤلفين العراقيين الأفذاذ سواء الراحلين أم الأحياء منهم، الفنان والكاتب منير راضي الذي ليس جديداً عليه أن يقتحم عوالم التأليف المسرحي، فلقد عرف كاتباً مسرحياً جاداً، لم يتوقف عن الكتابة ليس في إطار المسرح، بل امتد الى الدراما الإذاعية والتلفزيونية وحتى السينما، وبشكل لافت، ليكون حلقة جديدة ومتميزة في سلسلة كتاب المسرح العراقي والعربي على حد سواء.

لقد تميز الاسلوب الكتابي لمنير راضي نحو اعطاء دلالات رمزية وأيقونية لم تكن صعبة الفهم نأت عن تسطيح الأحداث بل تحليلها موضوعياً وبما يرقى بالبعض منها الى مصاف النصوص الإنسانية الكبيرة التي شكلت قواسم مشتركة للهموم الإجتماعية والوطنية هنا وهناك لاسيما حين اقتحم النص الشكسبيري بكل ما ينطوي عليه من فخامة ورصانة وقوة منطق ولغة وإيقاع لم يخفت برغم مرور مئات السنين عليه وكثرة التنويعات عليه في داخل وخارج العراق من مجاميع كبيرة من المؤلفين والكتاب والمخرجين المعروفين .

لاسيما نصوصه  التي جاءت عبر كتابه "الثلاثية الشكسبيرية" الذي صدر ضمن أربعة إصدارات عن الدورة الرابعة لمهرجان بغداد الدولي للمسرح، الذي أقامته دائرة السينما والمسرح في وزارة الثقافة والسياحة والآثار في العراق، تحت شعار "لأن المسرح يضيء الحياة" للمدة من من 10 ولغاية 17 أكتوبر/تشرين الأول 2023 حيث ضم هذا الكتاب ثلاثة نصوص للكاتب منير راضي، وهي : "أنا مكبث" و"شكسبير في جبل الأولمب" و"أجنة في أرحام شكسبيرية" وجميعها نوعت على نصوص الكاتب المسرحي الإنكليزي الأشهر عالمياً وليام شكسبير التي كانت نصوصه ومازالت بؤرة الاستقطاب المركزية والأولى عراقياً وعربياً إعداداً وتوليفاً ذلك لأنها- حسب المخرج الراحل الكبير سامي عبد الحميد- " تحمل جميع مسرحيات شكسبير الاجتماعية منها والتاريخية التراجيديا والكوميديا ثيمات لها علاقة بأزمات الأنسان في كل زمان ومكان فهناك الثأر والغيرة والحب والقتال والتضحية من أجل الآخرين والصراع على السلطة وغيرها."

لقد كان منير راضي جريئاً بدقة متناهية في معارضة وتناول نصوص لشكسبير باتت من المسلمات، وقد يكون سبقه الى ذلك بعض كتابنا العراقيين في ذلك كما فعل – خصوصاً - الراحل سامي عبد الحميد، والشاعر والراحل يوسف الصائغ، وخزعل الماجدي، وصلاح القصب، وشفيق المهدي، وناجي عبد الأمير، وجبار جودي، وغيرهم، إلا أن منير راضي كما يؤكد الناقد الأكاديمي جبار صبري في مقدمة "الثلاثية الشكسبيرية" التي جاءت تحت  عنوان "إقامة الحد على شكسبير...!"، التفت منير راضي بعد خمسة قرون الى لحظة عدل من زاوية نظر أخرى ومرآة تعيد انعكاس صور ضحايا وشخصيات شكسبير من وجهة منقلبة، تعيد إليها مصيرها من حيث إعادة حقها في اختيار مسارها وأحداثها من جهة، ومن حيث مصداق تاريخها قبل وقوع اسقاطها في فخ درامية شكسبير الخادعة من جهة ثانية. إذن، كان لزاماً أن ينتفض الكاتب منير إزاء الكاتب شكسبير انتفاضةً من شأنها تغيير وكسر أنماط الصورة المعذبة والتي أرسى تنميطها شكسبير وتحقيق مغايرة بل تحقيق انقلاب يقصده المؤلف منير في مواجهة المؤلف شكسبير".

يذهب صبري الى أن أن الكاتب منير راضي في هذه الثلاثية يحاكم شكسبير محاكمة مفعمة بالحجج الدامغة التي تعيد صياغة وإعادة ترتيب الأحداث، حين يؤكد "شكسبير متهم وإقامة التحقيق فيما فعله لزم تشخيص محكمة معلنة أو خفية: محكمة من شأنها أن تستدعي شكسبير لا بوصفه بطلاً خالداً في التأليف بل بوصفه مريضاً ومجرماً عذب ضحاياه في رسم مصير لهم حطّ الكثير من قدرهم وتقديرهم، من هنا بلغت نصوص منير راضي في مواجهة المتهم شكسبير موجهات مضادة. موجهات تعمل على إعادة ترتيب الأحداث لا بما وقعت أدباً درامياً شكسبيرياً بل بافتراض رفع الحيف الشكسبيري عنها..".

بما أن نص "أنا مكبث" قد قدمته الفرقة الوطنية للتمثيل العراقية بإخراج رائع من الفنان طلال هادي وتمثيل نخبة من الممثلين الرائعين أيضاً توفرت لنا فرصة التماهي مع انثيالات تلك المحاكمة الفائقة الدلالات التي اقتربت مفرداتها مع خصوصيات النص الشكسبير الأصلي، فإن الناقد الأكاديمي الدكتور جبار خماط حسن يؤكد من ضمن قراءته لهذا العرض : " في نصه "أنا ..مكبث" أو مكبث كما رآه منير راضي سعي محفوف بالمخاطر والمغامرة، لاسيما وأن الكاتب أمام نص شكسبيري يعد من الروائع الدرامية الخالدة، التي تمثل نوعاً درامياً مغرياً في جمال أدبه وسبك أحداثه وليونة شخصياته الجمالية." متسائلاً: "هل نجح منير راضي في تجربته الكتابية الجديدة، أقولها بكل موضوعية، نجح في إظهار نص مميز في بنيته التي انطلقت أحداثها ما بعد موت الشخصيات، واسترجاعها في محكمة متخيلة في العالم السفلي، بطلب من مكبث، يبين فيه أن الاحداث التي صاغها شكسبير مفبركة لا تمت بصلة لسيرة مكبث المعروفة بالنجاحات والمواقف النبيلة والأخلاقية التي لا يمكن أن تتقبل فكرة الغدر وقتل الملك الذي حل ضيفاً عليه في بيته، يقتل ضيفه بتدبير من زوجته ليغنم ويغتصب التاج الملكي! يرفض مكبث هذا المصير، ويطلب استدعاء شكسبير للمثول أمام المحكمة التي تشكلت من "الملك لير" و"الملك دنكن" على قاعدة : أنت الخصم والحكم !".

نتفق مع الدكتور جبار صبري أن "ما يشدنا أكثر الى ما وقع عليه المؤلف منير راضي أنه وقع على فرض أدلة يقبلها العقل: عقل القارئ لما حدث أو حدث بالرغم من أنف تلك الشخصيات الدرامية: مكبث، عطيل، لير، هاملت… جاهداً من وراء ذلك إعادة تشكيل الأحداث لا بما أراد شكسبير وقدم طغيانه في تحديد أطر تلك الشخصيات في نصوصه وفي أرشيف ذاكرتنا الجمعية عليه".