کوران مريواني..صدام الاسطورة والواقع وترنيمة لغول المستقبل

الشاعر والكاتب كوران مريواني يعشق الظلام والسرمدية وعالم الخيال والاساطير، وتتولد في أعماقه رغبة جامحة ومجنونة للموت أشبه ماتكون بحالة عشق.

لأكثر من مرة كتبت عن الشاعر والكاتب كوران مريواني، لكنني وكلما أقرأ قصائده القديمة بشكل خاص والجديدة، أجد حاجة ماسة للإبحار مجددا في بحاره التي لا شطآن لها والتحليق في فضاءاته اللامتناهية، وعند كل إبحار وتحليق، أكتشف شيئا ليس كأي شيء عادي، فعند مريواني يصطدم المرء بحالات غريبة فهو يكتشف أكثر من أسطورة في داخل الاسطورة نفسها كما يكتشف اللاحياة في الحياة، فعنده نجد الاموات أحياء وعكس ذلك تماما.
عشق الظلام والسرمدية وعالم الخيال والاساطير، هو الذي ولد في أعماق مريواني رغبة جامحة ومجنونة للموت أشبه ما تكون بحالة عشق تم فيها تطعيم السادية بالمازوخية، وإلا ما يعني قوله في قصيدة "بيني وبين الظاهرات":
"وأنت أيها الموت!
الذي من دون هاتف،
من دون عنوان،
سواح مثلي
لا تملك مكان أومهجع!  
بيننا أنا وأنت،
فقط رغبة لقاء أبدي!"
وإن علاقة مريواني بالموت والتشاٶم ليس أمرا طارئا أو جديدا عليه، بل إنه يعود لبداياته الشعرية في العقد السابع من الالفية الماضية، ولاسيما عندما تصدى في تلك البدايات لجدلية الوجود والعدم والحياة والموت في قصيدة "النافذة" عندما يخلط بين حالتين من موته:
"في البعاد، أغرق في قعر تابوت لانهاية له.
إياك أعني..!!
قبل أن تطمرني 
ضع لي نافذة!
کي أستنشق أنفاسك
...
أنا،
من دون أنفاسك،
أموت. 
ومن غمار تلك الرغبة الجامحة للقاء الموت، يعود مريواني ليحلق مع حبيبته التي لا يفصح عنها ويعشق مجهوليتها ليعزف على قيثارة ولهه بالحياة وماتكتنفه من مجاهيل ومروج وغرائب لحن أغنية على وقع كون من خلال التحديق بذهول بالحياة في صورة الناس الذين يبدون صغارا على الارض  والامتزاج مع شعاع الشمس واكتساب لونها الذهبي كما يقول في قصيدة "دارنا":
يوما،
نعود معا الى دارنا
الى القمر
نجلس في شرفتنا ونحدق في الكون
ونذهل من الناس الصغار على الارض!
نحتسي معا رشفة شعاع
ونحظى بلون ذهبي"
تناقضات وتضادات الحياة والموت وأبجديات الوجود والعدم يتناولها مريواني بصورة يظهر من خلالها وكانها تعصف به في وقت يسعى للمقاومة والمقارعة من أجل البقاء، وهو هنا أقرب مايكون لسمكة آرنست همنغواي وليس للشيخ الذي إصطادها، إذ ومع الروح النزقة للمغامرات الفنطازية، لكنه مع ذلك لايخفي قلقه وخوفه وجزعه من التصدي للأمور وخوض المواجهات أو إکتشاف الحقائق ومعانقة الاساطير كما في قصيدة "غيمة" التي ينطلق منها من الدائرة الذاتية الوجدانية الى الالواقع الاشمل الى الموضوع.
 وفي هذه القصيدة يبدو کعراف يتنبأ بما يخفيه المستقبل من كوراث وأهوال للبشرية جمعاء، وكأنه يريد أن يجسد ما قد ذکره فوكوياما في"نهاية التأريخ" و"نهاية الانسان" من تراجيديا مهولة تنتظر الانسان في تلك الغيمة التي تحلق كنيزك مشٶوم على رٶوس البشرية عندما يقول:
"غيمة سوداء في الطريق
ترعب القمر 
والنجوم تهرب من خوفها.
غيمة وسخة
لئيمة وعقيمة.
جافة كاليباب.
كالذئب في مظهرها
لاتعبق برائحة المطر والبلل
وعندما تأتي على البيوت لاتقرع الابواب!"
لكن لا تقف النظرة ذات البعد الفكري والفلسفي وقبل ذلك الفنطازي لمستقبل البشرية في قصيدة "خيمة" لمريواني عند هذا الحد بل إنه يجنح ليس للأعماق وإنما ما ورائها إن أمكن التعبير ولاسيما عندما يمضي في وصفه لجوانب ومميزات أخرى للغيمة أو بالاحرى مستقبل البشرية وهي نظرة مغرقة في التشاٶم بحيث يمكن القول إن شوبنهاور نفسه لم يصل الى هذا الحد من الغلو في التشاٶم عندما يقول:
"غيمة خرقاء
ضيفة غير مرحب بها
لو دخلت أي بيت
فإنها نذير شٶم!
غيمة لاتثار،
لاتتحرك.
عرشها في السماء،
لاتتكرها 
لغيمة وردية،
أو بيضاء وزرقاء،
صبية أو طفلة!"
ويسهب مريواني في وصفه الدقيق والعميق جدا للغيمة عندما يشير الى عقمها وبخلها الشديد ونزوعها لزرع الجوع والفقر والحرمان في کل مكان تصله وکأنه يصف الحياة المستقبلية الصعبة على الكرة الارضية، بقوله:
"لايعطر رائحة الارض
ولو بقطرة مطر"
لكن المميز في إسهابه بوصفه الدقيق إنه يقوم بربط المستقبل بالماضي وکأنه يقول إن الحياة الانسانية تراجيديا تدور وتدور کصخرة سيزيف من دون توقف وذلك من خلال عودة مفاجئة لماضيه، حينما يضيف:
"في طفولتي
رأيت هذه الغيمة
في بيتنا.
مع زمجرة رعدها،
کانت تقطع ثمار أشجار حديقتنا 
والامال من قلب أمي!"

الحديث عن تنبٶات بشأن مستقبل مشرئب بتشاٶم إستثنائي لكنه في علم الغيب وسحبه على ماضي إنقضى وربطه به وجعل"الغيمة" قاسما مشترکا بينهما، نظرة فلسفية ـ فنطازية تجمع اللامعقول والمنطق والعبث والحقيقة المجردة معا في بوتقة واحدة وهي الوجود الانساني، إذ أن مريواني يقوم بربط جدلي هنا بين جفاف وعقم الارض  وبين الجفاف والعقم الانساني بإشارته لثمار الشجرة والامال في قلب الام!
مريواني يعود الى المستقبل مرة أخرى ويتنبأ بأن السماء ستصبح جحيما للإنسان وإنها ستمطر عقاربا وليس غيثا يغيث الانسان والطبيعة وکأنه يصفع البشرية بما ينتظرها من أهوال ومصائب بسبب الثقب في طبقة الاوزون وکيف سينعكس ذلك على الانسان والبيئة بمختلف مكوناتها والتي إختصرها مريواني في"الفراشات والاطفال والينابيع" وهو يقول وکأنه يتلو على البشرية تعويذة مرعبة:
"غيمة 
إذا أمطرت
تمطر عقاربا
وحين تطل
فإن حليب الاثداء
يغدو مرا
وإذا غضبت الغيمة
الفراشات والاطفال والينابيع
تصاب بالطرش"
مريواني، الذي يكاد أن يشبه في تكهناته الغارقة في تشاٶم مشرئب بحقائق مستمدة من واقع الاجرام الانساني بحق البيئة، ذلك العراف الذي تنبأ بمقتل يوليوس قيصر في إجتماع مجلس الشيوخ الروماني ولاسيما عندما يقوم بختم سيل توقعاته الصادمة بمقطع يٶکد فيه حتمية قدوم تلك الغيمة أو بالاحرى المستقبل المروع وکأنه يرى ذلك بأم عينيه، عندما يقول:
" غيمة تميل للسواد
تكاد أن تكون ذئاب الحكايات
غيمة أراها 
ها إنها تأتي!