حركة غولن وما بعدها.. أسئلة بلا إجابات!

التلميذ في حضرة الأستاذ قبل الرئاسة

أصبحت كلمة "جامات" باللغة التركية (جماعة باللغة العربية) تكاد تكون مرادفة تماما للحركة المرتبطة بالداعية التركي فتح الله غولن المقيم في الولايات المتحدة، والذي يلقي كثيرون عليه باللوم في محاولة الانقلاب، ومن أبرز هؤلاء بالطبع حزب العدالة والتنمية.

وبفضل شبكة واسعة من المدارس الدولية التي تتبع الحركة حول العالم، تمكنت جماعة غولن من تجنب التفكك بشكل كامل، بعد أن عملت أنقرة على تطهير جميع أجهزة الدولة من أتباعه في أعقاب محاولة الانقلاب.

لكن للتوصل إلى فهم أفضل للتأثير الكبير لهذه الحركة في تركيا، علينا أن نعود في التاريخ إلى عام 2002 حينما لعبت حركة غولن دورا حاسما في دعم حزب العدالة والتنمية في الأيام الأولى لحكمه، وتعاونت مع قادته لسحق خصومهما العلمانيين قبل أن تصبح الشقوق في علاقتهما واضحة للعيان منذ عام 2009.

اتسعت هذه الشروخ لتؤدي في نهاية المطاف إلى شقاق وعداء بنهاية عام 2013 عندما بدأ مسؤولو الادعاء العام والشرطة، الذين يشتبه في وجود صلات لهم بحركة غولن، في إجراء تحقيقات فساد بحق مجموعة من الشخصيات البارزة المرتبطة بالحكومة، ومن بينهم أبناء لوزراء في حزب العدالة والتنمية.

وقال أردوغان لاحقا إن حركة غولن كانت تستهدف فرض سيطرتها على أذرع الدولة، كما أطلق عليها اسما جديدا وهو "الكيان الموازي". لكن قبل هذه التطورات، كان العديد من المواطنين يعتقدون أن حزب العدالة والتنمية يدير الدولة لسنوات بالتعاون مع حركة غولن.

بينما كان هذا التعاون قائما، عمل أتباع غولن في الشرطة والقضاء جاهدين لوأد أي معارضة يمكن أن تصبح مصدر إزعاج للحكومة. فعلى سبيل المثال، ألقت الشرطة في مارس 2011 القبض على الصحفي الاستقصائي أحمد شيك وظل قابعا وراء القضبان لمدة عام قبل الإفراج عنه إلى حين محاكمته، وذلك بعد أن كان بصدد طرح كتابه "جيش الإمام" الذي هدد بكشف النقاب عن ممارسات حركة غولن. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، حيث حظرت السلطات كتابه وتمت مصادرة جميع النسخ قبل نشره.

وسلط الصحفي دوغان أمين الضوء على الروح العدائية التي أظهرتها حركة غولن تجاه الغرباء والكيانات المختلفة الأخرى في ذلك الوقت في مقال له على موقع "تي 24" الإخباري التركي في أكتوبر 2014 رصد فيه كيف هاجم مقال صحيفة "زمان" المؤرخ في 18 أبريل 2009 جمعية (دعم الحياة المعاصرة) بزعم فضح دعمها "للإرهابيين" عن طريق منحهم إعانات مالية، علاوة على تضمنه ادعاءات بأن معظم الفتيات المدرجات على قائمة المستفيدين من المنح التابعة للجمعية لديهن صلات مزعومة بحزب العمال الكردستاني. ولم يكتف مقال "زمان" بهذا، بل ونشر كذلك قائمة باسماء هؤلاء الفتيات بالرغم من عدم صدور أي حكم قضائي ضدهن.

وكما هو واضح فيما ذكرت سابقا، فإن حركة غولن تمكنت من اختراق أجهزة الدولة في عملية أخذت الكثير من الوقت والجهد وجندت خلالها الكثير من السياسيين من أجل توسيع نموها الاجتماعي أفقيا ورأسيا.

واستطاعت الحركة على مدى سنوات أن تزرع أتباعها في المواقع الرئيسية في المجال العام، خاصة في قطاعي التعليم والشرطة، وهو ما مكنها بالتالي من فرض سيطرتها على عناصر الضغط التي توجه دفة السياسة التركية، بالإضافة إلى حمل شعلة توسيع نطاق نفوذ الإسلام السياسي ذو الصبغة الفاشية مستفيدة من تركيبة المزج بين الروح القومية التركية والميل إلى التدين، وهي توليفة بزغت بعد عام 1980، لا سيما في عهد الرئيس السابع كنعان أورن تحت ستار مكافحة الشيوعية واستغلها بعده الرئيس الثامن توركوت أوزال.

لم يكن سوى فتح الله غولن من ساهم في بزوغ هذه النزعة "الإسلامية - الفاشية" في الثمانينيات من القرن الماضي، من خلال إصدار مجلة (سيزينتي) أو (الينبوع باللغة التركية) قبل أن تأمر السلطات بإغلاقها عام 2016 بعد أن واجهت اتهامات لم يكن أعضاء الجماعة ليتخيلوها في أسوأ كوابيسهم.

وبعد أن أطلق أردوغان وصف "الكيان الموازي" على حركة غولن، وجد أعضاء الجماعة أنفسهم بلا حول ولا قوة في مواجهة العاصفة.

فبجانب متطوعي حركة "الخدمة" (الاسم الذي يطلقه أتباع غولن على الحركة) الذين ألقي القبض عليهم بسبب العمل لصالح أذرع الجماعة، لم يكن لدى عشرات الأشخاص الذين يعملون مع الحركة أدنى فكرة أنهم متورطون في شبكة تسلل مزعومة، والأنكى من ذلك أن قطاعا كبيرا منهم كان يعمل في منظمات الحركة دون أن يكون لديهم انتماء حقيقي لها.

وعندما أتحدث عن ممارسات "عصابة إجرامية" مزعومة، أتحدث بالتحديد عن العديد من الوقائع التي كانت موضع انتقادات قاسية من جانب الديمقراطيين الليبراليين داخل الحركة أيضا.

مع ذلك، هذا لا يبرر بأي شكل من الأشكال الحملة الأمنية العنيفة ضد أعضاء الجماعة، عقب محاولة الانقلاب في عام 2016، والتي تجلت مظاهرها في مصادرة أصول الأفراد بشكل غير قانوني لمجرد أنهم أعضاء في الحركة، وفصل عشرات الآلاف من الأشخاص من وظائفهم دون أي أساس قانوني، والتجريم العشوائي لموظفي الدولة، والحط من كرامة الناس وشرفهم عن طريق نشر مقالات مهينة وقاسية عبر وسائل الإعلام الحكومية، كما حدث في الماضي ضد الشيوعيين في تركيا، علاوة على جر النساء اللواتي أنجبن للتو بالقوة من المستشفيات مع أطفالهن حديثي الولادة، ليوضعوا في السجون، وممارسات الاغتصاب والتعذيب وسوء المعاملة، كما هو موثق في التقارير الصادرة عن المنظمات الدولية.

إذا كانت الحكومة نفسها قد وقعت ضحية لخداع هذه المجموعة، فماذا عن الآلاف الذين تتم محاكمتهم لمجرد العمل لكسب الرزق في مؤسسات الحركة؟ وماذا عن هؤلاء المتطوعين الذين قادتهم أفكارهم البريئة إلى الانخداع في طبيعة الحركة والتوهم بأنها مجرد منظمة اجتماعية دينية؟ كيف يمكن منع اختراق أجهزة الدولة من قبل كيانات سرية تغير هويتها بتغير الظروف؟

هذه هي الأسئلة التي ينتظر ضحايا حركة غولن وغيرهم في تركيا إجاباتها اليوم قبل الغد.

مايا أراكون

ملخص من مقال نشر في أحوال تركية