الأدب في الناصرية: صراع في حلبة متخيلة!

منذ عقود والمشهد الأدبي في الناصرية، المُتهمة زوراً بأنها منجم غير مُكتشف يعجُ بإبداعات وطاقات غير منقب عنها، يراوح مكانه. ان لم اقل، أنه يجتر ذاته، لا لشيء سوى كون حالة الاجترار هي ردة الفعل المنطقية تجاه حالة الخواء الذي يكتسح واجهة هذا المشهد. انه الوصف الأقرب للواقع مع اعترافي بقسوته، لكن الأمانة تقتضي ان اصف كما ارى ويشاركني غيري هذه الرؤية.

واذا ما كانت الدعوة او هذه الفسحة تتجه في اطار الكشف عن ملامح المشهد الأدبي في الناصرية بكل تفاصيله، فأني ادُرك ان الصورة، ستبقى مكررة ومطروقة، ان اكتفينا بنشر أنطولوجيا عابرة، او عرضنا ببيوغرافيا للمنجز (مع التحفظ) الذي صدر في الاعوام السابقة، واضافنا لحفل الاحتفاء، بعضاً من توابل القصائد السريعة، وان سمح فراغ الصفحات البيض، لقصة ما ان تتسلل هنا، وينتهي الأمر.

ما حفزني على الكتابة، هو الروح التي تتسم بها الدعوات لكشف ملامح المشهد، والرغبة في ان نقول غير السائد، حتى ولو ازعج البعض، لكنه سيبقى نصف القدح الآخر الذي غيبه دوماً المطالبون ان نرى الجزء الممتلئ، دون ان يكون لنا حق السؤال: وماذا عن الجزء الفارغ؟.

البحث في هذا السؤال الممنوع، سيقودك الى ان تقع محاصراً بشتى الحجج، واطنان التبريرات، وفوق هذا سيحاول البعض ان يوقعك في محظور نقد القداسات الادبية والثقافية التي تستفيد كثيراً من "المد الشعبوي" للحصول على حصانة تقيها شر النقد.

لكن هذا لا يمنع من القول ان المشهد الأدبي في الناصرية، قد لا يختلف عما يجاوره من مشاهد ادبية في محافظات عراقية اخرى، ما خلا العاصمة (المركز)، الإ افتراقات ضئيلة، لربما عددياً، وهذا نتاج كثافة سكانية، اكثر من أي شيء اخر، حتى لا يوهمنا البعض، بأن تطوراً جينياً حدث هنا. فالمشهد من البساطة الى درجة تحوله الى مجرد فاصل عابر في مشاهد الحياة الاجتماعية والسياسية التي تحتل صدارة الاهتمامات، ومن الغياب لدرجة أنك لا تتصور ان ثمة خللاً سيصيب الحياة في مثل هذه المدينة، فيما لو اختفت منها "الحياة الأدبية" برمتها.

ليست الناصرية منفردة طبعاً، لكن المشهد فيها من البؤس ما يبعث على الدهشة. فرغم وجود كل هياكل الحياة الادبية، الا ان اغلبها هياكل جوفاء، ومسميات لا اكثر، لا فاعلية فيها، لا تأثير لها في ما يجاورها، الا بحدود ضيقة، وان وجدت فهي لا تعدو كونها انشطة دعائية، تتخذها بعض الجهات جزءاً من البروبغندا التي تفتعلها لإقناع جمهور غاضب ومحتقن على الدوام.

في الناصرية، مشهد ادبي قديم، هرم، لا يقبل ان يتقاعد، ولا يسمح ان يُخترق، مهما حاول البعض، فهو من الصلادة بمكان يستطيع تحطيم اي كتلة تحاول احداث هزة في ابنيته العتيقة. في هذا المشهد تبرز الأبوية بأكثر صورها وضوحاً، واقسى حالاتها اقصاءً للمغاير. وتتجلى حالة الاستئثار بتمثيل الواقع الأدبي بوصفه وظيفةً اجتماعية، للاندماج في السائد لا الانقلاب عليه، او محاولة تحديه او تحديثه.

بمعنى أوضح ان هذا المشهد لم يسمح طوال السنوات السابقة، بأن يجدد بعضاً من اعرافه وان تنسخ تقاليده وتعاليمه ابداً. ولذا بقي محافظاً على نمطيته، بل ونجح في ان "يقولب" كل محاولات الانقلاب عليه او رفضه. ومن ثم اعادة ادماج من ينجحون بعملية اختراقه جزئياً في منظومته المُرحبة للأسف بكل عمليات التظاهر الإبداعي. والمنتجة ويالكارثة لكل الادعاءات الثقافية، او على الاقل المنظومة التي تسمح بمرور "الانتفاخات الوهمية" الى حقول الادب واختصاصاته.

لستُ هنا في معرض التشهير، ولا الشطب على مجمل المشهد، ولا التعدي على ما انجزه البعض، بفردانية وقوة تحمل ومجابهة شخصية، الا اني في معرض التعريف بما يدور في اعماق التمثيل الرسمي او شبه الرسمي للواقع الادبي في هذه المدينة. وحتى لا ينفرد البعض بإيهامنا ان ثمة مشهد مُعافى، ومنتج، وخلاق. ابداً فهو كان ولا يزال مجرد حلبة لصراع متخيل، يحاول البعض تصديره للواقع، رغم كل حالات القطيعة وعدم الاكتراث التي يواجه بها الواقع فيما لو كان صراعاً حقيقياً، فكيف يمكن ان تتصور الأمر، لو عرفت ان اصل الصراع متخيل بالأساس!