أفكار الوردي.. وردود رجال الدين!

الأخلاق لا تقومها المواعظ والخُطب، إنما الحلول العمليّة، كازدهار التَّعليم، والتَحول إلى الحضارة.

عندما نشرَ عالم الاجتماع العِراقي عليّ الورديّ كتابه «خوارق اللاشّعور» (1952)؛ ردّ عليه الفقيه مرتضى العسكريّ (تـ: 2007) في «أخبار المساء» (رمضان 1953)؛ وما إنّ أردفه بـ«وعاظ السَّلاطين» (1954)، حتَّى جمع العسكريّ الرّدود، وأضاف إليها نقده للكتاب الأخير، صدر ببغداد (منشورات الإمام الكاظم 1955)، بعنوان: «مع الدّكتور الورديّ في كتابه وعاظ السَّلاطين»، مع أنّ متن الكتاب ركزَ على «خوارق اللاشُّعور».

كان واضحاً، مِن الرّد، لم يكن العسكريّ رجلَ دين تقليديّ، وهو أحد أقطاب حزب الدّعوة الإسلاميَّ (تأسس 1959)، أراه قارئاً للفلسفة اليونانيَّة وهاضماً لها، وبهذا يُعد مِن المثقفين الدّينيين، في مجمل كتبه «عبد الله بن سبأ وأساطير أخرى»، و«خمسون ومائة صحابيّ مختلق» وغيرها.

اتفقنا معه أو اختلفنا، فلا بد مِن الاعتراف أنه صاحب باعٍ ثقافيّ وفق عقيدته. لكن يبدو أنَّ ما كتبه كان تعبيراً عن غضب المؤسسة مِن أفكار الورديّ، لأنها نالت مِن الفكر التّقليديّ المحافظ، المنسجم مع رجال الدّين.

لم تصدر فتوى تكفير ضد الوردي، ولم يتعرض لاعتداء، على الرّغم مِن كثرة الأتباع الذي ينفذون ولا يناقشون، وما سمعته مِن المعمار محمد مكية (تـ: 2015)، وما أثبته في مذكراته «خواطر السِّنين»، أنّه زار المرجع الخوئي (تـ: 1992)، في السِّتينيات، مع الورديّ، فأخذ الخوئيّ يحاوره في أفكاره، وتمنى تكرار الزّيارة. أقول هذا للتذكير بزمن آخر، ليس التَّكفير والاغتيال عنوانه، إلا ما ندر، ولا عمائم متحكمة بالضَّمائر، وميليشيا تتوسلها الدَّولة، لإطلاق المخطوفين مِن قِبلها.

كتب العسكري: «إنّ الدّكتور الورديّ، وأساتذته، يحاولون هدم كلّ قديم مِن أخلاق وآدابٍ، ونظم اجتماعيَّة». لم يتطرف العسكريّ ويقول: «يحاولون هدم الدّين»؛ فهذا تكفير صريح. لكنّه أراد قول ذلك، فالأخلاق في عقيدته دينيّة أولاً. كذلك أتهم الوردي أنه طالبٌ للشّهرة وفق «خالف تعرف». بعدها ردّ الوردي التُّهمة، واعتبرها باطلة، ففي تصوره: ليس كلّ من خالف عُرف واشتهر، إذا لم يكن صاحب عِلم (المطبعيّ، عليّ الوردي يدافع عن نفسه).

كانت الأخلاق والآداب، التي أُتهم الوردي بهدمها، تخص الحِجاب، والتّشدد ضد الانفتاح الاجتماعيّ، الذي اعتبره الورديّ سبباً جوهرياً في التّخلف، وإشاعة «الاغتصاب»، ودفع المجتمع إلى ثقافة النِّفاق، فالأخلاق لا تقومها المواعظ والخُطب، إنما الحلول العمليّة، كازدهار التَّعليم، والتَحول إلى الحضارة.

أقول: وهل أكثر مِن مجتمعاتنا تستمع للمواعظ والخُطب، وها هو الطَّابع الدّينيّ سائداً، ثقافة وسُلطة، فما هي النَّتائج التي حُصدت، ألم يكن هذا دليلاً على صحة ما قاله الورديّ قبل سبعين عاماً؟ كان الورديّ يتحدث مِن بنات أفكاره، غير المقدسة، أمّا صاحب الرّد، فبين صفحة وأخرى يُذكر الوردي بحديث وآية، وهذا ما قصده الورديّ بقوله: «كسب الجدل بأن تتجنبه» (الورديّ يدافع عن نفسه).

كان أكثر ردّ العسكري دفاعاً عن المنطق الأرسطي ومثالية أفلاطون؛ والسَّببّ لأنَّ هذا المنطق بمثابة المقدس، فالمسائل الفقهية تعتمد عليه في الوصول إلى النّتائج، المنطق الذي ثار عليه «السفسطائيون»، وكان الورديّ ناصراً لهم. كتب العسكري ثالباً السَّفطائيين، ومريدهم الورديّ: أفكارهم «تجعل الحقَّ باطلاً والباطل حقَّاً»، وبالتَّالي فالوردي في ذهن المؤسسة الدّينيّة: يستبدل الباطل بالحقّ. ذهب العسكري في رده أن وجود الانحراف الخلقيّ له تاريخ، ربطه بالعباسيين والأديرة، ضمن عدم وده، كغيره مِن أبناء المؤسسة الدّينيّة الشّيعيّة، للعباسيين.

طرح الورديّ في مؤلفاته كافة أفكار التّحرر، وأسلوبه مقبول لدى طبقات القراء كافة، بشهادة المحقق كوركيس عواد (تـ: 1992): «يكتب بأسلوب ميسر جذاب، مفهوم لدى مختلف صنوف القراء. ثم وهو العالِم في الاجتماع يعرف كيف يُطعم كتبه في المطيبات والتّوابل» (نفسه). أقول: ممَن يخشى رجال الدّين إذا لم يخشوا الورديّ، الذي يصل للقراء كافة؟!