إليسو التركي.. رمز جفاف العراق!

نبوءة القيامة المندائية قريبا ما تتحقق مع تشغيل تركيا أردوغان سدها العملاق.

«إلى أن يجف الفرات مِن منبعه إلى مصبه، ويجري دجلة خارج مجراه، إلى أن تجف جميع المياه في البحار، وفي الجداول والأَنهار والعيون والآبار بعدها». وردت هذه العبارة المفزعة في كتاب الصّابئة المندائيين «الگنزا ربا» تعبيراً عن يوم القيامة. فيا تُرى ستحقق الحكومة التُركية هذه النُّبوءة، فحسب أهل الاختصاص، في الرَّي، إذا استمرت السّدود التركية تتزايد فهذا ما سيحصل عام 2040، إذا لم يكن أقل مِن ذلك.

شيدت تُركيا اثنين وعشرين سداً تحجز الماء عن العِراق، وآخرها وليس أخيرها «إليسو» العملاق، الذي ما أن أُفتتح في الأول من يونيو 2018 إلا وظهرت الفاجعة على مناسيب دجلة، وقامت حملة وطنية عراقية، لا الحكومة ولا الأحزاب، لكن ليس هناك مَن يدعمها، لأن الدَّولة العاجزة عن منع الجيش التُّركي عن دخول أراضيها بعمق 25 كيلومتراً، لا يُرجى منها حفظ حقها بالماء الجاري منذ آلاف السنين.

إن في ضمائر السَّاسة التُّرك - العِلمانيون منهم والإسلاميون- العِراقَ جزءاً مِن تاريخهم الإمبراطوري، لا ينظرون لعربه وكُرده إلا عبر الجنسية العثمانية، وبتعصب عتيق، فما زالت الموصل غصةً، التي لولا البريطانيون والاستفتاء، بمساهمة الكُرد بقوة، لكان مصيرها مصير الإسكندرونة محتلة.

تعتقد تركيا أنها تملك الماء لوحدها، ولو كان الأمر كذلك لجفت بقاع الأرض كافة، فأغلب أنهار العالم تنبع وتجري عبر دول متشاطئة بالماء، مِن النِّيل إلى الدانوب وسيحون، فالماء ملك الجميع، ومع أن الإسلاميين يحكمون تركيا، فالمفروض هم الأقرب إلى التَّفكر في الحديث: «النَّاس شُركاء في ثلاث: الماء والكلا والنَّار»(ابن سلام، الأموال)، وآخرون يروونه: «المسلمون...»(الماوردي، الأحكام السُّلطانية). أ كان «النَّاس» أو «المسلمون» لهم حقهم التَّاريخي بالماء، لا تجعل تركيا منه «عاشوريةً» على أهل العِراق.

قبل أن يصل أجداد زعماء تركيا إلى منابع دجلة، ويحكمون بقية البلدان لخمسمائة عام، وتقوم مذبحة الأرمن، ثم تركوها جرداء مِن سراب رخاء، كان دجلة جارياً، مِن «آثور الموصل» إلى «عبدان البَصْرة»، والكلام بما يخص حدود العِراق لأبي الحسن المسعودي (ت 346هـ) في «الإشراف والتَّنبيه»، وغيره مِن البلدانيين. كانت بغداد، التي أنشأها دجلة، مِن قبل تأسيسها عاصمة على يد أبي جعفر المنصور(ت158هـ)، مِن توابع بابل، اسمها «بغدادو» (أسماء الأمكنة العراقية)، وقبلهم قامت حضارة نينوى الآشورية بعشرات القرون، فالمدن بالعادة والحضارات الكبرى تنشأ على الماء. نُسب لإخوان الصَّفاء (ق 4 هجري) قولهم: «إن المدن تبنى على الماء والمرعى والمحتطب والحصانة»(البيهقي، تاريخ الحُكماء).

شاع أن تُركيا نبهت العراق، قبل سنوات، عن افتتاح «إليسو» وخطورته، كي يتدبروا موسم العطش القادم مِن الجار الجنب، وكتب البعض معتبراً التحذير فضيلة تُركية، وصبَ اللَّوم على العراق وحكومته! مع أن تركيا تعلم والعالم بأجمعه يعلم أن أمر العراق صار: «داعش» أمامكم والعطش التركي مِن ورائكم! وقوافل المسلحين تعبر الأراضي التُّركية والسُّورية بلا احتراز، ناهيك عن عبث الجار الشَّرقي بأمر العِراق بحرية تجارة المخدرات ودعم الميليشيات (الوقحة). فأي تنبيه وتحذير سيتدبره العراقيون، وفي هذه الظُّروف؟! عملت تركيا بمنطق الاستقواء، تدخل العراق عسكرياً متى تشاء، وتحجز الماء متى تشاء أيضاً، فهي عضو الأطلسي المدلل.

لم يُسمع للأميركان موقف، وكذلك للإيرانيين، وهما يتقاسمان أمر العراق، على الرَّغم مِن خلافهما، فإذا التزمت بريطانيا المحتلة للعراق، في العشرينيات من القرن الماضي، بإسقاط الحُجج التُّركية الباطلة في مطالبتها بالموصل، فعلى أميركا المحتلة للعراق (2003) ومازالت تمتلك عهدةً عليه، أن تحفظ حصته مِن الماء، وأراضيه مِن الغزو التركي وعبث الجار الإيراني.

يعني ماء العراق تاريخ هذه البلاد ووجودها، فدجلة والفرات منذ الأزل يجريان على أرضها. قال بشار بن برد (قُتل161هـ): «الرّافدان توافى ماء بحرهما/إلى الأبلة شرباً غيرَ محضور» (التنبيه والإشراف). لغزارة الماء شاهد ابن حوقل (ت نحو 367هـ) بالبَصْرة: «مياه الأنهار مفترشة... فربما رأيت في مقدار رميةٍ سهمٍ عدداً من الأنهار صغاراً تجري في جميعها السّمَيْريات، ولكلِّ نهر اسم»(صورة الأرض). فاسم «البَصْرة» منحوت مِن «بيث صري» أو «باصري» أي بيت القنوات (بابو إسحق، مدارس العراق قبل الإسلام).

نعم، إن وراء تحقيق توقعات عطش بلاد الرَّافدين دولاً وجيوشاً، مع ضعف عراقي وفساد لم يشهد التَّاريخ مثله، وإلا فبيد حكومته أكثر مِن سلاح، وأوله وقف التَّعامل التّجاري مع تركيا، وتقديم قضية الماء إلى الأُمم المتحدة، والتدخل لدى الدول التي تمون تلك السُّدود، سدود تجفيف العِراق، فإذا كان «إليسو» صار إنجازاً لأردوغان فهو رمز لتصحر العِراق.

عودة على بدء، يُخيل لي أن هجرة المندائيين الكبرى عن العِراق، وطقوسهم معتمدة على الماء الحيّ، بحثاً عن ضفاف أنهار، بعيداً عن تحكم «إليسو» الجبار بمصائر الملايين مِن العراقيين، فنبوءة كتابهم، على ما يبدو، قيد التَّحقق، لاقتران الجفاف بالقيامة.