'إيباك' عربي!

بعد التفجيرات الارهابية التي استهدفت محطة قطارات مدريد في 11 اذار/مارس 2004، وقف رجل اسباني، فقد ابنه في تلك العملية، امام رئيس الوزراء الاسباني، وقتذاك، خوسية ماريا اثنار، الذي زار مكان الحادث، وقال له: احمّلك مسؤولية قتل ابني يا سيد اثنار! او هكذا تناقلت وسائل الاعلام تلك الواقعة. اثنار، الذي التحق في سنوات عمره المبكرة بـ"جبهة الطلاب النقابيين" ذات الميول الكاثوليكية، قبل ان يتدرج في العمل السياسي ويصبح زعيما للحزب الشعبي اليميني، ومن ثم رئيسا للحكومة الاسبانية للمدة من العام 1996 الى العام 2004، كان من اشد المتحمسين لغزو العراق في العام 2003 ومن المساهمين فيه، بإرساله قوة اسبانية الى جانب القوات الاميركية والبريطانية، وايضا من اشد المتحمسين لاسرائيل والمدافعين عنها. وفي مؤتمر العام الماضي، او قبله، للجنة الشؤون العامة الاسرائيلية الاميركية (ايباك) الذي عقد في اميركا، كان اثنار يجلس في الصف الامامي للمدعوين، وكان من بين الذين اشاد بهم بنيامين نتنياهو، وبصداقتهم المخلصة لاسرائيل، عندما القى كلمته في المؤتمر.

منظمة ايباك التي توصف بانها اقوى جمعيات الضغط على الكونغرس الاميركي، تضم بين صفوفها شخصيات من مختلف الاديان والاحزاب في اميركا، لاسيما الحزبين الرئيسين الديمقراطي والجمهوري، وهدفها لا يقتصر فقط على تحقيق الدعم لاسرائيل، بل يتعداه الى تهيئة جيل جديد من القيادات الداعمة لاسرائيل. وهذه المنظمة التي تأسست في عهد ادارة الرئيس دوايت ايزنهاور مطلع خمسينيات القرن الماضي، صارت تلعب دورا محوريا في صياغة المواقف الاميركية الداعمة لاسرائيل.

ما نريد ان نقوله هنا، هو ان اليهود المتصهينين من اصحاب المال، سواء في اميركا او غيرها، عرفوا كيف يوظفون اموالهم بما يجعلها مؤثرة ليس في اقتصاد العالم، بل في القرار السياسي الدولي وتحديدا في الدول الكبرى، وفي مقدمتها اميركا، ومن ثم الدول الاخرى، وحسب اهمية كل دولة ومقدار ما يمكنها ان تقدمه لاسرائيل، ومن بين تلك الدول اسبانيا، التي بدا تأثير هذا اللوبي فيها واضحا، حينذاك، بالوقوف وراء صعود اثنار، الذي سبق وان طالب المغاربة بالاعتذار لاسبانيا عن احتلالهم لها، ويقصد بذلك فترة حكم العرب للاندلس!

العرب لديهم الكثير من المال، ولديهم الكفاءات في مختلف المجالات، لكنها مشتتة، وغير فاعلة حتى في بلدانها، بسبب غياب مشاريع التنمية الحقيقية، ولديهم رؤوس اموال ضخمة في اميركا واوروبا، لكنها تتفاعل خارج مصالح العرب، بل لصالح اعدائهم غالبا وليس احيانا، لكن هذا يبقى بسيطا جدا بازاء استخدام هذا المال في صراع الانظمة العربية ضد بعضها البعض، قبل ان يصل الى المحطة الدموية الاكبر التي نعيش اخر تبدياتها، متمثلة بما سمي بالربيع العربي، وقبل هذا تنظيم القاعدة واخواته من العصابات الاجرامية التي اساءت لسمعة العرب والمسلمين.

لا يشرف أي عربي، ان يكون اسلوبنا في الاحتجاج على أية ممارسة نراها غير مناسبة تجاهنا، بالطريقة المماثلة لتفجيرات مدريد الارهابية، ولا يسعدنا ان يكون المال العربي والاسلامي وراء صناعة هذه التنظيمات الاجرامية التي تقوم بمثل هذه الافعال المخزية، لان هذا يعبر عن عطلنا الحضاري وفشلنا في الوصول الى الاخر والتأثير به، سواء بالمال او بغيره، كما يفعل الصهاينة ويجندون الزعماء ومن خلالهم ثروات الامم وجيوشها لصالحهم، ومنهم طبعا رئيس الوزراء الاسباني اثنار وغيره. نعم، هنا تكمن المفارقة، ويكمن ضعفنا الذي يتجلى باستمرار، لاننا بددنا اسباب قوتنا فتسلل الينا الضعف، واستشرى بيننا الارهاب حتى بات كالسرطان ينخر بأجساد اوطاننا وقبلها بمجتمعاتنا التي تعيش اليوم اسوا مراحلها في ظل هذه الفوضى العاصفة.

لقد كانت صرخة الاب الاسباني بوجه رئيس وزراء بلاده، اثنار، تعكس قوة المال الصهيوني الذي حقق لاسرائيل ما تريده، وفي الوقت نفسه اخجلتنا كعرب، لان الفعل الهمجي الذي اراد الارهابيون ان يحتجوا من خلاله على موقف اثنار ومشاركة بلاده في الحرب على العراق، تعكس خيبتنا الحضارية، لان المال العربي بدلا من ان يجعلنا مؤثرين في عالم لا يحترم الضعفاء ولا يقيم لهم وزنا، صار عبئا علينا مرتين.

هل كان ترامب ليجرؤ على نقل سفارة اميركا للقدس، لو كان المال العربي مؤثرا هناك؟ اعتقد ان مأساتنا تتسع يوما بعد يوم!