إيهاب خليفة: قصيدة النثر هي النص الأكثر صدقا وتعبيرا عن واقعنا المأزوم

مهمة قصيدة النثر هي الاصطياد في الماء العكر؛ إنها تسعى على الدوام لتلغيم الطمأنينة، وإرباك الحواس، ونسف الأبعاد الرسولية التي تحمل رؤى مقولبة
هناك بلاغتان تتصارعان على الهيمنة على المشهد الشعري
المتلقي للنص الشعري الجديد مغايرا للمتلقي الكلاسيكي الذي يقدس الإنشاد

قدم الشاعر إيهاب خليفة تجربة مهمة ومغايرة في سياق تجريب جيل التسعينيات، فبعد أن تمرس على قصيدتي الكلاسيكية والتفعيلة وقطع في كتابتهما شوطا كبيرا، انتقل إلى قصيدة النثر التي استطاع من خلالها أن يشكل خصوصيته وتمايزه، انطلاقا من ديوانه "أكثر مرحا مما تظن" 1997 الذي صدر عن سلسلة ديوان الكتابة الأخرى، ثم "طائر مصاب بإنفلونزا" و"مساء يستريح على الطاولة" و"قبل الليل بشارع"، وقد احتفي بنصوصه في معظم الدوريات العربية المتخصصة، كما تناولتها عشرات الدراسات النقدية لشعراء ونقاد من مختلف الأجيال. وفي هذا الحوار معه نتعرف على رحلته مع الشعر وتجلياته.
قال إيهاب خليفة "أول ما كتبتُ كان الشعر الموزون على البحور أحادية التفعيلة، وبالطبع كان لديّ صنم يدعى القافية، ظننت أن هذا الصنم جوهرا لا يوجد شعر إلا به. عموديا بدأت الشعر ربما كشعراء كثيرين، شعر هذه المرحلة تلاشى من الذاكرة تماما ولم يبق منه سوى أبيات قلائل في الذاكرة:
قلبي مريـضٌ بالذي يشفيهِ ** إن عالجوهُ؛ علاجُهُ يؤذِيهِ!
هرَّابةٌ نبضـاتُهُ خــلفَ التي ** من دون أسرٍ ظاهرٍ تسبيهِ
ليستْ تواصلُهُ، وليستْ تهجر ** بلْ بيـنَ بينَ وهكـذا تبقِيهِ
ثم تبدل الشكل سريعا في المرحلة الجامعية مرتين (1991-1995) في التبدل الأول: أضحى الشعر تفعيليا بفضل قراءات لصلاح عبدالصبور والبياتي ونازك الملائكة والسياب وأمل دنقل وغيرهم. 
مع عامي الجامعي الأول (في كلية الآداب، جامعة طنطا، قسم اللغة العربية) سرت في جنازة الشعر العمودي. أذكر أنني دفنته في جنازة مهيبة حضرتها حواسي وأسئلتي الوجودية وفي النسيان حفرت مقبرة جماعية لمشاريع قصائد وأشباه قصائد وأوهام وتوافه قصائد أخرى وقد لاحظت أن الشعر العمودي وهو يدفن حيا بيديّ الملعونتين كان يمسح بيديه الخشنتين الرحيمتين الغبار عن وجهي، لكني غدرت به وظللت أحرك الرمال باتجاهه، كإعصار سادي؛ حتى ارتخت يداه واستسلمت للغياب. 
أما التبدل الثاني: ففي العام 1994 وقبل إتمام الدراسة الجامعية بعام واحد تعرفت خطواتي الطريق إلى القاهرة، توجهت إلى أتيليه القاهرة وزهرة البستان تحديدا ربما للتعرف على سبل لنشر قصائدي المزعومة.
وأضاف "في القاهرة بدأ مفهومي للشعر يتصدع كلية، ومفهومي للحياة أيضا، على عتبات العشرين وكل شيء سأهدمه؛ لأشيده من جديد، شرط أن أكون مستعدا لفعل ذلك دائما. كتبت التفعيلة كأني واحد من روادها ( - آه والله) وفازت بعض نصوصي التفعيلية - بالمركز الأول على مستوى الجامعة، والإقليم الثقافي بعد ذلك ونشر بعضها في الأهرام المسائي في ذلك الحين - ثم أصبحت قصائدي التفعيلية هي الأخرى عرضة لاغتيال قاس وفي انتظار إعصار ثان لا قلب له، لا محاباة عنده، لا يعرف مقدسا، لا يبجل أطرا مرجعية، لا يعد بيقين ولا يمنح غفرانا، النسيان حضر هذه المرة بنفسه لإخفاء شعر هذا المرحلة، وترك لي بعضا قليلا، أذكر منه مفتتح نص "بيوت ناتئة": 
(معطفُ الوقتِ/ ألقى فضاءً من الوردِ لي!/ صار أنثى تراودني عن دمي./ لم أقفْ رافضًا/ بل صعدتُ إلى شرفةِ الكونِ،/ كان الأريجُ بلا منتهى./ عدتُ منجذبًا/ ليسَ للوردةِ المشتهاةِ،/ولكن لأدرأ بالورد شوك المدى). 
خرجت من الجامعة وقد طويت صفحة من الكتابة، متطلعا إلى صفحة أخرى ليست ذات تضاريس واضحة، تكمن روعتها في جعل النص مغامرة كبرى، واكتشافا متجددا لأرض جديدة للشعر لا تعرف الجغرافيا، بل ستتشكل جغرافية النص - إن جاز التعبير- عبر تجارب طويلة قادمة، ومن الممكن كل مرة إعادة التشكيل".
ورأى خليفة أن قصيدة النثر نص إشكالي، ينطلق إلى مجرات بعيدة، يفتش عن جماليات متجددة بأدوات تجافي أدوات الشعر القديمة المستهلكة غالبًا، إنه نص يخلق إيقاعه الذاتي من تلقاء نفسه، ولا يركع أمام أوثان الخليل بن أحمد الفراهيدي، كما أنه يبغض التوقع والتقوقع والمجانية، والاستنساخ والأواني المستطرقة واستقراء الوصفات الجاهزة وصياغة نصوص تراعي تطبيقها بالحرف. 
ولما كان المتلقي للنص الشعري الجديد مغايرا للمتلقي الكلاسيكي الذي يقدس الإنشاد فقد توارى الإيقاع الهندسي فيما توارى، وأصبح هناك بلاغتان: قديمة وجديدة؛ تتصارعان على الهيمنة على المشهد الشعري، البلاغة القديمة بدت كعجوز تقدمت بها السن، وافترستها التجاعيدُ بينما بدت فتية ونضرة الجمال البلاغةُ الناشئة، والشعر قيصر العواطف والمشاعر كلها لا يعرف الرحمة حين تتعلق المسألة بوجوده كشكل فني يواجه مصيره! كل صراع بين قديم وجديد ينحسم لصالح الجديد الذي يضحى بعد فترة قديما يزيحه جديد آخر. 
وأكد أن أهمية هذه القصيدة يرجع إلى نسفها اليقين المعرفي والأطر الجمالية السابقة، وطرحها الأسئلة الوجودية الشائكة والتي لا تنشد حلا وإنما تقشر الوجود؛ لتبدي لنا جوهره حتى ولو كان مشينا أو صادما. مهمة قصيدة النثر هي الاصطياد في الماء العكر؛ إنها تسعى على الدوام لتلغيم الطمأنينة، وإرباك الحواس، ونسف الأبعاد الرسولية التي تحمل رؤى مقولبة غير قابلة للأخذ والرد، القصيدة عموما تستعصي على التأطير أو التنظير المستنبط من تجارب أخرى عالمية؛ لذا فهي تشبه الخيول البرية التي تطرح من يمتطيها جانبا".
وحول المشهد الراهن لقصيدة النثر أشار خليفة إلى أنه يتابع النص الشعري الجديد بشغف كبير، وقال "تأتيني دواوين ومخطوطات من كل مكان، وأرى أن أجمل نصوص قصيدة النثر يتشكل ببراعة واقتدار مدهشين؛ ليكوِّن أيقونة جمالية كبرى مع منجز الشعراء الذين حفروا عميقا - في عقود سابقة - المجرى المضاد للكتابة التقليدية، القصيدة الآن منجز مبهر لا يقل إمتاعا عن أهم النصوص الشعرية التي أنتجت في أزهي العصور، بل لقد تجاوزت قصيدة النثر الشعر التفعيلي برمته والعمودي كذلك، وأزاحتهما إلى منطقة معتمة شبه منسية، لقد أضحي الشعر الفائت المنبوذ من شعراء النثر غير قادر على تجديد نفسه، يراوح بيأس في المكان؛ لم يعد متنا بل صار هامشا. 
الشعراء الآن باتوا قادرين على خلخلة ثوابت الشعر على مختلف أنساقها اللغوية والمعرفية والفلسفية والجمالية والرمزية، وبتمرس مدهش يعمدون إلى فك شفرات العالم بنحت البياض بآلة الحبر، وإعادة تشفيره من جديد، بأدوات مبتكرة غير مستهلكة، صانعين عوالم افتراضية تحدث جدلا مع مفهوم الشعر، وتصوراتنا للعالم، كما أن ثمة تجليا للشاعرات؛ بأطروحات شعرية جمالية جريئة وجادة، فالشاعرات الآن يقتحمن مناطق شعرية غير مأهولة وينسجن أساطيرهن الخاصة عبر أبسط الأدوات، وبرهافة آسرة". 
أما المشهد الشعري بشكل عام، فلفت إلى أنه رغم كل ما يجرى من احتفاء كرنفالي بالشعر (شعر البلاط، الشعر المنبطح تحت أقدام السلطة، الشعر المنكس الرأس أمام منصة النقاد المحكمين آلهة الذوق وصانعي الأسماء الكبيرة الواهية) عبر مسابقات وجوائز ومهرجانات ومطبوعات، رغم تكريس مواقع ومؤسسات تدأب على تقويض ما تطرحه تجارب القصيدة الجديدة، في محاولة مستميتة لاسترجاع بساط الشعر تحت أقدامها المتيبسة، رغم إقصاء شعراء النثر من التكريم المستحق عبر لجان تهيمن باستماتة؛ لتقصي النص الجديد، بإعطاء دروع وشهادات ونياشين لتجارب مكرورة وشبه مجانية، لا تمثل المتن الحقيقي للشعر الآن، رغم كل ما سبق لم يعد الشعر العربي ملكيا ولا ساكنا في الأعالي، لقد خرج من بلاط المماحكات، وبهو الرِّق، يتنفس حرية وحياة؛ لذا وحدها القصيدة الجديدة المنفلتة من كل الأطر الجامدة سابقة التجهيز تتنامى مقدمة أطروحات جمالية فوق التوقع. 
أعجبني ما يطرحه الشعراء في الدول التي تفترسها الصراعات، الشعراء الذين جعلوا من مآسيهم أيقونة شعرية جمالية مبهرة، فقدموا منجزا شعريا حقيقيا، وأصبح الشعر وطنا بديلا، الشعر كيوتوبيا حاضر، وأيضا كديستوبيا؛ تأوي إليه أفئدة مذبوحة بخراب العالم. 
بات واضحا أن تلك الصراعات العربية/ العربية التي ضجت منها اليابسة هي وقود حركة شعرية فوارة بالأسئلة هادرة، لذا صار الشاعر الآن حفار قبور يشيع ثورة أمل تارة، ويشيع مدينة مهدمة تارة أخرى. تلك الفضائح الفدائح هي اقتطاع الحبل السري الثاني للشاعر، ليفهم أن مكانه الدائم إما في حضن الحبيبة أو فوق فوهة فوارة قابلة للاشتعال، هذا المنحى في توثيق الحروب والتناحر اللا متناهي أعطى للنص الجديد بعدا أشبه بما كان بعد الحرب العالمية الثانية، لتصبح قصيدة النثر هي النص الأكثر صدقا وتعبيرا عن واقعنا المأزوم، وتغدو بحق هي الديوان الجديد للعرب.
وأكد خليفة أن القارئ الآن يستطيع تلمس ملامح القصيدة الجديدة التي لم تعد تخطئها عين؛ سيجدها سوريالية، أو مستعيرة النسغ الخفي للكائنات منطلقة في الوجود اللامرئي لعوالم متخيلة تزاحم الوجود نفسه، سيجدها تخلق أساطير من لا شيء، سيجدها متجردة من كل إطار؛ تتنامى مجاورة لكل هذه الأشكال.
وشدد خليفة على أن كتابة قصيدة يعني أن تلغم الوجود بأسئلة كبرى لا تقبل الإجابات السطحية ولا المحسومة مسبقا. أن تظل على الدوام مهيأ لصدام مع السلطة بوصفها أعدى أعداء المثقف الحقيقي، الشعر والسلطة لا يتصالحان، والشعراء هم رأس الحربة في مواجهة جمود السلطة وتغولها ومحاولاتها المشينة للهيمنة على رئة الحياة وأحلامها، لذا ستلاحظ  دائما أنهم يمكرون بالشعراء ويغازلونهم بالعطايا؛ أو يستدرجونهم لأقبية الصمت والنسيان، لأن السلطة تدرك أن الحبر آلة موقوتة قادرة على محوها، وفي القلم تسكن كل المخاطر التي ترعب كل سلطة، لقد رأيت أعاصير صنعتها أقلام، ورأيت هاوية لا تأبه بأحد أطاحت بآلهة واهية، لكن ولكي أكون صادقا الدور المقاوم للنص الشعري الآن بات موضع شك، والشعراء في استراحة كبرى، يمنحون قبلة الحياة للسطة. الشعراء الآن يجلسون – للأسف - على دكة الاحتياط في مباراة طرفاها السلطة والوجود.