الديمقراطية العربية والملوخية

 من حُسن طالع عالم الحيوان عدم وجود منافقين ومطبلين يكيلون لملك الغابة المديح والثناء كلما ذهب للصيد أو رجع منه منصوراً بأمر ربه.

تتمنى الشعوب العربية أن تتذوق يوماً إحدى الطبخات المعروفة بالديمقراطية، لعلها تكون خلاصها مما تتردى فيه من وضع اجتماعي وأخلاقي واقتصادي ليس له مثيل حار في فهمه أو تفسيره جميع الفلاسفة باختلاف توجهاتهم وأجناسهم وجنسياتهم.

فقد وجدت الشعوب العربية نفسها خلال فترة زمنية بسيطة فاقدة مقومات احترام شعوب الدنيا لها، وتجيء عزة النفس والكبرياء في مقدمة المفقودات، فنادرا ما نجد شعباً عربياً الآن يشعر بالفخر كما كان في السابق، بل على العكس، أصبح كل شعب يحاول أن يتبرأ من انتمائه لوطنه، ولم تعد هناك الحمية والغيرة التي كان العرب يشتهرون بها، حتى الشهامة التي كانت صفة ملتصقة دائماً بالعربي، هي الأخرى وجدت طريقها إلى النسيان.

أما الكرامة التي كان دونها الموت بالنسبة للعربي، فقد وافتها المنية بعد أن وجدت الشعوب العربية نفسها تمد يدها استجداءً ضرورات الحياة، في الوقت الذي تم فيه اختزال المجتمعات العربية في فئتين فقط لا ثالثة لهما، وهما الغني والفقير، وبمعنى أدق صائد مفترس، ومواطن فريسة.

وعلى ذكر المفترس والفريسة، لو ألقينا نظرة على عالم الحيوان ووسيلة الحفاظ على التوازن الطبيعي فيه، فسنجد الحيوان الصائد لا يهاجم فريسته إلا إذا كان جائعاً، وهذا سلوك أخلاقي مثالي هذبته الغريزة الحيوانية، ولا يستطيع المرء إلا أن يوفي مرتكبه حقه من الاحترام، فهو لا يصيد إلا متطلبات وجوده واستمراره، لذلك فالفريسة يجب أن تخشاه في هذه المرحلة فقط، أما حين يحصل على كفايته، تمارس الفرائس حياتها بلا خوف فهو حتماً لن يقترب منها.

هذا هو قانون الطبيعة الذي لا يجرؤ على خرقه حيوان، فخرق القوانين صفة من صفات عالم الإنسان فقط، فلا نجد الأسد مثلاً رغم أنه ملك الغابة يتباهى بمنصبه وقوته، إنما يأكل مثله في ذلك مثل أي حيوان آخر بلا أي تمييز، فعالم الحيوان يسير بانتظام ودقة شديدين، فما يا ترى سر ذلك؟

الإجابة عن هذا السؤال بسيطة جداً، فمن حُسن طالع عالم الحيوان عدم وجود منافقين ومطبلين يكيلون لملك الغابة المديح والثناء كلما ذهب للصيد أو رجع منه منصوراً بأمر ربه، كما لا يتخذ الأسد لنفسه مستشارين وبطانة ترتكب المصائب في حمايته، والخلاصة، أن قانون الطبيعة مُطبق على الجميع بلا استثناء، لا فرق لديهم بين أسد أو حمار أو فأر، الكل سواسية أمام القانون.

أما الوضع في عالم الإنسان فهو مختلف، فالمفترسون من أهل البشر لا يكتفون أبداً باحتياجاتهم، بل أصابهم السُعار الذي يدفعهم لتكرار الصيد مرات ومرات، وبدلاً من الصيد ليلاً بدوافع الخجل لا سمح الله، أصبحوا يقومون بذلك جهاراً نهاراً، فاستأثروا لأنفسهم بكل الخيرات، والفريسة الإنسان يجب ألا يغمض له جفن، فالمفترسون المتعددون يلاحقونه على مدار الساعة.

لم تجد الفريسة الإنسان أمامه من وسيلة إلا أن تمد يده مرتين، مرة للدفاع عن نفسه إذا كانت لديه الشجاعة لذلك، والأخرى لطلب العون من الصياد المفترس، فقد يلين قلبه الحجري ويكتفي عن الصيد الجائر ويترك له ما يقتات عليه، وكنتيجة حتمية ترتبت على مد اليد استعطافاً للرحمة، أو استجداءً للقمة، فقد الإنسان كرامته للأبد.

ولو عقدنا مقارنة بين الفريسة في عالم الحيوان، وبين الفريسة في عالم الإنسان العربي، لوجدنا أن الأولى تكتسب الاحترام وليس التعاطف، فهي تذيق المفترس كل ألوان الهوان، وتبذل كل ما في وسعها للنجاة من بين براثنه، وفي أحيان كثيرة تصيبه بالإعياء من شدة مقاومتها فتنجو، ما يجعلها عزيزة كريمة فهي تخوض معركة غير متكافئة حفظت لها كرامتها وإن سقطت مدرجة في دمائها.

ولكن أما إنساننا العربي الفريسة، فله وضع مختلف، فهو لا يقاوم ولا يكافح من أجل النجاة، ولا يبذل أي جهد حفاظاً على كرامته الإنسانية، بل نراه مستسلما خانعا تماماً لمشيئة المفترس ورغباته.

ولم يقتصر الضعف وفقدان العزة والكرامة على الفريسة الإنسان فقط، بل هو سلوك الصياد المفترس أيضاً وإن كان لا يظهره، فبعد أن أصبح قاسياً قلبه لئيماً لا يحمل من المشاعر الإنسانية أبسطها، ولم يعد يهتز له جفناً وهو يغرس أظفاره الملوثة بدماء ضحاياه في أجساد فرائسه، تملكه الخوف والفزع من أن تتكاتف الفرائس عليه يوماً، ووجد نفسه هو الآخر يمد يده في مذلة ومهانة إلى من يحميه، فقرر اللجوء إلى شيخ المفترسين وكبيرهم الذي علمهم الصيد، وبذلك فقد مفترسنا الكرامة، كما فقدناها نحن الفرائس.

وطالما أن الفئتين فاقدتا للعزة والكرامة، فمن ذا الذي سيطبخ ومن الذي سيأكل وجبة الديمقراطية؟ إن المقادير التي تُحضر منها ليست سهلة على الصياد المفترس ليطبخها، كما أنها تحتاج إلى أسنان لدى الفريسة تُساعدها على انتزاعها وقضمها ومن ثم بلعها وتلك الأداة فقدتها الفريسة منذ زمن بعيد بفعل مفترسها، وطالما لم تستعد الفريسة أسنانها، والصياد لا يرغب أن يطبخ هذه الطبخة العسيرة على التحضير، وإزاء هذا العجز لدى الاثنان، كان الحل بطبخة سهلة التحضير، يسيرة المقادير لا يتطلب أكلها أسنان، فلم يكن بُداً عن الملوخية التي نعوم فيها الآن.