'الرحيمة' تناقش أوضاع عالم يضج بالأحقاد
القاهرة – صدر الجزء الثالث من المشروع الروائي "الماء العاشق" للشاعر والروائي أحمد فضل شبلول عن دار غراب للنشر والتوزيع بالقاهرة، تحت عنوان "الرحيمة"، والذي أهداه إلى القطب الصوفي محيي الدين بن عربي صاحب "الفتوحات المكية".
وتناقش "الرحيمة" أوضاع العالم الجديد بعد تفشي الأطماع والأحقاد والانقسامات والاستيلاء على أراضي الغير بالقوة، والاعتداءات الغاشمة من جانب الإنسان على أخيه الإنسان. فكان لا بد من بروز صوت العقل والحكمة من أرض مصر، ولو من خلال كائنات أخرى غير الإنسان، لإعادة التوازن الكوني، وتذكير الإنسان بأنه يحمل الأمانة الربّانية التي أبت السماوات والأرض والجبال حملها، وأشفقن منها.
بعد أن انتصر عمر ياسين على الثعلب وزير المستوطنات بأفكاره التوسعية الإستيطانية في الجزء الثاني من مشروع ثلاثية "الماء العاشق" وهو "ثعلب ثعلب"، تطلعت الملكة الرحيمة (أم الماء وجنيَّة البحار) لقيادة العالم، وتخليصه من شروره وآثامه، بمساعدة عمر ياسين وزوجته هدى إسماعيل، فكان الجزء الثالث من هذا المشروع الروائي الضخم الذي يضم الروايات: الماء العاشق، وثعلب ثعلب، والرحيمة، وبلغ حوالي 930 صفحة.
ويرى شبلول أن بطلته "الملكة الرحيمة" تدرك حجم المشاكل التي ستواجهها في سبيل تحقيق مشروعها وحلمها، كما أنها تدرك أن بعض الدول والقيادات والزعامات – وخاصة الدول الكبرى - ستقف في طريق تحقيق هذا الحلم الكبير، وصرحت بأنها مستعدة لهذه المواجهة ليس بالحرب، ولكن بالسلام، والسلام دائما هو الخيار الأصعب، ما أسهل أن تعلن الحرب على خصمك، ما أصعب أن تتخذ قرار السلام.
ومن خطط الرحيمة اللجوء إلى مدائن تسمى مدائن النور، عددها ثلاث عشرة مدينة، لا يعرفها الكثيرون، وستكون جزءًا من الحلول، وتؤكد أن أهل هذه المدن أعرف الناس بالله، وأن الله قادر على جمع الضدين، ووجود الجسم في مكانين، وليس بعد هذا البيان بيان.
تدور أحداث الرواية في الإسكندرية – كمعظم روايات شبلول وأعماله الشعرية – وتحديدًا في منطقة سيدي بشر وبئر مسعود حيث يوجد قصر أم الماء "الرحيمة" أسفل مياه جزيرة ميامي، والتي تحولت إلى منطقة جذب عالمية، بعد أن اجتمعت الرحيمة ومستشارتها الملكة كليوباترا بالقيادات المصرية وأعلنت أنها خرجت من تحت الماء لتحكم العالم وتنقذه من الهاوية التي يسير إليها، وترك تصريحُها هذا ردَّات فعل عالمية كبيرة، وطلبت كبرى الدول في العالم المزيد من الإيضاحات حول هذه التصريحات الخطيرة المرهونة بمستقبل العالم ومصير الإنسان على كوكبه الأرضي.
وفي نهاية الرواية يعود الإسكندر الأكبر إلى الحياة – بعد وفاة كليوباترا وانتهاء مفعول خلودها - ليتعاون مع الملكة الرحيمة، لوضع نظام عالمي جديد يحكمان العالم من خلاله.
ومن أجواء الفصل الأخير هذا الحوار بين الرحيمة والإسكندر الأكبر:
قالتْ لي في أول لقاء بها: القرب الذي تعرفه مسافة، والبعد الذي تعرفه مسافة، وأنا القريبة البعيدة بلا مسافة! وقالت: تعرفتُ إليكَ وما عرفتني، ذلك هو البعد، رآني قلبُك وما رآني، ذلك هو البعد. فرِّغْ قلبك لي، لتنظرْ إليّ. أنت تنظر في عينيَّ، وأنا أنظر إلى قلبك، وهذا هو الفارق بيني وبينك.
ثم قدمتْ لي ولي عهدها الواثق بالله، وأخبرتني أنه ليس ابنها، فقد أغلق الله رحمها. ثم قدمت لي الأنسي المصري عمر ياسين، وأخبرتني أنه خير معوان لها. وأنه على صلة جيدة بالسلطات المصرية في الإسكندرية. ونستشيره دائما في الأمور الدنيوية فوق الماء، لأنه أدرى بها، وإن كانت تصلنا أحيانا بعض تلك الأخبار من مصادر أخرى.
لم يكن عمر مُصدقًا أو مُتخيلا أنه أمامي، أنا الإسكندر الأكبر، أو الإسكندر الثالث المقدوني، عاشق العمران، ومؤسس مدينته التي يقول شعرًا فيها، وينسكبُ أمام بحرها. سوف تكون لي جلسات معه، لأعرف ما الذي آلت إليه مدينتي التي أسستها عام 331 قبل الميلاد، وخاصة في الفترة التي تلت حكم كليوباترا لها (30 قبل الميلاد) فما قبلها قد عرفته منها.
قلت لهم: سأريكم أعمدة الأرض، لتعرفوا تحت أي عمود تقفون، وكنت مخطئًا حينما أعتقدت أنه بالقوة الجسدية والعسكرية يُهزم الإنسان. ورغم ضآلة جسمي ورشاقته كان البعض يعتقدون أنني عملاق يروح ويغدو وراء ستار.
أخذت الرحيمة قنينة العطر الملكي وسكبته على رأسي وقبّلتني قائلة: يا ولي قُدْسي، واصطفاءُ محبتي، انتظرتُك منذ زمان بعيد، وكان لا بد أن أُضحي بكليوباترا حتى تأتي أنتَ، فأنا الآن أكثر احتياجًا لكَ منها، لأنني أعلم أن حلمك الأكبر كان تأسيس إمبراطورية عالمية، وهو ما أسعى إليه الآن، لذا كنتُ في حاجة لك لنخطِّطَ للعالم الجديد، بمساعدة من معي، وسوف أعرفك قريبا على السمكة المنشار، قائدة جيوش البحار لتستفيد من خبراتك وخطط معاركك، وأعلم أن العالم تغير كثيرًا عن الحقبة التي عشتَ فيها، وما أريده هو أفكارك النيرة وذكاءك الثاقب حسب معطيات العالم الآن. وسوف أعطيك قلبًا آخر.
ثم قالت: أريدُك بأن تُريدني فتدوم بي، وتنقطعُ عنك. ولو كشفتُ لك عن وصف النعيم، أذهبتُك بالكشفِ عن الوصفِ، وبالوصفِ عن النعيم، وإنما ألبستك لطفي فتحمل به لطفي، وأتوجك بعطفي، فتجري به في عطفي. وسوف أُلقي في صدرك وعقلك علوم الآخرين، فكل شيء في صدرك، لتعرف المرحلة التي بلغها هؤلاء القوم الإنسانيين، وتقارنها بما وصلنا إليه نحن البحريين. واتبعني، وسوف أنظر في أقصى علمك. وسل كل شيء عني، ولا تسألني عني. وعلي أن أعرف فكرتك عن الله؟
أعرف عن الله، ما علمنيه أستاذي أرسطو الذي قال: إن الله فكرة، ولكنه فكرة أي شيء؟ إنه لما كان صورة مجردة فليس صورة لمادة، ولكن هو صورة الصورة، فهو فكرة الفكرة، فهو يفكر في نفسه بنفسه، هو المفكِّر والمفكَّر فيه، فكما أن الإنسان الفاني يفكر في شيء فإن كذلك الله يفكر في الفكر، لا يفكر في شيء خارج عنه، وهو يعيش في سعادة أبدية وسعادته هي تفكيره الدائم في كماله.
هذه آراء مهمة، ولكنها ليست كل شيء عن الله، سأضيف إليك الكثير من المعرفة عن الله، الحق، الواحد، الأحد، في مستقبل الأيام، فقد جاء بعد عهدك الدين المسيحي، ثم الدين الإسلامي، اللذين أضافا الكثير عن فكرة الله. فقط يجب أن تعلم أن الله يجمع بين التنزيه والتشبيه.
وبما أنك تحب الحكمة، عن أستاذك أرسطو الذي كان مُحبًّا للحقيقة والواقع، فلك أن تلتقط الحكمة من أفواه الغافلين عنها، كما تلتقطها من أفواه العامدين لها، ولكنك ترى الله وحده في حكمة الغافلين لا في حكمة العامدين. وعليك أن تكتب حكمة الجاهل، كما تكتب حكمة العالم.
ولتعلمي – سيدتي - أن كل الأشياء التي هي أحط من الإنسانية تتجه نحو الإنسان، وغايتها هو الإنسان، بحكم أنه أعلى منها في سلم الرقي، ولكن مع هذا فكل موجود مهما انحط له وجود ذاتي وله غاية ذاتية، وهي موجودة لنفسها لا لنا.
قرأتُ ذلك عند أرسطو.
هذا ما تعلمتُه عنه .. وغير ذلك الكثير. وتساءلت: لماذا لا يكون هذا العالم الرحب دولة واحدة، وهو الآن منقسم إلى ممالك ودول ودويلات وولايات تتنازعها الطموحات المتصارعة؟ لماذا لا توجد لغة واحدة تفهمها جميع شعوب الأرض وتتكلم بها؟
هذا ما نعمل عليه، ونهدف إليه الآن، ونحن في ذلك متفقان.
إذا استطعنا تذليل عقبة اللغة – والأمر هين كما أرى – تيسرت لنا إقامة جسر يصل جميع شعوب الأرض واستطاع الناس أن يتخاطبوا ويتفاهموا بلغة واحدة، وتقترب كل ضفة من الضفة المقابلة، وهو ما نجحتُ فيه بين اليونانيين والفرس قبل موتي، ولم يكتمل بعده.
لذا .. ينبغي علينا ألا نتراجع، فالخيبة في هذا المجال ستكون أشد نكالا ووبالا على البشر من الأوبئة والحميات والفيروسات، وتكون العداوة أشرس مما كانت عليه بين اليونانيين والفرس في العالم القديم.
وعلى المصريين – قبل أي شعب في العالم، وحكومتهم – قبل أي حكومة في العالم – أن تدرك ذلك وتقدره، وتتعاون معنا من أجل شعوب العالم – وكائناته - أجمع.