الطائف دستور أرثوذكسي

الأسوأ من عدم تعديل اتفاق الطائف هو تعديله من زاوية الصلاحيات والحصص الطائفية لا من زاوية التوازن الدستوري.

فتح الرئيس نبيه بري الباب أمام تعديل دستور الطائف الذي، منذ حلوله سنة 1989، تعدل أكثر من مرة فيما لا يزال الغيارى عليه يدعون عذريته. نكران حصول تعديل في "اتفاق الطائف" هو كنكران وجود مثالثة مذهبية مسيحية سنية شيعية بديلة عن الثنائية المسيحية الإسلامية، الصيغة التاريخية التي لحظها "الميثاق الوطني" وتغاضى عنها "اتفاق الطائف". فبعد الـ"ترويكا" الرئاسية التي شلت الحكم منذ سنة 1992، نلج رحاب "الترويكا" الحكومية التي ستعطل الحكومة أيضا؛ بينما تبقى السلطة النيابية إحادية بين الثنائية الشيعية تعطل ولا تعطل.

مطالبة الرئيس بري بإسناد وزارة المالية إلى الطائفة الشيعية، فيكون لها التوقيع الثالث على قرارات مجلس الوزراء إلى جانب رئيس الجمهورية الماروني ورئيس الحكومة السني، وبتحديد مهلة زمنية للرئيس المكلف تأليف حكومة، تستدعي تعديلا دستوريا. لا شيء في "اتفاق الطائف" يشير، نصا أو عرفا، إلى الهوية المذهبية لوزارة المال ولا إلى المدة المتاحة للرئيس المكلف لأن يؤلف الحكومة.

إن اتفاق الطائف - من الناحية الدستورية لا الميثاقية - هو أصلا مرحلي بحكم ظرفية وضعه وتناقضاته الهيكلية. فوثيقته مركزية ودستوره لامركزي وتطبيقه فدرالي. ظاهر الاتفاق دولة طائفية/مدنية ومضمونه دولة طائفية/مذهبية. أراد لبنان وطنا نهائيا ففاضت الولاءات الخارجية. توخى الإنماء فعم الفساد. لقد ثار البعض على "القانون الأرثوذكسي" للانتخابات، فيما دستور الطائف هو "دستور أرثوذكسي" بامتياز...

لذا، يحتاج دستور الطائف إلى تعديل حتمي ليكون تطبيقه منسجما مع روحه وروحه مع نصه ونصه مع الديمقراطية. لكن الأسوأ من عدم تعديله هو تعديله من زاوية الصلاحيات والحصص الطائفية لا من زاوية التوازن الدستوري. فلا قيمة لأي تعديل للطائف خارج سد ثغراته التي ظهرت أثناء التطبيق طوال ثلاثين سنة ليكون لنا دستور يعيد الفصل بين السلطات ويحدد الناظم في ما بينها في الأزمات، ويستعيد المؤسسات من المذاهب إلى الدولة عل لبنان يصبح موحدا وقابلا للحكم والنمو والحياة.

ما عدا الطرف السني، سائر المكونات اللبنانية تحبذ تعديل اتفاق الطائف، حتى أن البعض طرح عقد مؤتمر تأسيسي. حين ورد اتفاق الطائف إلى لبنان، وصفته حركة أمل بـ"المشروع الترقيعي". واعتبره حزب الله "استسلاما للمارونية السياسية وإسرائيل" (12 كانون الأول/ديسمبر 1989). ورأى فيه وليد جنبلاط "محطة تنقل الصراع العسكري الى العمل السياسي" (27 تشرين الثاني/نوفمبر 1989)، ليعترف لاحقا أن "الطائف انتهى، ونحن بحاجة الى طائف جديد بين السنة والشيعة، أي إلى تسوية جديدة" (ندوة حوارية في "مركز أصدقاء كمال جنبلاط" 15 شباط/فبراير 2012). وقال عنه العماد ميشال عون إنه "خيانة لبنانية وفشل عربي ودولي" (21 كانون الأول/ديسمبر 1989). ووجد فيه البطريرك صفير "أهون الشرور ولا أعارض تعديله نحو الأحسن" (جريدة "دايلي ستار" 10 تشرين الأول/أكتوبر 2010). وصرح الرئيس نبيه بري أن "الطائف مليء بأسئلة الاستفهام في مضمونه، وهو ليس كتابا مقدسا، لكن أي تعديل عليه يجب أن يتم وفق الإجماع اللبناني، فالقوانين وضعت لتعدل في ضوء الممارسة الفعلية التي تظهر الشوائب والنواقص والعيوب" (صحيفة "الشرق الأوسط" 07 كانون الأول/ديسمبر 2010).

الحقيقة أن "اتفاق الطائف"، وثيقة ودستورا، تعرض للخرق وللتعديل معا، ولا بد من أن يعاد النظر فيه بتوافق وطني على حد قول الرئيس بري.

خرقت وثيقة الطائف الميثاقية: باغتيال الرئيس رينه معوض، بإبقاء السلاح مع فئة وبجمعه من فئات أخرى، ببقاء الجيش السوري في لبنان حتى سنة 2005، باستمرار الجنوب خارج سلطة الدولة الفعلية، في حرب سنة 2006، بالاحتكام إلى السلاح في الداخل وبخاصة في 7 أيار/مايو 2008، بتعطيل انتخابات رئاسة الجمهورية مرتين على التوالي وبخلق شغور في رأس الدولة، بدعم سنة لبنانيين المعارضة السورية بالمال والسياسة والإعلام والعناصر من جهة، وباشتراك حزب الله في القتال في سوريا إلى جانب النظام من جهة أخرى. إلخ...

وتعرض دستور الطائف للتعديل: برفع عدد النواب من 108 إلى 128 نائبا، بتعيين نواب عوض انتخابهم، باختصار ولاية المجلس النيابي سنة 1992 وإجراء الانتخابات رغم مقاطعة نحو 90% من الشعب المسيحي، بتقسيم الدوائر الانتخابية حسب إرادة الاحتلال السوري ثم حسب مصالح قوى محلية، بإقدام السلطة على توطين ربع مليون غريب من خلال مرسوم التجنيس سنة 1994 خلافا للتوازن الوطني والطوائفي وخلافا لمقدمة دستور الطائف (لا للتوطين)، بقرارات "مؤتمر الدوحة" سنة 2008، وبالتمديد ثلاث مرات للمجلس النيابي السابق. إلخ...

ومع أن الأطراف اللبنانية باتت، علنا أو ضمنا، مقتنعة بوجود إشكال تقني وتطبيقي في اتفاق الطائف، لا يزال الجميع مترددين في فتح هذه الورشة الدستورية. فكل طرف يخشى أن يخسر في التعديل ما بقي له أو ما هو حاصل عليه دستوريا أو أمرا واقعا. كما لا يوجد أحد في لبنان قادرا على رسم حدود التعديلات في مرحلة إعادة النظر بالأنظمة والكيانات وبتقرير مصير شعوب المنطقة.

لكن، أليست هذه هي الفرصة التاريخية لطرح مصير لبنان بعدما فشلت التجربة الحالية؟

لا نخف المواجهة، فقليل من الشجاعة ينقذ لبنان.