المدن الغبيّة والثورة

يتظاهر العشرات في العراق على خراب يطال حياة الملايين.

لا يوجد مصطلح لليوم تحت مسمى المدن الغبيّة، لكن هناك مصطلح شائع اليوم تحت مسمى المدن الذكيّة. والمدن الذكيّة مصطلح ظهر للوجود بداية الألفيّة الثالثة ليعرّف وسائل التطوير وتنوعها في مدن حديثة الانشاء، أو تطوير البنى التحتية لمدن قديمة كي تواكب عملية تطور التقنية الرقمية وأثرها في التحوّل لمدن ذكيّة. والتقنية الرقمية تدخل في صلب بناء المدن الذكيّة، من النواحي الإقتصادية والإجتماعية والسياسية وتوفير الخدمات من ماء وكهرباء وشبكة عنكبوتيّة وشبكات صرف صحّي وشبكات طرق سريعة وآمنة والأهم من ذلك هو تحويل سكّان هذه المدن من خلال منظمات المجتمع المدني الى "سكّان أذكياء"، ليساهم السكّان الأذكياء هؤلاء من خلال مشاركتهم في صناعة القرار دون مسؤوليتهم في إتّخاذه، أي يكون القرار من أسفل الى أعلى وهذا ما يطلق عليه النمو الذكي. وبشكل عام ليس هناك تعريف محدّد وثابت لما يُعرف بالمدن الذكيّة، والتعريف قابل للتطور والنمو نحو مفهوم الأستدامة.

كان من الضروري كتابة المقدّمة القصيرة أعلاه بالاستفادة من الويكيبيديا قبل الانتقال لصلب الموضوع رغم قسوة العنوان والموضوع، والذي هو من شقّين هما المدن الغبيّة في بلدنا العراق ومفهوم الثورة فيه.

في ظل الظروف المأساويّة التي يعيشها بلدنا وشعبنا، لا أرى هناك ضرورة مطلقا لتلطيف الكلمات والأصطلاحات ونحن نقيّم تجربة سياسية أجتماعية أقتصادية، هي من أسوأ التجارب التي مرّ بها بلد ما على مرّ التاريخ الأنساني. تجربة فاشلة وفاسدة يقودها ساسة فاشلون وفاسدون حد النخاع، نهبوا ثروات وأموال كانت كافيّة في أن تحول العراق بأكمله الى بلد ذكي وليس بعض مدنه الى مدن ذكيّة. بل على العكس فالضرورة هي أستخدامنا لأكثر المصطلحات قسوة لمحاكمة هؤلاء الساسة اللصوص من جهة، وجماهير شعبنا وهي تتحول تحت وطأة الدين الى سكان أغبياء مقارنة مع السكّان الأذكياء الذي جئنا على ذكرهم قبل قليل.

بلا شك فأنّ أطلاق مصطلح "المدن الغبيّة" على المدن العراقيّة كافّة هو مصطلح قاس بل وقاس جدا، ولكنه حقيقي ومتكامل من الناحية النظرية والعملية. فالمدن العراقيّة تفتقد الى كل أشكال الخدمات التي توفّرها أية مدينة لقاطنيها، أو التي من المفروض أن تقدمها المدن لقاطنيها. وهنا قد يبرز رأي يقول لكن هناك الكثير من البلدان بالعالم فيها مدن تعاني نفس ما تعانيه المدن العراقيّة وهذا صحيح لحدود كبيرة، لكن هل دخلت خزائن هذه البلدان خلال الخمسة عشر سنة الماضيّة أموال تقدّر بالف مليار/ترليون دولار!؟ كما وأنّ إطلاق مصطلح سكّان أغبياء على ساكني المدن الغبيّة، لا أراه مصطلحا قاسيا بالمرّة، بل هو الأقرب الى الواقع إن لم يكن الواقع نفسه. فتظاهر العشرات مثلا إحتجاجا على الانقطاع المستمر للتيار الكهربائي ومئات الآلاف يجلسون متفرجين منتظرين حلول من السماء، هو شيء من الغباء في سكان تلك المدينة الغبيّة. وتظاهر العشرات فقط على شحّة المياه ورداءة نوعيتها مقابل صمت الغالبية العظمى من سكّان تلك المدن الغبيّة دلالة على غباء القسم الأعظم من ساكني تلك المدن. وهذا ما نراه اليوم تحديدا في مستوى التظاهرات والتجمعات والأعتصامات البائسة مقابل حجم الخراب الذي شمل كل شيء والأزمات التي تتناسل يوميا.  

منذ أيّام طرح أو أستخدم بعض الساسة والكتاب والمثقفين ونتيجة للأزمنة الخانقة للكهرباء والماء آراء لم تُطرح سابقا بهذا الوضوح رغم حاجتنا الماسّة اليها لتغيير واقعنا المأساوي. فعلى سبيل المثال ونتيجة لسوء الأحوال الخدمية والمعاشية وإزدياد مساحة البطالة والفقر، طرح البعض مصطلح الانتفاضة باعتبارها وسيلة من وسائل النضال المشروعة في طريق تحقيق العدالة الاجتماعية وبناء دولة مدنية عصرية حديثة، وآخر طرح مفهوما أبعد من ذلك وهو الثورة، الا أنهّ عاد ليقول من أنّه لا يقصد الثورة بمفهومها المتعارف عليه!

أنّ ما يجري ببلدنا اليوم بحاجة الى ثورة حقيقية بكل معانيها وتفاصيلها ومفاهيمها المتعارف عليها. ثورة شعبيّة عارمة تضع حدا لنظام المحاصصة وتقبره للأبد، ثورة تضع حد لسلطة رجال الدين والمؤسسة الدينيّة اللذين ساهما مساهمة فعّالة بدمار بلدنا نتيجة إحتضناهما لأكثر الأحزاب عمالة وفسادا أي الأحزاب الأسلامية. نعم، نحن بحاجة لثورة للحفاظ على ما تبقى من بلدنا وشعبنا، فلم البحث عن مصطلحات ومفاهيم تقترب منها بخجل. أنّ ما جرى ويجري بالبلد منذ الاحتلال لليوم كان كفيلا في أن تكون هناك أكثر من ثورة ضد رموز الفساد وخونة البلد. ويبقى السؤال الكبير هو من هي الجهة التي ستقود هذه الثورة؟ لتفعلها الجماهير الذكيّة اولا وهي نفسها قادرة على صناعة قادة ميدانيين، وأي كانت نتائج هذه الثورة فأنها ستكون أفضل حالا ممّا نعيشه اليوم.