'المدير' رواية تسلط الضوء على العلاقة المدمرة بين الإنسان والبيئة
تُكرس ثلاثية "أمنا" للروائية والمؤرخة البرتغالية آنا فيلومينا آمارال، والتي تُرجمت أعمالها إلى أكثر من عشر لغات، لمواجهة القضايا البيئية، والبحر هو المكان الرئيسي للجزء الأول "المدير"، لأنه الأكثر تهديدا، حيث لم يعد بالإمكان تنظيف مياه البحار والمحيطات، التي تلقى فيها مخلفات البلاستيك بتركيبتها الكيميائية الخطرة. لقد سمعنا جميعا عن الحيتان التي تموت من تناول البلاستيك، والشواطئ المغطاة بالبلاستيك، والجزر البلاستيكية في المحيط. والجزء الثاني من "الجليد" خُصص للقطب الشمالي ومشاكل ذوبان الجليد، والثالث "الصحاري" حيث يدور في الصحراء الكبرى، مع الدراما الإنسانية والبيئية التي تنطوي عليها انطلاقا من تفشي ظاهرة التصحر.
الثلاثية التي ترجمت جزأها الأول "المدير" رولا عادل رشوان وصدرت عن دار صفصافة، تأتي انطلاقًا من قناعة الكاتبة بأن الكلمة سلاح، وأن أولئك الذين يستخدمونها يجب أن يناضلوا بها من أجل قضايا حاسمة لخير البشرية. وفي هذا الجزء تُظهر كيف أن الدراما الكبرى في العصر الحالي مرتبطة في الواقع، ومحددة بأفعال وخيارات الإنسان الخاطئة. ومن ثم تستكشف كيف تنعكس الأزمات والأحداث التي يلعب الإنسان الدور الأبرز في صنعها على مستقبله ومستقبل الأرض، مثل تدمير المحيطات والإبادة الجماعية للأرمن والفساد الذي بلغ أعلى مستوياته، وأوضاع اللاجئين، والجشع المفترس الذي يعتبر أكبر تهديد لكوكب الأرض.
على مستوى آخر تتعامل "المدير" مع موضوع الخلود كما في ملحمة جلجامش وتطرح تساؤلات حول الإرث الذي تسعى البشرية إلى تركه، وتنطلق صفحاتها الأولى من موضوع المضايقة وإساءة استخدام السلطة من قبل المسؤولين. فالمدير هو شخصية قوية نافذة، تجسد الاستغلال والجشع وإساءة استخدام السلطة. هذه الشخصية مستوحاة جزئيًا من شخصية حقيقية عرفتها آمارال، كما أنها تحمل أوجه تشابه مع الملك الطاغية جلجامش في الملحمة السومرية القديمة.
ومن ثم فإن الرواية لا تقتصر على البعد البيئي فحسب؛ إذ تتشابك فيه قضايا اجتماعية وإنسانية أخرى، فجزء كبير منها مستوحى من ملحمة جلجامش، تقول آمارال إن "ملحمة جلجامش كانت أول ملحمة جاءت إلينا من سومر قبل 4000 عام، مكتوبة على 12 لوحا طينيا. كان جلجامش هذا ملكا وطاغية وطاغية، أينما ذهب ترك أثرا من الدمار والموت. قررت الآلهة، الغاضبة من توحشه، إرسال شخص إلى الأرض يمكنه التغلب عليه والتخلص منه بطريقة ما، فأرسلت إنكيدو، الذي يجسده هنري في الرواية".
تبدأ الرواية بالإشارة إلى قضية التحرش الجنسي وإساءة استخدام السلطة، مما يضع القارئ مباشرة أمام أحد المواضيع الهامة التي تتناولها. يُنظر إلى "المدير" كنموذج يجمع عيوب العالم الحديث. في المقابل، تظهر شخصية "هنري"، التي تُمثل "إنكيدو" في ملحمة جلجامش. يُنظر إلى هنري كقوة يمكن أن تتحدى "المدير" وربما تقوده إلى الاختفاء. من خلال هذه الثنائية، تستكشف الرواية إمكانية التغيير والأمل في مواجهة الفساد.
هكذا تحمل الرواية في طياتها رسالة "تستفز" و"تُقلق"، كونها تسلط الضوء على العلاقة المدمرة بين الإنسان والبيئة، وخاصة البحار التي تعتبر مسرح الأحداث الرئيسي في هذا الجزء الأول من الثلاثية. حيث تستخدم آمارال صورة الحوت المحتضر المحاط بأكياس البلاستيك على غلاف الرواية كرمز قوي للتلوث الذي يفتك بالحياة البحرية. ومن خلال هذا المشهد المؤثر، توجه الكاتبة انتباه القارئ إلى المأساة الحالية التي تهدد البيئة البحرية، مشيرة إلى أن مياه البحار والمحيطات أصبحت مشبعة بالبلاستيك وأن الكائنات البحرية تدفع ثمن هذا التدهور.
وتؤكد آمارال على أن الأدب بالنسبة لها هو "فن ورسالة"، وأن جميع كتبها تحمل رسالة تهدف إلى إثارة التفكير والمواجهة لإحداث تغيير. إنها لا تكتب لقراءة مريحة على الشاطئ، بل تكتب لتقلق القارئ وتحفزه على إعادة النظر في أفكاره وسلوكياته. وتعتبر أن تحقيق الوعي لدى القراء ودفعهم لتغيير عاداتهم هو "أكبر مكافأة" لكتابتها.
أخيرا فإن "المدير" رواية متعددة الأوجه، تستخدم قصة رمزية لاستكشاف قضايا معاصرة ملحة مثل التدهور البيئي والفساد وإساءة استخدام السلطة، مع إبقاء بصيص من الأمل في إمكانية التغيير. البحر ليس مجرد خلفية للأحداث، بل هو شخصية رئيسية تعاني من أفعال الإنسان.
مقتطف من الرواية
لم يخَف "هنري" من أي شيء، لكن الليل عذَّبه كثيرًا، ربما ساعدته الموسيقى آنذاك في التَّغلُّب عليه. لطالما احتفظ بقرن الوفرة في يديه، لم يستطع الخلود إلى النوم بدونه، كان يطلق عليه اسم "يو". كان "هنري" قويًّا وعريض الجسم، ولقد فضَّل الماء على كل شيء، أحبَّه كما لو أنه فكَّر أنه يحتاج دائمًا إلى تطهير نفسه أو الاغتسال من قاذورات علقَت به، كنا دائمًا ما نجده في المسبح إن افتقدناه بعد وقت الدراسة، حتى إنه حاز بالفعل العديد من الميداليات الذهبية في مسابقات السباحة. التحق "هنري" بمدرستنا في فترتها الذهبية، قبل وقت قصير من قيامنا بتحويل إحدى غرف الطعام الضخمة إلى حمام سباحة، وبعض الخلايا إلى فصول دراسية ومكتبة، لقد بذلنا جهدًا حقيقيًّا لمصلحة طلابنا آنذاك. أما الآن فقد انخفض عدد طلابنا جدًّا، ولم نعُد نُدعِّم التعليم في الجامعة، بل إنني أعلم على وجه اليقين أننا سنغلق أبوابنا عاجلًا أم آجِلًا، وسنبقى أنا وإخوتي الرهبان وحدنا، وسنعود إلى أصولنا حيث كان المكان مجرد دير يأوي النُّسَّاك.
ـ أمرٌ مؤسِف، لأنكم بالتأكيد قد صنعتم رجالًا عظماء هنا، مثل "هنري". أتمنى من السيد المدير أن يخبرني أشياء أخرى عنه، فأنا أعرف عنه أقلَّ القليل، والآن، بعد هذه المأساة، لا أدري ما إذا كانت ستتاح لي الفرصة...
ـ كل مَن يولَد يموت، عزيزتي "أرمينا"، دعيني أخفِّف عنك بتأكيد هذه الحقيقة، لا بُدَّ أنَّكِ امرأة عظيمة حتى يختارك "هنري"، فلنَثِقْ بالرب، فلديه الكثير ليفعله ويقدِّمه. كانت خليَّتي بجوار الخلية التي شغلها "هنري" طوال فترة وجوده هنا، وهكذا علمتُ بشأن أحلامه المضطربة، كان يستيقظ صارخًا وينام دائمًا في وضع الجنين، لا يتمدَّد على السرير أبدًا، وكأنه يحمي نفسه من شرٍّ ما، يحاول إيجاد مأواه في رحِمٍ ما دون وعي منه. في بعض الأحيان كنت أستيقظ وأنظر من خلال فتحة صغيرة في باب خليَّته، لكنني لم أجرؤ على الدخول لأنني كنت أعرف أنه لن يسمح بأي اتصال جسدي، أو أي محاولة للترويح عنه، أو أي طمأنةٍ يمكنني أن أقدمها، حتى إنني أظن أنني لم أصافحه أبدًا، إلا في زيارته الأخيرة إلى هنا قبل ثلاث سنوات. كان "هنري" طفلًا مضطربًا للغاية في نفسه، في روحه، إثر حدث فظيع جدًّا، فظيع جدًّا لدرجة أنه قد مُحِي من ذاكرته حتى لا يُسبِّب له المزيد من المعاناة. جسم الإنسان هو آلة مثالية، فعندما يكون الألم مبرحًا للغاية، نتوقَّف عن الشعور به. وربما قد حان الوقت أخيرًا له ليرتاح، يكفي عذابًا يا "هنري"، ارتَحْ وسنعتني نحن بـ"أرمينا" وطفلكما...
ـ اسمها "ماري".
ـ حسنًا، ستحلِّين ضيفة عندنا اليوم، أنتِ متعَبة جدًّا فلا أظنك قادرة على رحلة العودة اليوم، لا نستقبل السيدات ها هنا عادة، لكن أنتِ حالة خاصة جدًّا، وسنعتني بك إذا قَبلتِ ضيافتنا.
ـ أشكرك شكرًا جزيلًا، لأنني حقًّا مرهقة ولا أستطيع تخيُّل الرحلة الصعبة التي تنتظرني، حتى إنني أشعر بـ"ماري" مضطربة جدًّا داخل رحمي. شكرًا لك على كل شيء، سيدي المدير.
ـ "أرمينا"، أرجوكِ أن تعامليني كأخ. "فرانسيس"، هذا اسمي، وأنا فخور جدًّا به، لأنني أحمل اسم أبي الكنيسة العظيم، "آنالوس بيسكاتوريس"، حامل خاتم الصياد، الفضي لا الذهبي، الذي يمثِّل عظيم تواضُعه وعظمته. هيا بنا الآن، سأعرِّفك على العشاء على الإخوة الآخرين الذين سيكونون سعداء جدًّا بلقاء السيدة "هنري"- عبَّاد الشمس، ستنزلين في خليَّته التي اعتاد الإقامة فيها، إنها فارغة الآن مثل العديد من الخليات هذه الأيام، ستجدين هنا من يمنحك التهدئة والراحة. كما تعلمين، لا يستطيع الكثيرون تحمُّل الإقامة في المرتفعات، ومن ثم فإن كوننا سكان جزيرة في جوار آخرين قريبين جدًّا بحيث يبدو أنهم على مسافة قفزة صغيرة، لكن إقامتنا بعيدًا عن البحر، لا نملك سوى كهوفنا الخاوية، يمنحنا الإحساس بأنا لا ننتمي إلى هذا العالم، ربما لأننا في منتصف الطريق بين العالمين. اذهبي واستريحي يا "أرمينا"، سأبدأ جولاتي الآن.
ابتسم بلُطفٍ، وقادها إلى حجرة صغيرة بها سرير ضيق، وطاولة بجانب السرير، وصدع صغير في الجدار، لا يمكن أن يُعدَّ نافذة بحال، يدخل عبره الهواء وبعض الضوء. ترى أي أسهم قد أطلقتها ذاك اليوم وأي أهداف ستصيبها؟ استلقت "أرمينا" على السرير الذي كان يشغله "هنري" لسنوات عديدة، قاسٍ ولكنه مريح، وسرعان ما نامت دون أن تفكر في أي شيء آخر، ممسكة بـ"ماري".
كانت ترتجف، ترتجف كثيرًا، ملتصقة بالشجرة التي وقَفَت أسفل الهضبة، تضربها الرياح وترتطم بالصخور. استيقظت على صوت الباب الذي كان يدقُّ، بينما تصرخ العاصفة بشدَّة عبر الصدع في الحائط، لو كان هناك زلزال في ذلك المكان لكان هؤلاء العمالقة الحجريون قد فرُّوا عبر المناظر الطبيعية، أو دفنوا أنفسهم في الأعماق التي أتوا منها، أو هربوا إلى القمر، وملؤوا فوَّهاته وسكنوها في تزاوُجٍ كونيٍّ جريء يولد جنة عدن جديدة.