الموت ليس هو نهاية القصة

من الطبيعي أن يتماهى الإنسان مع أفكاره، ومن المنطقي أن يتحلى أصحاب الدعوات الكبرى بفضيلة المرونة، والاستعداد بخطط بديلة.

كثير من الناس يظن أن الموت الذي يضطر الإنسان على إثره مغادرة منزله في الدنيا ليتخذ له مقاماً آخر في باطن الأرض، هو نهاية القصة لأحد مكونات السلسلة البشرية، فيُسدل ستار مسرحه، وتخفت الأضواء إيذانا بنهاية العرض، وينصرف الجمهور، ويحمل كلٍ منهم انطباعه الخاص عن القصة وبطلها، فمنهم من كان واضحاً، مقتنعاً بأداء البطل، متفاعلاً بإخلاص معه، مُقترباً من أفكاره متعايشاً معها، مستفيداً بها في حياته العامة، ناشراً لها لإفادة الجميع، ومنهم من كان غامضاً، متلوناً، يتفاعل مع البطل، ويهلل لسكناته وحركاته، بالقدر الذي يعود عليه هو شخصياً بالمنافع والعطايا، فلم يُلق بالاً منذ البداية للأداء، ولا يهتم أصلاً بالأفكار، إنما هي الانتهازية المقيتة بوسائلها المنقضة على الفرص، المُحلقة دوماً في سماء البطل الذي إن غيبه القدر، بحث صاحبها عن قصة أخرى، وبطلٍ جديد لاستنزافه.

البطل الذي أتحدث عنه هو رجل من الطراز المنتمي لعالم الاحترام، وفي ستينيات القرن الماضي قرر الاصطدام مع الواقع، وهو في ذلك كغيره من قدامى الوطنيين والمثقفين والفلاسفة الذين وضعوا أياديهم على موضع الخلل في النظام العربي، الذي كان قائماً عندئذ، ولم يزل، فإن كان عبدالرحمن الكواكبي، أطلق صرخته مبكراً بكتابه "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"، دون مواجهة يستحق معها العقاب، فإن رجلنا هذا أطلقها مباشرة مدوية بلا مواربة أو تجميل، وتحمل النتائج التي وجهت لشخصه، فقد رأى في حينه أنه قد آن الأوان لتلتحق الدول العربية بالدول الديمقراطية الغربية، إن رغبت أنظمتها حقاً في التقدم والازدهار، وكانت تلك الدعوة في حينها غريبة، لصدورها ممن ينتمي إلى أسرة تمثل الملكية العربية المطلقة، كما أنها جاءت في الوقت الذي كانت الدول العربية تنفك فيه من الحكم الاستعماري لصالح الحكم العسكري الذي اتخذ من الثورة ضد الرجعية والاستعمار شعاراً يُطبقه من وجهة نظر قاصرة تبتعد بعنف عن الأخذ بأي خيار ديمقراطي لممارسة الحكم.

لم تلق دعوته تفاعلاً كافياً، من النُخب الحاكمة، كما أن الشعوب بدت وكأنها فوجئت برحيل الاستعمار، ولم تكن قد تهيأت بعد لتحمل مسؤولية حكم نفسها بنفسها، وقد أحزنه هذا الواقع المرير، حيث تميزت تلك الحقبة من الزمن بتخبط السياسات، وتعرضت العديد من دول المنطقة إلى انقلابات عسكرية متتالية، للمدى الذي لم تكد الشعوب تغفوا فيه ليلاً إلا وتستيقظ على انقلاب جديد في الصباح، وهو الأمر الذي لم يحمل في طياته أي طيف للديمقراطية، فالديكتاتورية تشكلت وسادت، وإن تعددت صورها، ولم تبد في أي وقتٍ مضىأ، وحتى وقتنا الراهن، أي بادرة عن نيتها الرحيل، بل ما زالت على إصرارها أن الشعوب العربية غير ناضجة للتحول الديمقراطي، رغم مرور أكثر من ستون عاماً، ولا أحد يعلم متى ولا الجهة التي ستُقرر أن شعوب العرب قد نضجت وأينعت، اللهم إلا ما نسمعه من وعيد متكرر عن رؤية رؤوساً قد أينعت وحان قطافها، وإن تعدد أصحابها!

من الطبيعي أن يتماهى الإنسان مع أفكاره، ومن المنطقي أن يتحلى أصحاب الدعوات الكبرى بفضيلة المرونة، والاستعداد بخطط بديلة، وهكذا كان بطلنا، فحين دعا للإصلاحات، كان يعلم يقينا أن مردودها، إذا ما صادفت دعوته استجابة، سيكون بلداناً مزدهرة وشعوباً متحضرة سعيدة، أي أن دعوته كانت منذ البداية لصالح الإنسان، أينما وكيفما كان، وحين تأكدت له حقيقة انغلاق الأبواب أمام دعوته، قرر السير منفرداً في تنفيذ رؤاه مبتعداً عن السياسة، متجنباً بذلك رفض العقول التي لم تكن تشاطره ذات الأفكار، فأراح واستراح.

أراد الواقع العربي أن يدفعه إلى اليأس، فكان ذلك دافعاً له لإطلاق طاقاته التحررية عبر وسيلة هادئة وفي ذات الوقت هادفة إلى تحقيق خير الإنسان، البداية كانت مُجرد منظمة تنموية صغيرة في حجمها شق بها طريقاً متميزاً بين المنظمات الأممية والإقليمية التي تعمل في مجال التنمية البشرية، بدءاً من الاهتمام بالأم وطفلها، مروراً بالحد من آثار الفقر المدقع ببنوك وظيفتها فقط تمكين المعدمين من كسب رزقهم، انتهاءً بإتاحة التعليم العالي برسوم رمزية لمن حالت ظروفهم الاجتماعية والاقتصادية عن استكمال دراستهم الجامعية.

تلك المحاور الثلاثة الرئيسية في طريق تنمية الإنسان، ذكرتها إجمالاً دون تفاصيلها التي تستحق الإعجاب، نتج عنها كيانات حقيقية قائمة في مختلف الدول العربية والإفريقية، يزداد عطائها يوماً بعد آخر، وهي جميعها لا تحمل اسم بطل قصتنا، فقد كان مترفعاً عن التكريم الشخصي، زاهداً في المناصب، مكتفياً بغرس الأشجار ليستفيد الجميع من ثمارها، ونثر الأزهار فيملأ الدنيا رحيقها وعبقها.

عن طلال بن عبدالعزيز أتحدث، وها هو عام يمر على وفاته، رحمه الله، غاب عن دنياناً بجسده، ولكن قصته لم تغب، ففصولها ممتدة ما بقيت الحياة، وذكراه باقية فهو بيننا وإن افتقدناه.